لعل عنوان المقال يذكر بعض الشيء بعنوان كتاب أكبر أحمد «الإسلام تحت الحصار»، الذي صدر بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وقتها حاول أحمد دراسة وتفسير ما حدث، من خلال العودة نحو بعض النقاشات الفكرية والثقافية عند المسلمين في القرن العشرين، التي لعبت دورا في رسم صورة عن الغربي بوصفه «العدو البعيد»، ولذلك وجد أن على المسلمين أن يحسنوا من فهمهم للغرب بمعزل عن فكرة المؤامرة، وأن يبنوا ديمقراطيات ناجحة، كونها السبيل الوحيد للخلاص من الفساد.
ولعل المضمون ذاته ينطبق على كتاب السوسيولوجية الإيرانية مهناز شيرالي «لغز إيران المعاصرة»، الصادر مؤخرا عن دار جداول، ترجمة أمين الأيوبي. ما تحاول قوله شيرالي في هذا الكتاب، أن إيران اليوم تعاني من حصار الإسلام الخميني، الذي أدخل البلاد في أزمة كبيرة، ويبدو أنها أزمة ستطول وفق ما تراه. فهي خلافا للتحليلات اليومية حول ما يجري من حراك شعبي في إيران ، تبدو قلقة ومتشككة من قدرة الإيرانيين اليوم على أي تغيير كبير، بسبب العنف الذي يمارس من قبل السلطات الإيرانية، وأيضا لفشل النخبة الإيرانية في تقديم بديل إصلاحي بعيدا عن تخوم الديني. إذ ترى أن إشكالية هذه النخب، إما أنها تحاول صياغة إسلام آخر، أو تحاول القطيعة معه، كطريق للتغيير، بينما تعتقد أن كلا المشروعين فشلا في تقديم نموذج بديل، وأن البديل الأمثل يكون في طرح فكرة الدولة الحديثة، والدفاع عن الديمقراطية، بدلا من البحث عن ديمقراطية إسلامية، وفق ما يشتهيه البعض.
تصف شيرالي الصحوة التي عرفتها إيران بدايات القرن العشرين بـ»صحوة الحداثة الجبانة»، إذ كانت «أسلمة» الأفكار الديمقراطية الشغل الشاغل للإصلاحيين، عدا استثناءات قليلة، ومضى البعض إلى حد الاستدلال بالقرآن والسنة لإثبات أن الأفكار الديمقراطية جزء مكمل للفكر الإسلامي، ولذلك فقد صعب على المفكرين الإيرانيين آنذاك تصور مجتمع مستقل يحصر دور الدين في الحياة الخاصة.
وبعيد الحرب العالمية الأولى، وفي ظل حصار لإيران من قبل روسيا وبريطانيا، وجدت النخبة الإيرانية أن الأمة بأسرها متفقة على الحاجة إلى دولة قوية لوضع حد للمصاعب التي عانت منها، وصار دستوريو الأمس يتحدثون عن الحاجة إلى حكومة مركزية قوية، وانزوت فكرة الديمقراطية القائمة على الاقتراع العمومي. وفي منتصف العشرينيات، قدم رضاه شاه إلى السلطة، من أسرة أنجبت كثيرا من الضباط العسكريين، وقد شجع قدومه انتشار الأيديولوجية القومية، فصدرت كتب ومقالات عديدة عن ماضي إيران المجيد المستقل عن الإسلام، ما أذكى باستمرار كراهية رجال الدين ليبلغ ذروته بعد ثلاثينيات القرن الماضي، خاصة بعد أن ألزم الشاه القضاة بأن يكونوا حملة شهادات جامعية، مما أزاح بالتدريج رجال الدين عن المحاكم. وجاء لاحقا ابنه محمد رضا شاه، وقاد أيضا مشروعا إصلاحيا واسعا، وشهدت البلاد في ظله انتعاشا اقتصاديا كبيرا، من بناء مطارات حديثة، وإقامة سدود ومصانع ضخمة، وفتح مدارس وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن المناطق الريفية لم تشهد التحول الذي شهدته المناطق الحضرية، لكن إيران الضعيفة والمتخلفة في مستهل القرن العشرين، والعاجزة عن حماية سيادتها الوطنية في الحربين العالميتين، أصبحت إحدى أقوى الدول الشرق أوسطية. مع ذلك ترى شيرالي أن النظام البهلوي كان ضحية نجاحاته التنموية لا إخفاقاته، فهو بحكم راديكالية الإصلاحات وفاعليتها التي قام بها، قطع شوطا أطول مما كان متوقعا على صعيد تعديل الأفكار الأيديولوجية والسياسية الأساسية للنظام الإنساني والاجتماعي. وكان تأثير ذلك جياشا لم يتوقعه الشاه، ذلك أن القوانين الناظمة للمجتمع باتت مؤطرة بالدستور والتصويت البرلماني، وبالتالي صار المجتمع الإيراني مختلفا عما كان عليه سابقا، وتفطن إلى قوته. ولذلك بدت إقامة نظام حر أمرا لا غنى عنه في حياة مجتمع يشعر بأنه يتغير ويرغب في تغيير نفسه، لكن الشاه رفض ذلك، وعاد وشدد سيطرة الدولة على الاقتصاد، بحيث لم يعد يمكن للقطاع الخاص منافسة القطاع العام، وظل مقتنعا بأن بقاء نظامه يعتمد على سعر النفط أكثر من اعتماده على إرادة الإيرانيين.
ومع انهيار فكرة تأسيس مجتمع مدني مستقل، اندفع المفكرون ورجال الدين والشيوعيون والتجار إلى الإجماع على رغبة واحدة: حرية التعبير العام.
ولذلك أبرم المفكرون والقوميون الليبراليون تسوية مع رجال الدين، عارضوا فيها الحداثة التي حالت دون انبعاث مجتمع مدني حر ومستقل، وأشد ما يثير السخرية وفق تعبير شيرالي، أن كل الذين أملوا بالحرية اعتقدوا أن نيلها ممكن تحت راية رجال الدين. واللافت هنا أيضا أن النخب الإيرانية أخذت تعتقد أنه لا يمكن أن تتعلم شيئا من الغرب، بعد أن صار ينظر إليه كإمبريالي، وأنه يجدر بهم عوضا عن ذلك السعي لإعادة إنهاض النظام ضمن الثقافة الفارسية نفسها المتجذرة في الدين الإسلامي، ولذلك صار الحديث عن العودة للماضي، ومقاومة الحداثة القسرية، موضوعا يظهر باستمرار في مؤلفات المفكرين، مثل مهدي بزركان (1907 ـ 1995) أحد أهم الوجوه الساعية لرد الاعتبار للإسلام، ففي كتابه «البعثة والأيديولوجيا» بيّن أن فصل الجسم عن الروح فكرة خاطئة جاءت من الإغريق الذين لم يكن لديهم أساس إسلامي، لكن سرعان ما ظهر انقسام أيضا بين المثقفين ورجال الدين المحافظين، الذين وجدوا أن إسباغ الديمقراطية على المبادئ الإسلامية أمر سخيف، وأنه يعني ضمنا القبول بفكرة الديمقراطية.
مهناز شيرالي
ظهور الإسلام الثوري
وسيحدث التطور الأهم في مسار الإسلام الثوري، وفقا للمؤلفة، مع قدوم علي شريعتي. كانت شريعتي قد غادر إيران سنة 1959 لإعداد رسالة دكتوراه في السوربون، وعقب وصوله إلى باريس زامل ناشطين تحررين وأصبح صديقا لفرانز فانون. ولم يحتج إلى وقت طويل ليقتنع بأنه لمحاربة الإمبريالية والاستعمار، يلزم الاعتماد على قدرة الدين الإسلامي الهائلة لتعبئة المستضعفين. وقد ذاع صيته في أوساط المثقفين، خاصة أنه أخذ يعلن عن طموحه بتقديم بديل ديني للماركسية. وقد عكست أفكاره، تلك الأفكار التي هينت على إيران في سبعينيات القرن الماضي، إذ بدت في وقت واحد ثورية، وأيديولوجية، ومثالية، ومعادية للإمبريالية، ومناوئه للديمقراطية، وبناء على ذلك شرع شريعتي في صياغة «أيديولوجية دينية» أقرب إلى «أيديولوجية قتالية»، متمحورة حول الجهاد والشهادة. ففي كتابه الشهير «فاطمة هي فاطمة» الأوسع انتشارا في صفوف الشباب، وصف ابنة النبي، ووالدة الإمام الحسين، كما لو كانت محاربة في القرن العشرين. وقد رفض رجال الدين الشيعة تفسير الإسلام على هذا النحو، اذ رأوا فيه هجوما على الدين ومحاولة لإفادة الشيوعية. وكان الخميني الشخصية الرفيعة الوحيدة التي تنبهت إلى القدرة التعبوية الهائلة لهذا الخطاب الأيديولوجي، ولذلك دعا الجماهير إلى تقرير مصيرها بنفسها والعمل لأجل مستقبلهم، لكنه خالفهم بوضعهم تحت توجيه رجال الدين. ظهر التغير في فكر الخميني باستخدامه كلمتي المستضعفين والشهيد. لم تظهر هاتان الكلمتان في مؤلفاته الأولى إلا نادراً، ونعثر على هذا التوجه أيضا في المقابلة التي أجراها الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل مع الخميني ودونها في كتابه «مدافع آية الله»، إذ يذكر هيكل أنه خلال لقائه بالخميني حاول الاستفسار منه عن رؤيته لكيفية إدارة شؤون البلاد، فما كان إلا أن بادره الخميني بالإشارة الى أنه ليس رجل اقتصاد أو إدارة، وأن «الشهيد هو الذي يحرك التاريخ»، وهي مقولة تعود بالأساس لشريعتي.
اللافت هنا أن الخميني في آخر حياته توقع مشكلة تحديد خلفه، فشرع في تعديل مفهومه لولاية الفقه، من خلال حديثه عن فئتين منفصلتين من رجال الدين.. الأولى الأكثر إلماما بالفقه، والثانية الأعرف بالعالم المعاصر، ولاسيما مجالاته الاقتصادية والاجتماعية، وهي المسؤولة عن البت في شؤون الدولة. تعتقد شيرالي أن رجال الدين وبعد استحواذهم على وظائف الدولة، أرادوا الهيمنة على المشهد السياسي وإخضاعه للتعاليم المنزلة، لكن الأمور لم تسر كما اشتهوا، إذ سمح رجال الدين للمشهد السياسي بأن يطغى عليهم فأرغمهم على العمل بموجب منطقه، وبذلك أفرغ الإسلام من محتواه الروحي لحسابات ومساواة سياسيىة. وفي ظل هذا الشعور بالمأزق، اندفع خامنئي إلى البحث عن معركة أخرى توحي بأن النظام يدافع عن حقوق الشعوب المستضعفة (فكرة البرنامج النووي)، وبالتالي لكي يعوض الخمينيون خسارتهم المدوخة للشرعية، أدخلوا المجتمع كله في عالم اللامنطق.
مصير طهران
ترى المؤلفة أن إيران اليوم تعيش لحظة ديمقراطية، وأنه مع تراجع الشرعية الخمينية، تمكن المشهد السياسي من التقدم والهيمنة فارضا قوانينه وشروطه، لكنها تعتقد بالمقابل أن هناك أزمة يعاني منها المثقفون الإيرانيون على مستوى رؤيتهم لطريق الخروج من سيطرة رجال الدين، ومن بين المثقفين الذين تقف عندهم هنا، عبد الكريم سروش الذي نجح في إظهار أن التجربة الصوفية ليست بحال من الأحوال فرارا من واقع الحياة المر، وإنما اكتشاف حقيقي وفي كل الأوقات لعالم الإنسان الباطني، مقابل عالم الإنسان الظاهري، ومع أنه يعلن عن قرب سقوط الديكتاتورية الدينية للنظام الحالي، وظهور مجتمع ما بعد ديني، لكننا نراه في مكان آخر يتحدث عن طفيليات الحداثة، كما أنه ظل يرى أن الأفراد غير قادرين على الوصول إلى بر الأمان من دون مساعدة مرشدين روحيين، ولذلك تعتقد المؤلفة أن المشروع الفكري الأهم في إيران يتمثل في رؤية شيرين عبادي الخبيرة القانونية والمحامية، التي تقر وجوب أن يقر المواطنون قوانينهم، دون اللجوء لمداخل دينية لتبرير هذا الأمر، لكن عملها في المطالبة بتحسين الأوضاع القانونية للمرأة، يسهم في زيادة وعي الإيرانيين بحقوقهم وواجباتهم.
تعتقد شيرالي في نهاية كتابها، أن النظام الإيراني ربما سينهار من تلقاء نفسه، خاصة بعد أن دمر شرعيته الدينية بدخوله عالم السياسة، إلا أن كل شيء في رأيها يشير إلى أن الانتظار سيكون طويلا، سواء في حياة الإيرانيين أو جيرانهم.