أثار الهجوم المباغت الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل صباح يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر عددًا لا يُحصى من التكهنات. يمكن استنتاج خلاصات كثيرة من الهجمات التي نفّذتها حماس على البلدات الإسرائيلية، وقتلها إسرائيليين بشكل عشوائي، وأسرها مدنيين وجنود إسرائيليين، وإطلاقها آلاف الصواريخ على البلدات والمدن الإسرائيلية. لكن الأمر الذي لا جدال فيه أن ما رأيناه في غزة، ولا نزال، هو استيلاء إيران على القضية الفلسطينية.
فما من شكٍّ عمليًا أن تكتيكات حماس جرت بالتنسيق مع إيران وحزب الله الذي قام منذ سنوات عدة بالتحضير لشنّ هجمات على بلدات الجليل عبر أنفاقٍ حفرها على الحدود اللبنانية الجنوبية. وشهدت الأشهر الأخيرة تكثيف الاتصالات بشكل واضح بين كلٍّ من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، إذ باتت بيروت مؤخرًا مقرًّا لقيادات بارزة في الحركتَين الفلسطينيتَين. قدّمت هذه الأطراف جميعًا، من خلال التخطيط لهذه العملية الضخمة، بديلًا لنموذج السلطة الفلسطينية البائسة التي خسرت الدعم الشعبي وباتت تترنّح في ظل قيادة فاسدة وطاعنة في السن.
في هذا السياق تحديدًا ينبغي قراءة الجولات الأخيرة من الاشتباكات التي شهدها مخيم عين الحلوة الذي يُعدّ أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بين حركة فتح، وهي المنظمة الفلسطينية الرئيسة، وفصائل إسلامية أصغر. مع أن فتح، التي لطالما كانت مُهيمنة في المخيمات الفلسطينية في لبنان، لم تُمنَ بالهزيمة، يبدو أن قوّتها قد ضعفت. نفت حماس أي دور لها في تلك المعارك، لكن الكثير من المراقبين في لبنان يعتبرون أن الفصائل الإسلامية استفادت من المساعدة التي قدّمها خلسةً كلٌّ من حزب الله وحماس. يُشار أيضًا إلى أن حماس كانت وسيطًا أساسيًا في النزاع، الأمر الذي عزّز دورها. حتمًا، تدرك حماس وحزب الله أن إضعاف فتح سيستغرق وقتًا طويلًا نظرًا إلى الدعم الكبير الذي تتمتع به، وستتأثّر هذه العملية بما يجري في رام الله، ولا سيما في حال أدّت خلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى اتساع فجوة الشقاق داخل فتح.
يجادل البعض بأن الهجوم الذي شنّته حماس مرتبط باتفاق سلام بدا وشيكًا بين الرياض وإسرائيل. وقد صبّت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال مقابلة مع قناة فوكس نيوز في هذا الاتجاه. في غضون ذلك، ألمحت تقارير صحافية عدة بأن ضمان تقديم تنازلات إسرائيلية للفلسطينيين ليس أولويةً للسعودية. في المقابل، يُعتبر تقويض إبرام المزيد من الاتفاقات العربية الإسرائيلية من الأهداف الأساسية لإيران التي لا تريد أن تواجه جبهة إقليمية موحّدة ضدها. مع ذلك، ترتدي هذه الأحداث أبعادًا أخرى أيضًا.
في الواقع، تقف القضية الفلسطينية عند مفترق طرق. فعباس اليوم في سن السابعة والثمانين وشعبيته في أدنى مستوياتها على الإطلاق. وقد تجلّى هذا المزاج القاتم في استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر حزيران/يونيو 2022. وكشف الاستطلاع أيضًا عن أن نسبة 55 في المئة من الفلسطينيين تؤيد عودة الانتفاضة المسلحة. تتابع إيران وحزب الله عن كثب الاستياء السائد في المناطق الفلسطينية، وقد سعيا إلى تشكيل سردية مضادة في وجه عملية السلام وحل الدولتَين. فهما يريدان إظهار أن إسرائيل يمكن أن تُهزم، وأن ما يحتاجه الفلسطينيون هو قيادة قادرة على تحقيق هذه النتيجة.
إذًا، يبدو أن إيران منخرطة في عملية من ثلاث مراحل تتمثّل في إضعاف فتح، وتوفير نموذج بديل للنشاط الفلسطيني، ودفع حماس إلى الواجهة باعتبارها منظمة قادرة على أن تصبح في نهاية المطاف الممثّل الأساسي للشعب الفلسطيني. ظهرت إشارة صغيرة على هذا الطموح في مقال نُشر مؤخرًا عن أحداث مخيم عين الحلوة في صحيفة الأخبار اللبنانية، التي تُعتبر إلى حدٍّ كبير بمثابة الناطقة باسم حزب الله. فقد أشارت الصحيفة في عنوان المقال إلى أن حماس أسقطت عن فتح صفة “الممثّل الشرعي والوحيد” للفلسطينيين، إلا أن مضمون المقال لم يتطرّق إلى هذه المسألة بشكل مباشر.
أما المرحلة التالية، بعد أن تخمد أعمال العنف، فستنطوي على إجراء مفاوضات لضمان الإفراج عن عشرات الرهائن الإسرائيليين الذين أسرتهم حماس. لكن من الصعب تخيّل ألا تؤدّي هذه الخطوة في المقابل إلى تحرير عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. وستضع هذه المفاوضات حماس في قُمرة القيادة وستزيد أكثر بعد الإذلال الذي تعرّضت له إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وستُترجم المكاسب التي ستحقّقها حماس إلى خسائر تتكبّدها فتح المحاصرة من الجهات كافة. وعلى هذا الأساس، من الصعب تصوّر كيف يمكن أن تخرج فتح من هذا المأزق، ولا سيما إذا أُجريت في نهاية المطاف الانتخابات الفلسطينية مجدّدًا.
يعمل الإيرانيون ببساطة على استغلال الطريق المسدود الذي بلَغَته معادلة “الأرض مقابل السلام” طيلة العقود السابقة، وفشلها في النهاية. يمكن إلقاء اللوم على الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن الأكيد أن الحكومة الإسرائيلية الحالية حاولت تجاوز حل الدولتَين إلى غير رجعة من خلال رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية والبحث في ضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. وبات الفلسطينيون يشعرون بالسخط العارم نتيجة غياب أي أفق أمامهم سوى القبول بالخضوع إلى أجل غير مسمّى للاحتلال الإسرائيلي، في ظل عدم استعداد السلطة الفلسطينية لتغيير هذا الوضع، وعدم قدرتها على ذلك أساسًا. أما إيران، فقد تنبّهت إلى هذا الواقع وأخذته في الحسبان.
حين وقّعت الدول العربية وإسرائيل ما عُرف بالاتفاقات الإبراهيمية، شعر الفلسطينيون بأن إخوانهم العرب قد تخلّوا عنهم. وقد أتاح ذلك فرصةً مهمة أمام طهران للاستفادة من حقيقة أن الشعوب العربية ما زالت تعارض بشدّة إحلال السلام مع إسرائيل، بصرف النظر عن خيارات قياداتها. في هذا الصدد، من المنصف القول إن شريحة كبيرة من العرب تؤيّد ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وسيزيد ذلك من الضغوط الممارَسة على جميع الأنظمة العربية التي أبرمت اتفاقات سلام مع إسرائيل، وخصوصًا السعودية التي لا تزال في طور دراسة هذه الخطوة.
ترى إيران أن هذه المعركة تندرج في إطار الصراع الإقليمي على النفوذ. ففيما تصرّف الأميركيون والأوروبيون، بتشجيع من إسرائيل، وكأن مصير الفلسطينيين يحتلّ مرتبة ثانوية لصالح التسويات بين الدول العربية وإسرائيل، اعتمدت طهران نهجًا معاكسًا. فقد رأت تناقضًا لدى الدول العربية التي أبرمت الاتفاقات الإبراهيمية. فهذه الدول وافقت جميعها على مبادرة السلام العربية التي رعتها السعودية في العام 2002 والتي نصّت على الشروط المطلوب استيفاؤها مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل. لكن ما أكّدته الاتفاقات الإبراهيمية هو أن الدول العربية الموقِّعة عليها مستعدة للاعتراف بإسرائيل من دون أي مقابل، ما يقوّض بالتالي مبادرة السلام العربية.
يكمن نفاق إيران في أن المسار الذي تنتهجه، والمتمثّل في إعادة إطلاق شرارة النزاع الفلسطيني المسلّح، لن يمنح على الأرجح الفلسطينيين الحقوق التي يستحقونها. بل على العكس، يُرجّح أن يؤدّي انتشار الاشتباكات المسلّحة في الضفة الغربية، على نحو شبيه بما جرى في غزة، إلى اندلاع نزاع مروّع يفضي إلى نزوح فلسطيني جماعي عبر الحدود الأردنية. ولن يُسمح لهؤلاء الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، تمامًا كما حدث مع الذين غادروا في العامَين 1948 و1967. وسيتعرّض الفلسطينيون أيضًا إلى جولة جديدة من التطهير العرقي، تترافق مع زعزعة استقرار النظام الملكي الأردني. وسيكون ذلك بمثابة دقّ مسمار آخر في نعش النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
على الرغم من كل ما يمكن قوله عن الإيرانيين، يبقى أنهم أدركوا أن القضية الفلسطينية ما زالت حية تُرزَق، وأن بإمكانهم استغلال هذا الواقع لإلحاق الضرر بخصومهم العرب وإضعاف مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. باتت إيران إذًا تُمسك زمام المبادرة. هذا مؤسف ربما، لكن أي شخص تابع الشؤون الفلسطينية عن كثب أمكنه أن يتوقّع حدوث أمرٍ من هذا القبيل.