باتت وقائع الأيام القليلة الأخيرة تقيس تقويم الموقف من مصير الحرب الدائرة على جبهة غزّة بالساعات لا بالأيام.
لم يعد الأمر مرتبطاً بانتظار ما سيحمله اليوم التالي، بل بما ستحمله الساعة المقبلة، سواء لجهة احتمال توسّع الحرب نحو جبهات أخرى، أو لجهة بقائها عند حدود جبهة غزّة، التي ستبقى خارج أيّ جهد دبلوماسي لوقف المواجهات العسكرية الدائرة فيها، من دون نيّة لأيّ جهة دولية أو قدرة لأيّ جهة عربية على وقفها. الثابت أنّ “الحرب طويلة”، كما يردّد المسؤولون الإسرائيليون.
بروفة توسيع الحرب والردّ عليها
في انتظار ما ستحمله الساعات المقبلة ويعدّل المعطيات الراهنة، يمكن القول إنّ نهار أول من أمس الخميس ثمّ مساءه شهدا على “بروفة” لما يمكن أن يكون عليه توسيع الحرب:
– إعلان استهداف “الحشد الشعبي” القاعدة الأميركية في منطقة التنف على مثلّث الحدود العراقية السورية الأردنية بصواريخ موجّهة، ثمّ استهداف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بالطائرات المسيَّرة والصواريخ.
– إعلان البنتاغون إسقاط ثلاثة صواريخ أرض-أرض، ومسيّرات مصدرها اليمن ويحتمل أنّها كانت نحو أهداف في إسرائيل.
– استمرار “الحرب بالواسطة” في القطاع وعليه، وإعطاء “الحزب” وطهران الانطباع أنّها قد تقود إلى حرب واسعة. وهي تجرّ إلى المزيد من المجازر من جانب إسرائيل، والمشاهد المقزّزة لما ترتكبه. وتزايد وتيرة الاشتباكات على جبهة جنوب لبنان، حيث يمهّد الحزب لأيّ عمل عسكري بإسقاط عيون إسرائيل عبر قصف كاميرات وأجهزة المراقبة على أعمدة مخصّصة لها، مع ما يرافق ذلك من تهديدات إسرائيلية كان لها صداها في الغرب، بعدما نجحت إسرائيل في تجييش الرأي العالمي وفق مقولة تهديد وجود إسرائيل.
– طلب البعثات الدبلوماسية الغربية تباعاً من مواطنيها في لبنان مغادرة الأراضي اللبنانية. وشمل ذلك إجلاء بعض موظّفي الأمم المتحدة من الأراضي اللبنانية، بموازاة تهيّؤ لبنان الرسمي، بإمكانيات متواضعة جداً، لاحتمالات حرب من الجبهة الجنوبية قرارها ليس في يده. وسبق كلّ ذلك إخلاء شركات الاستكشاف والتنقيب عن الغاز والنفط في آبار إسرائيل كلّ موظفيها.
ارتفعت حرارة التهديدات الإسرائيلية للبنان، المستمرّة منذ أسبوعين، بعدم السماح للحزب أن ينضمّ إلى الحرب لنصرة غزّة
الوزيرة الفرنسية: رسائل مخفيفة
ارتفعت حرارة التهديدات الإسرائيلية للبنان، المستمرّة منذ أسبوعين، بعدم السماح للحزب أن ينضمّ إلى الحرب لنصرة غزّة، لا سيما أنّ بعض قادة “حماس”، ومنهم رئيس المكتب السياسي في الخارج خالد مشعل، اعتبروا أنّ المطلوب من الحزب وإيران المزيد من المساعدة لغزّة. وواكبت هذه التهديدات تحذيرات عالية النبرة من دول غربية، لا سيما فرنسية وروسية، من أنّ مبادرة الحزب إلى فتح الجبهة العسكرية من لبنان ستعني تدميراً غير مسبوق لبنيته التحتية من قبل الجيش الإسرائيلي يؤدّي إلى خسائر هائلة. هذا ما حملته وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، التي قيل إنّ رئيس البرلمان نبيه بري فوجئ بخطورة ما نقلته، فيما تولّت موسكو إبلاغ سفراء عرب لديها، ومنهم سفير لبنان، بمخاطر فتح الجبهة من لبنان. ونقلت السفارة الروسية في بيروت الرسالة إلى الحزب. واستُخدمت في التحذيرات عبارة “سجّادة القصف” (carpet bombing).
قراءة في المأزق المزدوج
تشير قراءة أوساط دبلوماسية وجهات سياسية في فرنسا لخريطة الاحتمالات، إلى أنّ إسرائيل وإيران في مأزق بعد طوفان القدس.
إسرائيل حسبما عبّر قادتها أمام “خطر وجودي”، لأنّه لم يسبق أن قامت أيّ جهة عربية باقتحام أراضي 1948 التي أحكم الجيش السيطرة عليها منذ قيام الدولة العبرية بالحديد والنار. كان لـ”طوفان الأقصى” وقعٌ يدفع العقل الاحتلالي والاستيطاني إلى اعتماد أسلوب الإبادة ليس فقط في سياسة اقتلاع “حماس”، بل وفي خطة تهجير المدنيين الفلسطينيين إلى صحراء سيناء وكسر صمودهم بإحالة أبنيتهم إلى ركام، بالإفادة من الانحياز الغربي غير المتوازن إلى إسرائيل. فدول أوروبا وأميركا وقفت صفّاً واحداً مع الدولة العبرية بما يثبت المقولة التي ردّدها العرب في العقود الماضية من أنّها القاعدة المتقدّمة للغرب في الشرق الأوسط، غير المسموح بإضعافها وتعريضها للخطر الوجودي. شمل ذلك سياسة غير مسبوقة في بعض العواصم قمعت أيّ تضامن مع الفلسطينيين وما يتعرّضون له من مجازر مع توجيه غير مسبوق للإعلام ضدّ “حماس”.
تقول هذه القراءة إنّ استعادة إسرائيل القدرة الردعية دفعتها إلى اتخاذ قرار القضاء على “حماس” وتعطيل حاضنتها الشعبية في القطاع، عن طريق:
– القصف التدميري الممنهج لغزّة على مدى الأسبوعين الماضيين لتهجير أكبر قدر من المدنيين، وتجريدهم من إمكانية العودة.
– اغتيال أكبر عدد من قيادات “حماس” العسكريين، كما حصل خلال هذا الأسبوع.
– دخول غزّة بعمق 20 كيلومتراً (من أصل 41 كلم هي طول القطاع) من الشمال والشرق، لإقامة حزام أمني ثابت يحول دون عودة المقاتلين إليه، وهو أمر يوجب تهجير من في تلك المساحة.
تعتبر الجهات الدبلوماسية صاحبة هذه القراءة أنّه لم يعد بإمكان إسرائيل في ظلّ القيادة السياسية الحالية والقلق الجمعي الإسرائيلي على الوجود، التراجع عن هذه الأهداف، التي تحظى بتأييد غربي، لأنّها تتمّ تحت عنوان تبنّاه الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو القضاء على “حماس”. فإذا تراجعت القيادة الإسرائيلية فسيؤدّي ذلك إلى المزيد من التقهقر في صورتها الردعية، وفي قدرتها على الاستمرار كدولة محتلّة. إسرائيل أمام نقطة اللاعودة. ولذلك لا توافق الدولة العبرية على كلّ اقتراحات وقف النار، وتدعمها في ذلك أميركا التي رفعت الفيتو في مجلس الأمن ضدّ مشروعَي القرار الروسي، ثمّ البرازيلي.
إيران… بين منع إسقاط “حماس” وحفظ الحزب
أمّا مأزق إيران فيكمن في أن لا تجاوب مع إصرارها هي وسائر الدول العربية على وقف النار، لا من إسرائيل ولا من الولايات المتحدة الأميركية، التي تقتصر الاتصالات التفاوضية معها على مسألتَي الإفراج عن الرهائن الغربيين بالدرجة الأولى ثمّ الإسرائيليين، والطلب إليها منع انخراط أذرعها، لا سيما الحزب في لبنان، في الحرب. طهران، حسب قراءة الجهات الدبلوماسية نفسها، تريد تكرار تجربة 2006 في لبنان، أي توجيه ضربة لإسرائيل ثمّ وقف النار للتفاوض على الجنديّين اللذين استطاع الحزب في حينها أسرهما قتيلين، والإفادة من الوقت لتعزيز قدرات الحزب العسكرية، كما حصل على مدار 17 عاماً، بموازاة تحصين نفوذها الإقليمي. لكنّ هذا السيناريو متعذّر في ظلّ القرار الإسرائيلي المدعوم أميركياً من خلال الحضور العسكري والسياسي غير المسبوق في المنطقة.
في غياب أيّ أفق لوقف النار، وفي ظلّ إصرار إسرائيل على “اقتلاع حماس” واستعادة صورتها الردعية، باتت طهران أمام خيار من اثنين:
– أن تنجد الحركة عبر فتح سائر الجبهات كما أظهرت البروفة التي تستعرضها من الجنوب والتي ألحقتها بأعمال عسكرية من العراق واليمن وقبلهما من سوريا بإطلاق صواريخ على الجولان المحتلّ. والجبهة الأساس في هذا المجال هي الجبهة اللبنانية، التي يمكن أن تُشغل الجيش الإسرائيلي أثناء اقتحامه غزّة. وفي رأي الجهات الدبلوماسية والأوساط السياسية في باريس أنّ من الطبيعي أن تقلق القيادة الإيرانية على ضرب “حماس”، لأنّه يقود بالحصيلة السياسية إلى إضعاف درّة التاج الإيراني الحزب، وأذرعها الأخرى في المنطقة، التي أسّستها وبنتها تحت شعار القضية الفلسطينية وتحرير القدس والتراب الفلسطيني ورفض التسويات السلمية. وقد يقلّل خيار فتح الجبهات من خسائر هذه الأذرع ويساعد “حماس” على الصمود.
إقرأ أيضاً: أميركا تفاوض إيران وتترك غزّة لإسرائيل
– أن تفضّل إيران خفض خسائر “حماس” وأضرار الانزلاق إلى فتح الجبهات للاحتفاظ بسائر أذرعها، لأنّها مع قدرتها على إلحاق الأذى بإسرائيل، فلن تتمكّن من إنقاذ “حماس”، وبالتالي تفضّل حفظ الحزب وسائر التنظيمات الملحقة بها في المفاوضات اللاحقة المفترضة، فيكون لها مقعد تفاوضي على الحلول إذا غلب هذا التوجّه بعد الانتقام الإسرائيلي. وهذا الخيار لا يمنع مواصلة المناوشات المنضبطة على الجبهة اللبنانية، على الرغم من الخسائر المحدودة التي يتكبّدها الحزب، ولا يحول دون استخدام جبهات أخرى للتحرّش بالوجود الأميركي في المنطقة بين الحين والآخر، لأنّ فتح الجبهات سيرسّخ الوجود الأميركي في المنطقة أكثر فأكثر.