لم تقف مفاجآت عملية اختراق عناصر من حماس للداخل الإسرائيلي على تنفيذ هجوم متعدد المستويات والأدوات غير المعتادة وسط شلل تام للمؤسسات الدفاعية الإسرائيلية وأجهزتها الاستخباراتية، بل أضيف إلى ذلك مفاجأة تركيز رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تصريحاته الأولى على تحذير أطراف أخرى من انتهاز الفرصة لفتح جبهة جديدة على الحدود الشمالية قاصداً بالأخص حزب الله.
وبالمثل، حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن من فتح جبهات أخرى معلناً دعمه الكامل لأمن إسرائيل واستعداد بلاده لتقديم مساعدات عسكرية عاجلة لاتخاذ ما يلزم لإعادة هذا الأمن. وإذ اكتفى حزب الله في اليوم الأول بتهنئة الشعب الفلسطيني وقيادة حماس بإطلاق عملية “طوفان الأقصى” كرد حاسم على إصرار إسرائيل المستمر على التعدي على المقدسات، فإنه استهل اليوم التالي بقصف مدفعي لمواقع عسكرية إسرائيلية في الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا[1].
وكان حزب الله قد أعلن عن تواصله المباشر مع قيادات المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج لتقييم الوضع وبحث تفاصيل تطور العمليات الميدانية[2]. وفي المقابل، سارع الجيش الإسرائيلي في منتصف اليوم الأول للإعلان عن تعزيز خطوط دفاعه على الحدود الشمالية مع لبنان واستدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط لهذا الغرض[3]. بينما قرر في اليوم التالي الاكتفاء بالرد على مصادر النيران واستهداف خيمة كان حزب الله قد نصبها في بلدة شبعا على الطرف الآخر من الحدود من المزارع المحتلة. كما طالب سكان المناطق الشمالية بالبقاء في المناطق المحصنة وقرر إجلاء سكان المستوطنات الشمالية والتي تقع على مقربة من الحدود مع لبنان خلال 48 ساعة.
التفاعل اللبناني في اليوم الأول: تهاني وتحذيرات
استيقظ اللبنانيون في عدد من المناطق على أصوات تكبيرات صادرة من مكبرات الصوت الملحقة بالمساجد احتفاءً بعملية حماس داخل الأراضي المتاخمة لقطاع غزة. وما لبثت أن تعددت الاحتفالات التي أظهرت التضامن مع المقاومة الفلسطينية ودعم حق الشعب الفلسطيني بالدفاع عن نفسه، فبعد بيان حزب الله بمباركة عملية “طوفان الأقصى” قامت إحدى المؤسسات الكشفية التابعة له بتوزيع الحلوى على المارين في مناطق بالبقاع احتفالاً بنجاح المقاومة الفلسطينية. كما زار وفد من حزب الله مسئول حركة الجهاد الإسلامي في صيدا لتقديم التهنئة بنجاح عملية المقاومة الفلسطينية والتشديد على أهمية وضع المسجد الأقصى في صدارة معادلات الصراع مع إسرائيل[4].
بينما وجه النائب توني فرنجية -وابن المرشح للرئاسة سليمان فرنجية- التحية لمقاومة الشعب الفلسطيني التي تُراكم النضال ولا تتخلى عن الأرض والهوية. ووجه أيضاً وليد جنبلاط التحية لحماس وللمقاوم الفلسطيني والمقاوم العربي الذي حطم أسطورة التفوق الإسرائيلي سواء اليوم أو في الماضي[5]. وبالمثل عبر عدد من حلفاء حزب الله عن تحيتهم للمقاومة الفلسطينية كالرئيس الأسبق إميل لحود والوزير الأسبق وئام وهاب وغيرهم. أما على الساحة الفلسطينية في لبنان فقد عبر المتحدث باسم حماس في لبنان عن دعمه للعملية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية ولكنه أكد على أن هذا الدعم هو دعم معنوي فقط ولا يتخطاه لأي نشاط أو تحرك في لبنان.
وعلى المستوى الرسمي، فقد اعتبرت وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية أن “التطورات الميدانية” في فلسطين تأتي كنتيجة مباشرة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والإمعان في الاعتداء على المقدسات الإسلامية المسيحية وحرمان الشعب الفلسطيني من أدنى حقوقه. كما حذرت الخارجية اللبنانية من أن عدم إنهاء احتلال الأراضي العربية يهدد السلم الدولي ولذا دعت المجتمع الدولي إلى تحمل مسئوليته للضغط على إسرائيل لإعادتها لخيار السلام. وحددت في بيانها مرجعيات مسار هذا السلام بمبادرة السلام العربية التي أطلقتها قمة بيروت عام 2002 وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم[6].
أما على المستوى الميداني، فقد بادر الجيش اللبناني بإغلاق الطريق العسكري المحاذي للحدود اللبنانية الإسرائيلية منعاً لأي استفزازات قد تتطور لأحداث أمنية موسعة. وأعلن المتحدث باسم قوات اليونيفل أن قيادة القوات الأممية على تواصل مباشر مع الطرفين –لبنان وإسرائيل- لتجنب أي سوء فهم قد يتطور إلى تسخين هذه الجبهة الهادئة نسبياً منذ إصدار القرار 1701 الذي انتهت بموجبه الحرب بين حزب الله وإسرائيل في صيف عام 2006.
تراشق قذائف في اليوم التالي
رغم اقتصار مجريات اليوم الأول على تقديم التهاني للمقاومة الفلسطينية والتحذير من خطورة فتح الجبهة اللبنانية، فإن مجريات اليوم التالي قد اختلفت قليلاً. إذ وجه حزب الله في الصباح الباكر قذائف صاروخية إلى ثلاثة مواقع عسكرية إسرائيلية في الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وأدى القصف إلى إصابات دقيقة في موقع الرادار وموقع زبدين وموقع رويسات العلم. فيما رد الجانب الإسرائيلي بتوجيه قصف مدفعي لمصدر النيران وقام بتحريك مُسيرة عسكرية قصفت موقع تمركز حزب الله الذي تم منه إطلاق القذائف. واستغرق التراشق بين الطرفين أقل من ساعتين، وأدى إلى إصابة شخصين في الجانب اللبناني ولم تتبين بعد الإصابات في الجانب الإسرائيلي، ولكن سرعان ما عاد الهدوء إلى الحدود المشتركة. ثم عادت القذائف اللبنانية وتجددت في منتصف اليوم، ليرد عليها الجيش الإسرائيلي بنفس الدقة والمحدودية قبل أن تهدأ الحدود اللبنانية الإسرائيلية مرة أخرى.
والقول بأن الجبهة اللبنانية الإسرائيلية هادئة لا يعني أنها خالية من الخروقات أو بعض الاشتباكات ولكن يعني أن قواعد الاشتباك بين الطرفين فيها مستقرة ولا تخرج عن الفعل ورد الفعل المتوقع. إذ عادة ما يتم التراشق عبر الحدود في عمليات محدودة ويتم الرد على مصدر النيران بشكل فوري ومحدود ثم يتوقف الاشتباك عند هذا الحد ولا يتطور إلى أكثر من ذلك ولا تصل مدته الزمنية لأكثر من يوم أو يومين. وقد تحدثت بعض التقارير الإسرائيلية سابقاً عن افتتاح وحدة عسكرية لحماس في لبنان في عام 2021 تتمركز قرب مدينة صور وتخضع للتدريب بدعم إيراني وضوء أخضر من حزب الله. وكانت إسرائيل قد اتهمت هذه الوحدة في مرات سابقة بإطلاق صواريخ من الجنوب اللبناني دون أن يتطور أي من هذه الأحداث إلى اشتباكات واسعة، حيث كانت إسرائيل تتعامل مع مصدر الصواريخ ثم يتوقف التراشق سريعاً[7]. ولم يكن مطروحاً أن يتم تبني هذه الصواريخ بشكل معلن من جانب أي منظمة فلسطينية أو حتى لبنانية، بل يتم التعامل مع الأمر باعتباره حدثاً محدوداً ليس له ذيول أو تداعيات على قواعد الاشتباك المعروفة.
ولذا فمنذ انتهاء الحرب بين حزب الله وإسرائيل في صيف عام 2006 وتوسيع صلاحيات اليونيفل في الجنوب اللبناني لضمان هدوء المناطق المتاخمة للحدود مع إسرائيل لم تتطور الأحداث الأمنية هناك لتشمل أي تهديد حقيقي لحالة الهدنة بين الطرفين. وباستثناء بعض المناوشات السابقة خاصةَ واقعة انفجار طائرة مسيرة إسرائيلية داخل عقار تابع للمركز الإعلامي الخاص بحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية في أغسطس 2019 على خلفية تطورات الحرب في سوريا[8]، فإن الحدود اللبنانية الإسرائيلية ظلت هادئة نسبياً منذ عام 2006. بل إن أغلب هذه المناوشات لم تتضمن أي تعديل في قواعد الاشتباك بين الفريقين خاصة مع تحذير حزب الله المتكرر من أن امتداد النيران الإسرائيلية إلى الضاحية الجنوبية مرة أخرى سيعني امتداد نيران حزب الله إلى تل أبيب وليس مجرد المنطقة الحدودية. ومع ثبات قواعد الاشتباك تلك يمكن القول إن التراشق بالقذائف على الحدود اللبنانية الإسرائيلية صباح يوم 8 أكتوبر الجاري لا يعدو مجرد كونه نشاط محدود ضمن نفس القواعد دون أي تغيير فيها وفقاً للمعطيات المعروفة حتى الآن. ولكن هذا لا يمنع إمكانية تطور الأمر في حال تغيرت أي من هذه المعطيات.
فرص ومخاطر فتح جبهة لبنان
من المستبعد حتى اللحظة أن يُقبِل حزب الله على فتح جبهة قتال جديدة وممتدة مع إسرائيل، فالحزب نفسه يدعم المقاومة الفلسطينية ويُحيي كفاحها ويعلن عن تواصله الدائم معها وتقييم التطورات الميدانية بشكل مشترك معها ولكن هذا لا يعني أنه على أتم الاستعداد للقتال معها. فالظروف الداخلية التي دفعت حماس لشن عملية طوفان الأقصى ضد إسرائيل تتضمن بالأساس مسألة تحرير الأسرى ومسألة وقف الانتهاكات للمقدسات وخاصة المسجد الأقصى. فيما أن قضية الأسرى اللبنانيين كان حزب الله قد طواها فعلياً منذ تبادل الأسرى في يوليو عام 2008، حيث حرر آنذاك حزب الله كل الأسرى اللبنانيين في تبادل مع جثامين جنود إسرائيليين كان قد أسرهم في العملية الأولى التي سبقت اندلاع حرب عام 2006.
ولذا فحزب الله لا يملك في هذا الإطار ملفاً مُلّحاً كملف الأسرى يمكن الاستناد عليه لشن حرب هجومية ضد إسرائيل. وكان حزب الله قد حافظ على هدوء الجبهة اللبنانية طوال هذه السنوات بشكل لافت ولم ينجر في أي مرة إلى تسخين هذه الجبهة بموازاة أي حرب إسرائيلية على غزة مهما كانت مجرياتها قاسية ومؤلمة. وبالتالي فهو ليس مهتماً اليوم بشن حرب على إسرائيل خاصة أن حماس لا تحتاج حتى اللحظة لتشتيت الجانب الإسرائيلي وصرف انتباهه إلى الشمال فما حققته حماس حتى اللحظة هو كافٍ لتشتيت إسرائيل بالفعل على حدودها الجنوبية مع غزة. ولكن رغم ذلك فالقذائف التي وجهها حزب الله للمواقع الإسرائيلية في النقاط اللبنانية التي لا تزال محتلة جاءت للتذكير بأنه لا يزال للحزب الحق في تحرير هذه النقاط، ولكن الوقت الراهن ليس بالضرورة الوقت المناسب لإنجاز هذه المهمة. بل إن اقتصار قصف حزب الله على النقاط اللبنانية المحتلة فقط وعدم امتداده إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة يعني وبشكل واضح جداً أن الحزب لا ينوي تغيير قواعد الاشتباك بل ما يعنيه هو ما تبقى من الأرض اللبنانية المحتلة. وفي ذلك فإن حزب الله يدرك جيداً بأن الصدمة الإسرائيلية من هجوم حماس صباح السابع من أكتوبر كفيلة بتغيير معادلات كثيرة في الإدراك الإسرائيلي ولا يريد إعطاء الذريعة للإسرائيليين للتوجه شمالاً نحو لبنان.
في المقابل ترددت بعض الأنباء عن أن حزب الله يحافظ على هدوءه بهدف إبقاء مشاركته بشكل موسع في الحرب كورقة للمساومة يتم التهديد بها وليس تنفيذها بالفعل، ولذلك تحديداً اهتم بإصدار بيان يعلن مسئوليته عن قصف مزارع شبعا، وهو ما يعني ادخار وزنه الاستراتيجي كي تستخدمه حماس للمساومة عند التفاوض حول التهدئة وإرساء قواعد جديدة في التفاوض مع إسرائيل، وفي ذلك ترجمة فعلية لمبدأ “وحدة الساحات” الذي سبق ولوح به حسن نصرالله من قبل. ولكن في نفس الوقت لا يمكن اعتبار أن توقيت خوض حرب موسعة مع إسرائيل هو توقيت مثالي بالنسبة للحزب، فرغم سيطرته على المشهد السياسي اللبناني لا يزال متخوفاً من انفلات الأوضاع بالكامل في ظل الفراغ الرئاسي، حيث مارس الحزب خلال العام الماضي تعطيلاً محسوباً لانتخابات الرئاسة كي يدفع بمرشحه المفضل إلى سدة الرئاسة، ولكنه ليس له مصلحة في الدخول في حرب مفتوحة يتحمل مسئوليتها بالكامل في ظل فراغ وشلل المؤسسات اللبنانية الرسمية. ويُضاف إلى ذلك الوضع الاقتصادي الحالي للبنان الذي يجعله خاضعاً لرحمة المساعدات الخارجية وخاصة من المؤسسات المالية الدولية ذات التمويل الغربي أو المساعدات من الداعمين الخليجيين والعرب.
من جانب آخر، يبدو أن إسرائيل لا تزال في طور استيعاب التطورات الأخيرة وليست في معرض التحرك بشكل عشوائي على الحدود الشمالية للدخول في حرب أوسع وهي لا تزال تحاول استعادة السيطرة على جبهتها مع غزة. بل هي قد تكون أكثر اهتماماً بتجميد الجبهة الشمالية والحفاظ على هدوئها لحين السيطرة على جبهة غزة والتحسب لاشتعال الضفة بانتفاضة أو حتى الداخل في أراضي 48. وفي حال قررت إسرائيل أن تفتح كل الجبهات لخلط الأوراق واستدعاء الدعم الخارجي الغربي وخاصة الأمريكي، فهي ليست مخولة باتخاذ هذا القرار بمفردها بل لابد لها من ضوء أخضر من واشنطن لأن الأخيرة ستكون مضطرة حينذاك لتقديم دعم دائم ومباشر طوال فترة اندلاع الحرب المحتملة، وهو سيناريو يبدو ضعيفاً في ظل رغبة الولايات المتحدة في تعزيز التهدئة والتعاون في المنطقة على التوازي مع استمرار وتوسع الحرب الأوكرانية وما تستنزفه كييف من دعم ومساعدات من الدول الغربية بالفعل.
وبالاستناد على ذلك، لا يبدو أن اتساع الحرب الراهنة لتشمل جبهة لبنان هو أمر وارد الحدوث، بل إن الأدعى بالنسبة للطرفين هو تثبيت قواعد الاشتباك كما هي، وما كان تراشق القذائف المتبادل بين حزب الله وإسرائيل في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى إلا تأكيداً على نفس هذه القواعد وليس تغييراً لها. ولكن ومع ذلك يُبقِي حزب الله احتمال مشاركته في حرب موسعة كورقة ضغط كي تستخدمها حماس لتحسين شروط تفاوضها المرتقب مع إسرائيل على قواعد جديدة للتهدئة، وهو في ذلك يؤدي أحد أدواره الإقليمية الأصيلة كذراع فاعل في ما يسمى بـ”محور المقاومة” في المنطقة.