ليست المشكلة، عراقيا، في انتماءات المسؤولين الجهوية أو الدينية أو الإثنية، بل في التعويل على مثل هذه الانتسابات توقّع لفرق في الأداء السياسي والحكومي في تغييب للفردية وتكريس للتفرّد السلطوي، لأن الأفق الفكري للفرد وكفاءته ومهاراته هو انعكاس للجهد الشخصي والقدرات الذاتية والتجارب والخبرات قبل الأصول الاجتماعية أو الجغرافية التي انهمل أثرها ولكن لا نبالغ فيه أيضا.
والمشكلة تكمن في تغييب التنوع والاحتكار والإقصاء والزهد في المواطنة والمؤسسية، وهي مشكلة لم تحلها المحاصصة المكوناتية بل كرّستها. والقول إن رئيس الوزراء الجديد بغدادي هو ميزة، لا يختلف باعتقادي، عن القول إن كونه سنيّا أو شيعيا، عربيا أو كرديا، فتلك ميزة أيضا.
هذا على المستوى الأخلاقي المضاد للتمييز، أما على المستوى المعرفي والبحثي، فاستنادا إلى التحولات التي مرّت على المجتمع العراقي خلال العقود الماضية وآثارها على بنيته وأفراده، لا أعتقد بإمكانية التعويل على محل المولد أو النشأة كمصدر إلهام مديني أو حضاري للسياسي أو المسؤول. الحياة السياسة والحزبية العراقية بطبيعتها ريفية، تعرضت لعملية ترييف منذ عقود بموازاة الترييف الثقافي والقيمي والسلوكي والبيئي الذي أصاب المدن نتيجة العطب التنموي المزمن.
والأحزاب الإسلامية في تكوينها كيانات ريفية وقبلية، نالها الترييف والقبلنة والبَدونة إمّا بفعل خضوعها للتحولات الاجتماعية العامة، أو تلقيها ثقافة دينية سلفية نشأت في بيئات قبلية وقروية، وهي ثقافة تنتمي أساسا إلى أزمنة تاريخية قروسطية ما قبل حداثية.
عملية ترييف
لم تعد هناك مدينة أو حاضرة، لا بغداد ولا بصرة ولا موصل. إنها مسارح لأشكال التخلف الاجتماعي والثقافي والخدمي والقيمي، والتطرف والعنف بأنواعهما. هذا العراق المتريّف اليوم هو الذي يحتضن هذه العملية السياسية البدائية، العشوائية، الشفوية، وارتجالية الطابع. علما أننا هنا لا نقارن بين الريف والمدينة مقارنة أخلاقية قيمية بين سيء وجيد، بل هي مقارنة أسلوبية بين أسلوب حياة تقليدي وآخر حديث. فقد تكون المدينية وعاء لأخلاقيات غير مقبولة، لكنها أيضا الإطار الأمثل للتفاعل السياسي والاجتماعي الذي يعالج السلبيات السلوكية والثقافية.
“الترييف” يبدو مصطلحا منحازا وغير عادل أو موضوعي، إذ يعتبر الثقافة والقيم الريفية سلبية بذاتها ويعدها دخيلا تخريبيا على الحياة المدنية وتشويها لها. لكن النقد هنا ليس للريفية كمعطى سوسيولوجي، أو حقيقة أنثروبولوجية، بما هي انتماء للأفراد، أو نمط حياة، أو ثقافة، بل هو نقد لانعدام تكافؤ الفرص التنموية، واعتراض على الوضع الهجين الناتج عن تجاور ما هو ريفي مع ما هو مديني من دون اندماج اجتماعي، ومن دون وجود مناخ مساعد على الانتقال التنموي من التريّف إلى التنمية، وحضور العزلة والريبة والتمايز الصارخ بين الريف والمدينة، بما يرسّخ اللامساواة والعنصرية المتبادلة، ويوفر المناخ للتمييز، ويثير مشاعر الهامشية والدونية والكراهية والتعصّب والمركزية والفوقية. إنه وضع ينتجه غياب التوازن التنموي وسياسات تعزيز الاندماج، وهو يضر المدينة أيضا لأنه يعيق تطورها ويبث فيها قيم الانعزال والانغلاق.
ورفض “الترييف” هو رفض للطابع الغَلَبوي والهيمنوي للقيم الريفية التقليدية على القيم المدينية الحديثة، والصادر عن الإخلال بالمساواة والعدالة الاجتماعية، والمانع للتفاعل بين الريفي والمديني ضمن بوتقة التنوع وفضاء التنمية، وهو اعتراض على التباين الاجتماعي الناتج عن غياب المشروع السياسي – الحضاري القادر على إدماج المواطنين ضمن النشاط الإنتاجي والعملية النهضوية والمجتمع المدني.
تاريخيا، سبقت الأرياف الحواضر في الوجود، فالمدينية والتمدين والتمدن هي الأنساق الجديدة الداخلة على النسق الريفي. وعليه، لا تكون الإشكالية في وجود الريفية، بل في تمددها وتغوّلها، إلى جانب انغلاق وركود المدينية الكلاسيكية واحتكارها السياسي للفرص والموارد، وقبل ذلك استئثارها المعنوي بالدور والهوية، وعدم تعميم العدالة والمساواة في إمكانات الوصول إلى مصادر الثروة والسلطة.
التنوع الاجتماعي
إن التحذير من التريّف والترييف هو دعوة إلى إدماج الريف سياسيا وتنمويا ضمن حالة التنوع الاجتماعي والوطني، بما يتيح التطور للريف والمدينة في إطار نمطيهما ويعطيهما معا فرصة ومناخا وروحية الاندماج. إن التنمية هي الضمانة الحقيقية لمحافظة كل من المدينة والريف على خصوصيتيهما الثقافيتين في إطار التنوع الثقافي مع تزويد كليهما بعوامل الجذب السكاني والاستقطاب التنموي.
الأمر الذي يستدعي أن تبادر الأحزاب السياسية إلى توطين خطابها وتحديث بنيتها التنظيمية وتكريس التنوع الثقافي داخلها وتعزيز الديمقراطية والانفتاح والنهوض بدور المرأة. والتحول داخل الأحزاب كفيل مع مسارات وتحولات أخرى بالتأسيس لإحداث تغيّرات داخل العملية السياسية، ومن ثم داخل المجتمع العراقي ككل.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية