مثقلة بالخراب والآلام مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخمس سنوات على إحراق البوعزيزي نفسه رفضاً للإذلال وامتهان الكرامة، وعامان على اختطاف وتغييب الموثقين الأربعة، رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، والمشترك ليس التوقيت فقط وإنما ازدياد جرعة القهر والتمييز والحرمان من الحقوق التي يتجرعها الإنسان العربي.
أجمعت ثورات الربيع العربي على نصرة حقوق الإنسان وطالبت بالحرية والكرامة والمساواة، لكن قوى الظلام والاستبداد والعنف حولت الأحلام إلى كوابيس، فتدهورت الأمنيات والمطالب في المشهد السوري كمثال، من مداها الحقوقي المشروع إلى مجرد البحث عن الأمن والحفاظ على الحياة، وبدل أن تتعزز مبادئ حقوق الإنسان وتكرس تشريعياً وسلوكاً وثقافة، أصابتها انتكاسة كبيرة على أكثر من مستوى.
أولاً، صار كل شيء مباحاً ولم تعد للبشر قيمة تذكر مع تفاقم الصراع الدموي وانفلات أدواته العنيفة، فأطلقت اليد عشوائياً للتوغل أكثر فأكثر في القمع والفتك والتنكيل في معادلة الدفاع عن التسلط والامتيازات، لتطاول الاعتقالات عشرات الألوف من المواطنين، مضى على غالبيتهم سنوات عدة من دون محاكمة أو معرفة لأماكن سجنهم، منهم من أغاث محتاجاً أو قدم عوناً لنازح ومنهم من أسعف جريحاً أو ساهم برصد وتوثيق ما يجري. زاد الطين بلة، غياب المساءلة والمحاسبة وانهيار البعد الأخلاقي والقانوني الرادع، فلم يعد أهل الحكم يخشون من أية ردود أفعال داخلية أو خارجية في ما يتعلق باحترام حقوق الإنسان، بخاصة أن العنف المفرط أماط اللثام عن العديد من الذرائع والحجج التي دأب النظام على ترويجها لتسويغ حرمان الناس من حقوقهم، لتظهر الممارسات القمعية عارية ومدمرة لا يسترها أي غطاء أيديولوجي أو سياسي، ولنقف في المحصلة أمام مجتمع يسير من عنف إلى عنف أشد، في ظل استهتار مشين بحياة الإنسان واستسهال التضحية بمستقبل الأجيال وبكل ما أنتج من ثقافة وبنيان لقاء مصالح ضيقة وأنانية.
ثانياً، التردي الذي أصاب حقوق الإنسان في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وباتت في قبضة منظمات جهادية، ويمكن للمتابع أن يقدر أحوال البشر حين تندفع بعض الجماعات المسلحة لتصفية الحساب عشوائياً مع من تسميهم بقايا النظام، أو تستخدم مختلف ألوان التعذيب والإذلال ضد مواطنين أبرياء بحجة تجاوز نمط الحياة المفروض عليهم، ثم تتباهى بإعدام بعضهم، ذبحاً وحرقاً وصلباً، ناهيكم عن اغتيال الناشطين السياسيين والإعلاميين، ومحاربة أشكال التنظيم المدني والإداري واعتقال المنتخبين في المجالس المحلية وتصفية بعضهم! ويمكن للمتابع أيضاً أن يتوقع الدرك الذي وصلت إليه حقوق الإنسان هناك، عندما تغدو المرأة عورة وتحرم من حقها في العمل والتنقل والاجتهاد، أو حين يحرم الأطفال من فرصهم في التعليم والرعاية وتفرض عليهم مناهج دينية تدمر قدراتهم على المحاكمة والنقد والاختيار!.
ثالثاً، إصرار العقل المعارض على تكريس النهج السلطوي ذاته في موقفه من الكائن البشري، وتسويغ التضحية بالإنسان وحقوقه على مذبح المصلحة السياسية، فحين تغدو مهمة إسقاط النظام مهمة لا تعلوها مهمة، يمكن تفسير دفاع المعارضة الأعمى عن بعض الجهاديين كجزء من أدوات التغيير، وتالياً إشاحة نظرها عن انتهاكاتهم وتجاوزاتهم الطائفية والانتقامية بذريعة عدم تشتيت الانتباه عما يمارسه النظام، والأهم صمتها المريب والمزمن تجاه ما يتعرض له الناشطون السلميون من فتك وتنكيل، أوضحه حالة رزان زيتونة ورفاقها!
والأنكى حين تدعم المعارضة وتناصر كل معركة عسكرية ضد النظام حتى لو ارتدت نتائجها مأساة على المدنيين، حتى لو اتخذت أبعاداً مذهبية تزيد في حدة التخندقات وتفكيك اللحمة الوطنية، ناهيكم عن استهتارها بشدة ما يعانيه اللاجئون السوريون، اللهم سوى لإثارة عطف المجتمع الدولي وشحن موقفه ضد النظام، حتى لو تجمد هؤلاء في صقيع الشتاء وبقي أطفالهم مشردين بلا مأوى أو مدارس أو رعاية صحية.
رابعاً، دفع الحراك السلمي مفهوم المواطنة كأحد أهم مبادئ حقوق الإنسان إلى الصدارة وهتف بالشعب السوري الواحد وبالمساواة بين البشر أمام القانون بغض النظر عن الدين والقومية، لكن اللجوء إلى السلاح وتصاعد العنف، وتزايد عمليات التمييز نتيجة الاستقطابات والاستفزازات الطائفية والمذهبية، فضلاً عن تقدم دعوات لتقسيم البلاد يحدوها خلق تجانس في المنبت والانتماء، أفضت إلى انحطاط حقوق الإنسان إلى ما دون قيم المواطنة وصار الفرد وللأسف يعرّف بانتمائه الديني أو المذهبي أو العشائري، ما عزز مفهوم الأقلية والأكثرية المناقض لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، وشجع الأقليات الدينية والعرقية على التكور حول ذاتها، والتمسك باشتراطات سياسية للحماية مما تعتقده عسف الأكثرية وظلمها.
خامساً، ألا تغدو حقوق الإنسان في أسوأ حالاتها عندما تهتز ثقة السوريين بصدقية المجتمع الدولي الذي تخلى عنهم في أشد محنة يتعرضون لها وعجز عن المبادرة لوقف العنف المفرط وحماية المدنيين؟! ولم لا نتوقع ازدراء السوريين لمبادئ حقوق الإنسان بصفتها معياراً عالمياً مشتركاً، وهم يراقبون، من يدعي الدفاع عنها، كيف يتاجر بدمائهم وبمعاناتهم، وكيف تطغى لديه لعبة المصالح الأنانية والمطامع التنافسية الضيقة على حساب القيم الإنسانية!.
أخيراً، ربما يجد البعض الحديث اليوم عن حقوق الإنسان أشبه بالترف أو صرخة يائسة في ظل سطوة السلاح وسيادة العنف وتفاقم الصراعات الأهلية الدموية في غير بلد طاولته رياح التغيير، لكن هل كنا لنصل إلى ما نحن فيه لولا تغييب حقوق الإنسان ودوره في حماية المجتمع ومحاصرة الاندفاعات العدوانية، ولنتخيل للحظة مشهد الربيع العربي لو كان كل مواطن قادراً على ممارسة حقوقه ويدرك دوره في الحفاظ على سلامة مجتمعه ومناهضة العنف والاستبداد، أو لو ترك للمنتفضين أن يذهبوا بانتفاضاتهم وثوراتهم نحو ما طمحوا إليه ليضعوا شعاراتهم عن الحرية والكرامة والمساواة موضع التنفيذ.
أكرم البني
صحيفة الحياة اللندنية