لا تزال غزوة النقب التي شنتها حركة “حماس” داخل الأراضي الإسرائيلية، والتي نفذت فيها، عملياً، مجزرة بحق أكثر من 1000 مدني من بينهم أطفال ونساء وعجز، وتخللها خطف مواطنين كرهائن داخل قطاع غزة، تتفاعل داخل الدولة اليهودية والولايات المتحدة وأوروبا، وتضيف حطباً على نار التنديد وربما عملية عسكرية واسعة، ولكن بداية، الغارات الإسرائيلية على غزة هي أيضاً باتت تنتج إدانات داخل العالم العربي والإسلامي ومسيرات لمؤيدي الإسلاميين واليسار الراديكالي في الغرب، والبركان السياسي قد انفجر والحمم خرجت، يبقى أن نترقب البركان العسكري الذي سيخلفه، ما هي سيناريوهاته واحتمالاته وجغرافيته السياسية؟
الموقف الإسرائيلي
الموقف الإسرائيلي مستمر في “التهيئة” لعمل عسكري ما في غزة، حيث أعلنت حكومة الطوارئ في القدس أن قواتها “سوف تدخل القطاع من الشمال” طالبة من المدنيين الانتقال إلى جنوب القطاع، ومع تعاظم الخسائر في التجمعات السكانية في “غلاف غزة”، التي تكتشف يومياً، يتعالى الضغط على الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها “لتنهي حماس” وتفكفكها داخل غزة، وهذا ما وعد به الائتلاف الحاكم من معظم الأحزاب ويجري التحضير له، لكن الدخول إلى القطاع والاشتباك في زواريبه والخسائر المدنية المتوقعة بالإضافة للتعبئة الإعلامية الهائلة ضدّ إسرائيل في الغرب، التي تطلقها شبكات إيران والإسلاميين وحلفائهم في أقصى اليسار، أضف إلى ذلك عدم تأكد بنيامين نتنياهو وفريقه من التزام فريق الرئيس جو بايدن بالدعم حتى نهاية العملية واحتمال أن تدعو واشنطن إلى وقف إطلاق نار وإنهاء العمليات قبل إتمام الحملة، إلا أن قرار الحكومة يبدو أنه قد اتخذ وقد يلخص كما يلي: تدخل القوات الإسرائيلية إلى شمال القطاع على أن ينتقل الأهالي إلى الجنوب، وتقوم إسرائيل بتفكيك الشبكات الحربية وبعدها تدعو الأهالي للعودة، وبعدها تعيد الكرة في جنوب القطاع.
خطة “حماس”
خطة “حماس” باتت معروفة في خطوطها العريضة، فهي تتلخص أولاً باستدراج الجيش الإسرائيلي إلى داخل غزة و”مشاغلته” لتأخير تقدمه، واستعمال صور التدمير والإصابات المدنية في حربها الإعلامية ضد إسرائيل، فالوقت سيكون تحدياً للحكومة الإسرائيلية، إذ إن القصف الإعلامي ضدها سيمتد ويشتد وقد يصل إلى اتفاق دولي لفرض وقف إطلاق نار يجمد الستاتيكو، فيعطل هجوم إسرائيل، وإن حصل ذلك تنتصر “حماس” ومعها إيران، ولكن إن لم يحصل ذلك، لن يوقف الإسرائيليين شيء قبل الوصول إلى الحدود المصرية، ولعل “حماس” و”الجهاد الإسلامي” تدركان ذلك، وبالتالي، تضعان ثقلهما على ورقة المقاومة الشرسة لتأخير التقدم الإسرائيلي عندما يحصل، ولكن عند “حماس”، ورقة قوية أخرى إلى جانب الاستدراج إلى غزة وشنّ حملة إعلامية، وهي ورقة “المحور الممانع” المتمثل بالقوة الصاروخية والدرونية الهائلة لـ “الباسدران” من إيران والميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا وجيش “حزب الله” في لبنان. فهذه الجبهة الواسعة التي تمتد عبر أربع دول تحشد قوة نارية من آلاف وآلاف الصواريخ البالستية والدرونات والراجمات وقوات الصاعقة، بإمكانها أن تشتعل بأمر من “الباسدران”، وتغطي كامل شمال الدولة الإسرائيلية حتى قلب النقب، فتصبح إسرائيل محشورة بين جبهتين، “حماس” في الجنوب، وجيوش “المحور” من الشمال والشرق، لكن ذلك يحتاج إلى قرار القيادة الإيرانية العليا.
خطط طهران
بتقديرنا أن طهران قد خططت لسيناريو الحروب ضد إسرائيل منذ عقود، بخاصة منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في 2021، وتعددت هذه السناريوهات مع التطورات الجارية على الأرض، إلا أنه يظهر من دراساتنا ومتابعتنا للملف، أن السيناريو المركزي اعتمد، ولا يزال، على تحركات مترابطة لكن ليست أوتوماتيكية، فـ “الباسدران” يعتمد على جبهتين ميدانية، وأخرى إعلامية، وقنوات دبلوماسية ولوبيات، كما كتبنا في السابق، واختارت إيران أن تفتح المعركة على “الجبهة الجنوبية” عبر “غزوة النقب” أو ما يسمى الآن “غلاف غزة”، وتهدف الاستراتيجية هذه إلى إشعال الساحة بين “حماس” و”إسرائيل” إلى حدّ تقرر هذه الأخيرة الدخول إلى القطاع، فتظهر وكأنها المعتدية وليس المعتدى عليها، ويتبع ذلك هجوم من “جبهات الشمال والشرق” عبر “حزب الله”، وميليشيات الأسد (رئيس النظام السوري بشار الأسد)، و”الحشد الشعبي”، و”الباسدران”، للإطباق على “الكيان”، أما الهدف النهائي فهو متعدد لكنه يؤمّن أمن النظام، أي عدم تهديده من قبل إسرائيل، ويضمن عدم دعم الثورة الإيرانية، وطبعاً نهر من السيولة، ولكن ذلك مرتبط بالموقف الأميركي.
“حزب الله” يفضل أن يبقى الوضع متمحوراً حول ستاتيكو يبقيه في السلطة، أي أن يستمر في السلطة ولكن في حالة كلامية تعبوية ضد “العدو الصهيوني” من دون مواجهة عسكرية تضعفه داخلياً، وإن قوّته خارجياً، ولكن يبدو أن الحزب قد درس احتمالات حصول انتفاضة ضده في لبنان، في حال انفجار حرب شاملة بينه وبين إسرائيل، ما سيضعف امتداده اللوجستي الداخلي ويربك خططه، وقد وضع خطة سياسية وميدانية لحرب مع إسرائيل، و”معالجة” أي تمرد في مناطق عدة، بالوقت نفسه، ويبقى معرفة موقف الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني.
الموقف الأميركي
إدارة بايدن تواجه إحدى أكبر أزماتها في السياسة الأميركية، وقد يكون لها تأثير في الأوضاع الداخلية، وتدور حول الوقوف إلى جانب إسرائيل في اجتياحها غزة أم لا، في المبدأ، الإدارة لا تريد حرباً في الشرق الأوسط لأنها لا تريد أن تتدخل في أية مواجهة لأي سبب، فعلى الأقل لأن هناك رأياً عاماً داخلياً غاضباً على الحروب، والوضع الاقتصادي، وأزمة الحدود الجنوبية، وقد ينقلب عليها في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، ولكن السبب غير الرسمي، وإن كان بات أوضح مع الوقت، فيبقى الالتزام بالاتفاق النووي الإيراني أياً كانت الظروف، فالبيت الأبيض يسعى ألا يرسل قوات أميركية إلى المنطقة، لا لمشاركة إسرائيل في معركة غزة، ولا لمشاركتها في حرب مع “حزب الله”، لأن هكذا انخراطات ستقود إلى حرب مع السفينة الأم، أي النظام الإيراني، ما سيسقط الاتفاق الأم، وقد بات الإرث التاريخي لإدارتي باراك أوباما وبايدن، لكن التطورات على الأرض، أي غارة “حماس” والرد الإسرائيلي والتهديد الإيراني دفع واشنطن إلى أن تعيد تموقعها، فتضامنت مع إسرائيل، ومدتها بالعتاد والذخيرة، ونشرت حاملتي طائرات في المنطقة، وهددت بالتدخل إذا استهدف “المحور” المناطق المدنية في إسرائيل، أي أن واشنطن وضعت قدماً داخل الحلبة، وأبقت القدم الأخرى خارجها.
موقف التحالف العربي
طبيعياً، وقفت الدول العربية مع “حقوق الفلسطينيين التاريخية” وطالبت بوقف العمليات العسكرية في غزة، لكنها، في الوقت نفسه، أيدت بيان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن “أعمال حماس داخل إسرائيل لا تمثل الشعب الفلسطيني”، ما يعني أن موقف التحالف يسعى إلى دعم الفلسطينيين، بخاصة في غزة، ولكن ليس بالضرورة تحت قيادة “حماس” ما قد يفتح باباً للحل، ولكن ليس بالقريب.
بخلاصة المرحلة، سيناريوهات المجابهة لا تحصى، ولكنها لن تخرج من معادلة حديدية، فالنظام الإيراني وإسرائيل سيصطدمان عاجلاً أو آجلاً، بعكس ما ينظر له كثيرون، لكنهما سيحاولان تفادي ذلك، إلا إذا سقط نظام الملالي، أو “انهارت” إسرائيل كما “تحلم الممانعة”.