ألقى المؤتمر الخامس عشر لمجموعة بريكس الذي عقد مؤخرا، مزيدا من الضوء على هذا التكتل، وكان الاهتمام منصباَ حول التوجهات السياسية له، على الرغم من أن الجانب الاقتصادي كان هو الصفة الطاغية عليه قبل الاجتماع الأخير. وربما يُعزى ذلك إلى الظروف الدولية الراهنة في ظل الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا، والمحاولات الأمريكية لتطويق الصين، وفي ظل رغبة العديد من الدول بالانضمام الى المجموعة، بات التساؤل الذي يطرح نفسه هو، ما الذي تطمح اليه البريكس سياسيا؟ وهل تريد الدول الانضمام إلى البريكس لأسباب اقتصادية بحته فقط؟ أم أن هناك واقعا سياسيا جاذبا باتت البريكس تبشر به؟
لقد تم اعتبار القمة الأخيرة أهم اجتماع لمجموعة بريكس، وهذه الأهمية أتت من أن النقاش لم يكن مقتصرا على موضوع التوسعة، أو ما يتعلق ببنك التنمية، أو العملة الموحدة، أو العملة البديلة، بل كان البحث في استراتيجية البريكس المستقبلية من أهم الملفات التي جرى تناولها. وكان السؤال المطروح هو، هل البريكس تجمع حيادي للدول الأكثر نموا، أم سيصبح تكتلا سياسيا؟ ويبدو أن موقف الصين كان مع الاتجاه الأخير، حيث تريد أن تُعدّل من استراتيجية البريكس. فيما ترى كل من الهند والبرازيل ضرورة الإبقاء على استراتيجية البريكس الحالية، حتى لا تذهب المجموعة إلى آلية التنافس مع مجموعة السبع أو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لذلك كانت هاتان الدولتان ضد توسيع المجموعة وقبول أعضاء جدد. ويبدو أن الولايات المتحدة دخلت على الخط من بوابة الهند لعرقلة الخطط الصينية في التحول السياسي، بعدما أدركت مبكرا أن البريكس متجه نحو التنافس مع المنظومة السياسية الغربية، لذلك رأينا واشنطن تدعو الهند العضو المؤسس للبريكس إلى اجتماعات مجموعة السبع في اليابان مؤخرا، ثم بعد ذلك قمة أمريكية هندية تم التوقيع فيها على اتفاقيات استراتيجية كبيرة. وقد انعكس ذلك بشكل تضاد هندي مع الموقف الصيني، وضد توجهات بكين الحالية في تحويل البريكس لتكون منافسا جيوسياسيا للمنظومة الغربية، أو لمجموعة السبع أو التكتلات الأخرى.
ما يهم واشنطن والغرب هو أن لا يتحول هذا التجمع إلى تحالف سياسي عسكري اقتصادي، لأن تحوله إلى هذا الشكل يعني أن المواجهة بين الطرفين ستكون حتمية
وهنا لا بد من القول بأن الولايات المتحدة والمجموعة الغربية، تتقبل فكرة أن يكون هناك منافس اقتصادي، هذا الأمر أصبح حتميا بالنسبة لهم، لأن فكرة وجود قوة اقتصادية وحيدة تقود العالم باتت غير مطروحة الآن، لذلك ما يهم واشنطن والغرب هو أن لا يتحول هذا التجمع إلى تحالف سياسي عسكري اقتصادي، لأن تحوله إلى هذا الشكل يعني أن المواجهة بين الطرفين ستكون حتمية. وهذا ما جاء في خطاب الرئيس الصيني في القمة الأخيرة عندما قال، نحن على أعتاب حرب باردة جديدة، بمعنى أن التكتلات التي كانت قائمة في حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة قد تعود مستقبلا، وهذا السيناريو لا أحد يريده أن يحدث مرة أخرى، ومع ذلك فإن هذا التكتل ما زال يفتقر إلى الفلسفة الدولية له، هل هو خلف لتجمع دول عدم الانحياز؟ هل له عقيدة واضحة المعالم مضادة للغرب؟ وهل يمكن أن يكون مُحرّكا لنظام عالمي جديد في المرحلة المقبلة؟ في الحقيقة لا توجد إجابات قاطعة على هذه التساؤلات لحد الآن، لكن ربما يُعدّل الاتجاه فيه توجهات الدول الأعضاء في المجموعة، ومنها دول عربية تدعو إلى الكسب من كل التحالفات وليس عمل استقطابات، كما أن هنالك إدراك غربي، خاصة في المملكة المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بأن الهيمنة الأمريكية على نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا بد من إعادة صياغتها، لتقبل بتعدد العلاقات الدولية، بمعنى من هو صديق الصين، ليس شرطا سيكون عدوا لواشنطن والغرب. ويبدو أن مصر والسعودية والإمارات تعتمد هذه السياسة اليوم، أي صداقة واستفادة من الجميع، خاصة أن أساس العلاقات الدولية هي العلاقات الاقتصادية، ثم تُضاف إليها الأمور الأخرى المساعدة.
وهنا يجب القول بأن قبول السعودية والإمارات في مجموعة بريكس لا يعني بتاتا أنهما خرجتا من العباءة الأمريكية، فليس لديهما ذلك الهامش الكبير من الحركة التي تجعلهما يتخليان تماما عن الغطاء الأمريكي، فالدفاعات الجوية لهاتين الدولتين هي أصلا مؤمّنة من قبل القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة. كما أن هنالك شراكة استراتيجية قوية جدا بين الرياض وأبوظبي من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية. صحيح أن هناك فتورا في العلاقة، لكن يمكن أن يكون التوجه نحو بريكس هو رسائل موجهة من قبل هاتين الدولتين إلى الولايات المتحدة، بأنهما ترغبان في تنويع علاقاتهما الدولية وشراكاتهما الاستراتيجية. فدول الخليج عموما والرياض وأبو ظبي خصوصا تتاجر مع الصين، وبالتالي من الطبيعي أن تكون لهما علاقات قوية مع بكين، لذا يبدو أن ما تريده السعودية وأبوظبي هو التكتل الاقتصادي، وليس التكتل السياسي الموجّه ضد الولايات المتحدة والغرب، لأن روابطهما بهاتين الأخيرتين أقوى بكثير من تلك التي تربطهما مع البريكس. كما أن جنوب افريقيا هي الأخرى تدافع بقوة عن عدم انحيازية بريكس. وقد أكد رئيسها على عدم انجرار بلاده إلى منافسة القوى العالمية، إلا أن الأدبيات السياسية المروّجة لبريكس تقدمها كمشروع واعد لإعادة هيكلة النظام الدولي، كما أن الصين وروسيا تعتبران بريكس من أدوات توسيع النفوذ، لذلك هما دعمتا بقوة ضم كل من إيران والجزائر، رغم أن الأخيرة لم تنضم. وهذا ما يُضفي على مجموعة البريكس بُعداَ جيوسياسيا يلقي ظلاله على أهدافها الآنية المباشرة، التي تدافع عنها روسيا بشكل خاص لمواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها، ومن ذلك مثلا زيادة دور العُملات الوطنية في التبادلات التجارية، وتعزيز إمكانات بنك بريكس للتنمية الذي يُطرح كبديل للبنك الدولي.
يقينا أن إضافة ستة أعضاء جدد الى المجموعة يُشكل مُنعطفاَ مهماَ، لأنه في السابق كان هنالك توجه برفض التوسعة، خشية أن تتحول المجموعة إلى مجرد كيان غير فاعل، لكن في نهاية المطاف يبدو أن رأي الصين هو الذي غلب، من أجل تشجيع خططها في طريق الحرير وموقعها العالمي، والهند والبرازيل وافقتا على التوسعة، وعند النظر إلى طريقة اختيار الأعضاء الجدد، يتضح أنه تم على صعيد قاري، فقد تم اختيار دول من أمريكا الجنوبية وافريقيا وآسيا، من بينها دول غنية لها حصة في الطاقة العالمية كالسعودية والإمارات، ودول لديها ديموغرافيا وتأثير جيوسياسي مثل مصر وإثيوبيا. ويبدو أن كل هذا كان محسوباَ بدقة من أجل إعلاء الشأن السياسي للمجموعة، كما أنها رسائل موجهة للولايات المتحدة، التي تهدف الى تطويق الصين في بحرها الجنوبي، فأدخلت بكين حلفاء لواشنطن من منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا إلى مجموعة بريكس من باب الضغط عليها، فكلما ضغطت الولايات المتحدة على الصين من خلال أحلافها العسكرية والأمنية في منطقة المحيطين الهادي والهندي، كان هنالك ضغط لتجمع بريكس في الشرق الأوسط والقارة الافريقية، على حلفاء الولايات المتحدة، الأوروبيين، الذين يعتمدون على افريقيا تاريخيا في الثروات والموارد الطبيعية.
أخيرا، إذا كانت الدوافع السياسية هي السبب الرئيس وراء هذا التوسع، فهل تستطيع هذه الدول مجتمعة التخلص من التبعية للغرب ومؤسساته التقليدية؟