إزاء جرائم الحرب التي تواصل إسرائيل ارتكابها في قطاع غزة والانحياز الأعمى للرواية الإسرائيلية من قبل الحكومات الغربية، لم يعد خافيا على الرأي العام العربي أن دماء ومصاب المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطيني لا يعادل في الحسابات الأمريكية والأوروبية دماء مدنيين آخرين تسقطهم جيوش معتدية وغازية ومحتلة ويتعاطف معهم ساسة واشنطن ولندن وباريس وبرلين ويحركون من أجل حمايتهم أدواتهم العسكرية والدبلوماسية ويتوعدون المعتدين بالمدمر من العقوبات.
الحديث هنا هو عن الشعب الأوكراني الذي ما أن اندفعت القوات الروسية لغزو واحتلال أراضيه إلا وانتفض الغرب عن بكره أبيه متضامنا معه ومساعدا له ومهددا ومتوعدا لحكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قدمت واشنطن ومعها العواصم الأوروبية السلاح الوفير لتنظيم دفاع الجيش الأوكراني عن أرضه وبلده وأغدقت المساعدات المالية والاقتصادية على حكومة كييف وفتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين الفارين من جحيم الروس. ولإدانة الغزو الروسي والأهداف المعلنة لموسكو لجهة استقطاع أراضي أوكرانية وضمها إليها، أنتجت الحكومات الغربية خطابا سياسيا ودبلوماسيا استدعى قواعد القانون الدولي العام التي تجرم العدوان والغزو والاحتلال وتجرم انتهاك سيادة الغير، واتهم روسيا من ثم بالانقلاب على القواعد القانونية المعمول بها وعلى ميثاق الأمم المتحدة والأعراف الدولية التي تلزم بتجنب الحروب وبالحلول السلمية للصراعات والنزاعات. ثم تحرك الغرب، كل ذلك في أيام تعد على أصابع اليد الواحدة، لفرض عقوبات تجارية ومالية حادة على روسيا وأطلق آلاته الإعلامية لإظهار سفك الدماء والدمار الذي تلحقه «قوات بوتين» بالشعب الأوكراني الأعزل الذي يتعين حمايته بالسلاح والمال الأمريكي والأوروبي. بل سعى الغرب من جهة إلى حصار الرئيس الروسي وملاحقته خارج بلاده بالشروع في إجراءات قضائية ضده في المحكمة الجنائية الدولية، ومن جهة أخرى إلى الضغط على الدول الكثيرة في الجنوب العالمي التي رفضت إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال مطالبتها باحترام قواعد القانون الدولي العام التي تجرم حروب العدوان والغزو والاحتلال.
هذا هو ما كان ومازال من أمر الغرب فيما خص حرب أوكرانيا التي نشبت في ربيع 2022 وأسقطت حتى نهاية سبتمبر / أيلول 2023 من المدنيين الأوكرانيين ما تجاوز 9500 بقليل. هذا هو ما كان ومازال من أمر الغرب فيما خص الغزو الروسي لأوكرانيا الذي استخدمت وتستخدم به أسلحة محرمة دوليا كقنابل الفوسفور الحارق والقنابل العنقودية وأحدث ويحدث من الدمار في المرافق المدنية عامة وخاصة ما يدخل في عداد جرائم الحروب.
أما فيما خص حرب إسرائيل على غزة، فإن الحكومات الغربية تتحايل على إدانة جرائم الحرب المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني بخطاب سياسي ودبلوماسي يبدأ وينتهي عند قتل حماس للمدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، وتؤسس عليه لما تسميه حق إسرائيل في الدفاع الشرعي عن نفسها وتوظفه كسياق لتمرير وتبرير ما يلحق بالمدنيين الفلسطينيين من عقاب جماعي ومقتلة أودت بحياة ما تجاوز 5000 من الأبرياء ودمار عام لم يتوقف لا عند المستشفيات ولا مباني وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية والإقليمية. وليس في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة ما يسمونه الدفاع الشرعي عن النفس، بل هي حرب عدوان وغزو لا تختلف عن الحرب الروسية على أوكرانيا في شيء.
ليس في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة ما يسمونه الدفاع الشرعي عن النفس، بل هي حرب عدوان وغزو لا تختلف عن الحرب الروسية على أوكرانيا في شيء
ولا يقل عن تحايل الغرب على جرائم إسرائيل لجهة السقوط الأخلاقي والسياسي والدبلوماسي ما تمارسه حكوماته وإعلامه من تزييف للحقائق بتجاهل وقائع الاحتلال والفصل العنصري والحصار الجاثمة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة منذ عقود طويلة. فالغرب الذي يرفض بأعلى صوت العدوان والغزو الروسيين لأوكرانيا ويعلن على رؤوس الأشهاد من الأمم والشعوب أن احتلال روسيا لأراضي أوكرانيا كارثة يجرمها القانون الدولي العام ولا تسقط بالتقادم وتلزم بفرض عقوبات قاسية على المعتدي المحتل ومناصرة الشعب الأوكراني الذي يواجه العدوان والأسلحة الفتاكة، هذا الغرب هو نفسه الذي تعايش مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ 1967 دون أن يناصر الشعب الخاضع للاحتلال أو يفرض عقوبات على المحتل الذي يفعل ما يحلو له دون حساب أو يهدده بعقوبات محتملة وهو يرتكب جرائم حرب متتالية في الضفة والقدس وغزة ويفرض عقابا جماعيا على شعب اعترف له العالم وقرارات الشرعية الدولية بالحق في تقرير المصير والدولة المستقلة.
هو ذات الغرب الذي، وعلى النقيض من موقفه من حرب أوكرانيا، يقدم مساعدات عسكرية ومالية واقتصادية هائلة لدولة الاحتلال ويترك لجرائمها الحبل على الغارب ولا يتحدث سوى على استحياء بالغ عن أهمية صون حياة المدنيين الفلسطينيين، بينما يمتنع عن تقديم مساعدات للضحية في غزة ويقبل لأيام حصار التجويع والتشريد الذي فرضه المحتل الإسرائيلي على القطاع بعد هجمات حماس دون معارضة أو انتقاد.
هو ذات الغرب الذي، وعلى النقيض من دفاعه المستميت عن حق الأوكرانيين الشرعي في مقاومة المعتدي والغازي والمحتل الروسي، يصمت بالكامل عن الحق الشرعي للشعب الفلسطيني في مقاومة المعتدي والغازي والمحتل الإسرائيلي الذي يرتكب جرائمه منذ ما يقرب من الثمانين عاما في ظل حماية غربية لم تنقطع يوما. بل أن التوسع المستمر في جرائم الاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحصار، كجرائم يمكن لتنفيذها واقع الاحتلال الجاثم على الأرض، لم يجد من الغرب طوال العقود والسنوات الماضية سوى الإدانة الواهية بين الحين والآخر ودون تهديد أو مجرد تلويح بعقوبات ممكنة إن من بوابة الأمم المتحدة صاحبة القرارات الملزمة بشأن عدم شرعية الاحتلال والاستيطان أو من أبواب الفعل الغربي الجماعي الذي ما أن أراد عقاب روسيا إلا وأغرقها في عقوبات تجارية ومالية ودبلوماسية من كل صوب وحدب.
ثم يأتي الرئيس الأمريكي جو بايدن ويساوى في تصريحاته العلنية بين أوكرانيا وإسرائيل كضحيتين ويطلب من الكونغرس مليارات الدولارات لدعمهما في وجه الاستبداد والظلم، وكأن الشعب الفلسطيني هو الذي يرتكب منذ عقود جرائم الاحتلال وكأن جيشه (غير الموجود) هو الذي يلقى الأسلحة المحرمة دوليا على رؤوس المدنيين الإسرائيليين ويقتل الأطفال والنساء والرجال دون عقاب أو حساب.
لم يعد حديث ازدواجية معايير الغرب كافيا، وليس في مجرد الإشارة إلى الانحياز الأمريكي والأوروبي ما ينقل عمق مأساة الوقوف مع الجاني وضد المجني عليه. نحن أمام سقوط شامل للغرب، أخلاقيا وسياسيا ودبلوماسيا. نحن أمام فشل كامل لحديث القيم الديمقراطية التي صار واضحا أنها لا ترى فينا كفلسطينيين وعرب سوى بشر من الدرجة الثانية لا حقوق لهم ولا حريات في مواجهة السيد الغربي. نحن أمام ظلم غربي يندى له جبين الإنسانية، ظلم يسكت صوت الضحية ويطلق صوت الجاني المعتدي والغازي والمحتل والمستوطن موظفا كل أبواقه السياسية والإعلامية.
مجددا أكرر، لكل ظلم نهاية.