لا يستطيع المرء أن يتوقع كلّ ما يمكن أن يحدث غداً، وهو كبير بالتأكيد، وعلى كل المستويات، لكن ما حدث حتى الآن يقال فيه الكثير، وسيظل لزمن طويل حقلاً خصباً للقراءة والاستعادة، فما استطاعت المقاومة الفلسطينية تحقيقه لا ينتمي إلى الماضي، لأنه منذ أن حدث بات ابناً للمستقبل، فهو يعيد صناعة المستقبل بالقدر الذي يعيد فيه توليد معنى آخر للتاريخ ومعنى آخر لفلسطين والفلسطيني، بدءاً من النكبة حتى اليوم.
بضع ساعات كانت كافية لبعث الحياة في كل شيء، فقد استطاعت المقاومة أن تقلب معادلات النصر والهزيمة، الكفّ والمخرز، والقوة الهمجية المتمثلة في الصهيونية العنصرية، والإرادة الفلسطينية التي لم تتخلّ يوماً لا عن فلسطينها ولا عن حريّتها كهدف أسمى.
لقد ولدت منذ الطوفان الجديد حقائق لا يمكن أن تُمحى، ستشكل صورة الماضي والمستقبل معاً، الحقيقة الأولى أن الكيان الصهيوني تلقى أكبر هزيمة منذ إنشائه مقارنة بموازين القوة وطبيعة الحصار الذي تمّ فرضه على قطاع غزة برّاً وجواً وبحراً، هذه الهزيمة التي ستكون جزءاً حارقاً وناخراً للشخصية الصهيونية، لن تستطيع القفز عنه ببساطة، لأن هذه الهزيمة باتت الآن من مكوناتها، بحيث استطاعت تجريف كثير من الأوهام التي شكّلت هذه الشخصية؛ من وهم احتكار النصر واحتكار التفوق إلى احتكار الهيمنة؛ وكل ذلك سوّق لها دائماً احتقار البشر وقتلهم وتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم، كما تفعل الآن في قصفها لغزة، وزجّ خيولهم في المعتقلات، وبرّر لها ممارسة العنصرية بأبشع وجوهها.
كل ما تستطيع هذه الشخصية تأكيده الآن هو أنها الوحشية ذاتها.
سيتذكر الجيل الصهيوني الجديد، الذي لم يعش الماضي، أنه هُزم، وسيتذكر الجيل الذي عاش الماضي أنه قابل للهزيمة من جديد، ومعنى ذلك أنه قابل للهزيمة مرة أخرى وأخرى، لأن هواء هذه البلاد التي احتلها سيظل يسبب له الكثير من ضيق التنفس الذي يحرمه الحياة الطبيعية.
لا نسيم في هذه البلاد إلّا لأهلها.
على الصعيد العربي الفارط، أي الماضي، يقدِّم ما حدث قراءة غير متلعثمة لكل الحروب السابقة، بدءاً بنكتة جيوش الإنقاذ، مروراً «بهريبة» حزيران على ثلاث جبهات أمام عدو لم يكن يملك ربع ما يملك الآن من قوة، وعُشْرَ ما يملك الآن من تكنولوجيا. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع المرء إلّا أن يقارن بين قوة المقاومة اليوم وقوة تلك الجيوش العربية المُعزَّزة (في تلك الأيام) بكل أنواع الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ «القاهر» و»الظافر»، والعمق الجغرافي، والحدود المفتوحة على العالم، عكس قطاع غزة الذي لم يحظ بتسمية غير «أكبر سجن في العالم».
وعلى الصعيد العربي الجديد، حيث تتآكل أنظمة تطبيع وتؤكل وتتسابق أخرى للتذلّل للحاق بقطيع التابعين، فاتحة بلادها ومانحة خيرات هذه البلاد للعنصرية الصهيونية، حالمة بتحصين عروشها بالقوة الصهيونية والتكنولوجيا الصهيونية والبركات الصهيونية أيضاً؛ على هذا الصعيد، أصيبت هذه في الصميم كما أصيب العدو الصهيوني في الصميم، لأن الجدار العنصري لم يتمّ تدميره في فلسطين هناك وحسب، بل تمّ تدميره أيضاً في تلك العواصم المطبِّعة التي تفوّقت على الصهيونية في إخلاص الصهيونية لنفسها، بحيث بدت في حالات كثيرة، في موقفها من فلسطين وتاريخها، أكثر عنصرية من العنصريين أنفسهم.
وعلى الصعيد الفلسطيني، فإن ما يحدث لا يرسم صورة للفلسطيني بقدر ما يؤكد صورة ثابتة لشعب مقاوم، أعلن ثوراته المتعاقبة، وخاض معاركه في أصعب الظروف، وفجّر انتفاضاته المتلاحقة، وقاتل في أصعب الظروف، وابتكر أشكال مقاومة متعددة في تنوّع خلاق مفاجِئاً نفسه ومفاجئاً الأصدقاء والأعداء والأصدقاء والمتباكين عليه ومن أعدّوا أنفسهم للخروج في جنازته، فماتوا، وظل حيًّا، ومع هؤلاء وقبلهم وبعدهم سلطة رام الله التي لم تجد لها من مساهمة لدعم غزة غير اعتقال أبطال الضفة وتفريق المظاهرات المتضامنة والمحتفلة بمقاومة ترفض الخنوع، هذه الضفة التي تفعل الكثير اليوم ولا تحظى انتفاضتها بما تستحق من تغطيات.
صحيح أن صورة الفلسطيني ظلت ناصعة دائماً في أعين كل أولئك الذين أدركوا منذ البداية أنهم يقفون مع فلسطين لأنها امتحان يومي لضمير العالم، لكن، وقد تغوّلت أنظمة واستذأبت أخرى وتفعّتْ أخرى (من أفعى)، تمّ العمل على أعلى المستويات لشيطنة الفلسطيني وتشويه صورته ووأد تاريخه وتغييب جوهره وتضبيب قوة إرادته وتصميمه على تحقيق حلم عودته إلى أرضه.
هذا الفلسطيني، الذي لم يكن ينقصه على مدى مائة عام ما يؤكد حضوره في النضال والجمال والبناء والتغيير، كان عليه فوق هذا كله، أن يرفع هذا الإنجاز الكبير في أعين هؤلاء، ليقول إنه رغم الحصار والموت والتكالب والاستكلاب قادر أن ينتصر وأن يفتح ثمانين باباً في الجدار العنصري ويتقدم بجرأة لاجتياح معسكرات وثكنات ومستعمرات، آسراً لجنود الجيش الأقوى في المنطقة كلها وهم في ثيابهم الداخلية.
صورة العدو الصهيوني، مُذلاً، ستظل جزءاً من كيانه، ولن تستطيع تغييرها وحشيته الطليقة المعززة بأنياب أمريكا وكل من يدعمه، كما لن يستطيع دفنها تحت ركام بيوت غزة التي يدمرها اليوم.
لم يخلق انتصار المقاومة فلسطينياً جديداً، فالنصر دائماً يكمن هناك في داخل المقاوم قبل بدء الحرب، وكل ما يحدث أن المعركة هي اللحظة التي يتاح لنا فيها أن نرى هذا النصر الذي كان في داخله أصلاً.
كما يمكننا القول إن الهزيمة التي لحقت بهذا العدو العنصري لم تكن جديدة، بل عاشها سنوات وسنوات في معركة هنا وانتفاضة هناك، لكنها لم تكن مستترة، لأنه لم يستطع في أي يوم من الأيام أن يضع نقطة في آخر سطر أيّ حرب خاضها، فالفلسطيني مثل كل إنسان نقيّ في العالم العربي وخارجه، لم يتبخر، ولم يَنْسَ، ولم ييأس، وظل على الدوام غير قابل للموت حتى وهو يُقتَل بأبشع الطرق وبأكثر الأسلحة تطوراً، وبأقوى السجون تحصيناً.
وبعد:
لن يعود أي شيء لما كان عليه، لا هم ولا نحن أيضاً، فما حدث لم يغير الآتي فحسب، لأن الأعمال الكبيرة تغير الماضي أيضاً، ومنذ اليوم لدينا ماضٍ لا يشبه ذلك الماضي الذي كان.