تدلل التظاهرات الحاشدة التي تشهدها هذه الأيام العواصم والمدن الأمريكية والأوروبية على تبني قطاعات شعبية مؤثرة في الغرب لموقف رافض للحرب في غزة ومناهض للجرائم المروعة التي ترتكبها إسرائيل ومطالب بوقف فوري لإطلاق النار. وليست الجاليات العربية والإسلامية هي فقط من تتبنى هذا الموقف، بل تشترك معها المجموعات المنتمية إلى اليسار مثل «حياة السود مهمة» في الولايات المتحدة والحركات البيئية في أوروبا مثل «الجمعة من أجل المستقبل» وأصوات ليبرالية تتنوع من «يهود من أجل السلام الآن» التي قامت بتظاهرات في واشنطن إلى تجمعات طلابية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها.
هل يعني ذلك أن المجتمعات الغربية أمام تحولات جذرية في التيار العام الذي اعتاد تأييد إسرائيل والنظر بريبة إلى فلسطين وحقوق شعبها المهدرة؟
الحقيقة هي إننا في معية تنازع بين الرواية الغالبة (المهيمنة) على توجه الأغلبيات الغربية والتي تصمت عن انتقاد سياسات الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والحصار الإسرائيلية بسبب التعاطف المبدئي مع الدولة العبرية ووجودها الحديث نسبيا (1948) وبسبب محيطها الإقليمي المتردد في الانفتاح عليها، وبين رواية ظلت مهمشة لفترة طويلة تموضع مسألة إسرائيل في علاقتها بالواقع الفلسطيني الذي يتعرض منذ بدايات القرن الماضي للاضطهاد والتهجير والعنف الممنهج بفعل السياسات والممارسات الإسرائيلية وبهدف أن يخلي الأرض ويرحل عنها ويسقط حق التقرير المصير والعودة والدولة المستقلة من حساباته.
رواية الهوامش هذه ترفض أن تقتصر مقومات النظر إلى إسرائيل على ما حدث ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين من إبادة جماعية ليهود أوروبا وارتحال ما تبقى منهم إلى أرض فلسطين وتأسيس دولتهم بخليط من أفكار اليسار الاجتماعي في ذلك الوقت، وتوسع من دوائر النظر والتحليل بحيث تسرد حقائق حرب 1948 وما ترتب عليها من نكبة فلسطينية وحقائق ما حدث خلال العقود الماضية من تدمير لمقومات حياة الفلسطينيين ومن تحايل على نضالهم الوطني.
القضية الفلسطينية تظل في الجوهر قضية حق قومي وحق تقرير مصير لشعب يواجه منذ ما يقرب من قرن من الزمان مصائر الاضطهاد والعنف والتهجير والفصل العنصري
رواية الهوامش هذه ترفض الخلط المتعمد والمستمر بين الانتقاد المشروع لجرائم إسرائيل وللعجز العالمي عن محاسبتها وبين التورط في أقوال أو أفعال معادية للسامية تتعامل بعنصرية مع اليهود كجماعة دينية وتعادي وجودهم وتهاجم منشآتهم الدينية ومقابرهم وتروج لنظريات المؤامرة فيما خص سيطرتهم السياسية والمالية المفترضة على العالم.
رواية الهوامش هذه تجد بيئاتها الحاضنة، والمقصود هنا هو المساحات الآمنة في الفضاء العام للبحث الحر عن الحقيقة والتعبير الحر عن الرأي والتحرك الجماعي السلمي للضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر في السياسات الخارجية تجاه إسرائيل وفلسطين، تجدها عادة في الجامعات الأمريكية والأوروبية وفي التجمعات السياسية والأهلية التي تدافع عن قضايا الحق في الحياة والحريات وحماية المظلومين وفي بعض وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تقيد التعبير الحر عن الرأي إلا فيما خص الترويج للعنف. غير أن الجديد في الحرب الوحشية الراهنة في غزة هو أن رواية الهوامش أصبحت تجد مكانا لها في وسائل الإعلام التقليدية في الغرب المسيطر عليها عادة من قبل دعاة الرواية الغالبة المنحازة إلى إسرائيل وإن كان بشكل احتجاجي ـ استقالة الكاتبة في نيويورك تايمز جاسمين هيوز بعد أن وقعت على بيان يرفض الحرب وينتقد إسرائيل ويطالب بحماية أهل غزة مثالا.
وصارت تجد لها مكانا أيضا في المؤسسات الرسمية التي لم يعد نفر من العاملات والعاملين بها يستطيع الصمت على الانحياز الأعمى لحكوماتهم لإسرائيل والصمت المطبق فيما خص ضرورة الوقف الفوري لآلة القتل المنفلتة في غزة ـ استقالة جوش بول مسؤول وزارة الخارجية الأمريكية من منصبه اعتراضا على عجز حكومته عن منع استخدام إسرائيل للسلاح والمساعدات المقدمة منها في ارتكاب جرائم حرب في غزة.
هذا هو جوهر التنازع الحادث الآن في الولايات المتحدة وفي أوروبا بين الرواية الغالبة ورواية الهوامش. وبين التنازع في الفضاء العام وبين التأثير في سياسات وقرارات الحكومات مساقات شاسعة. لذلك، سيكون من الخطأ توقع حدوث تغيرات جذرية في الأزمة الراهنة من قبل واشنطن أو لندن أو باريس أو برلين. غير أن من الخطأ أيضا استبعاد تداعيات الاتساع التدريجي للبيئات الحاضنة لرواية الهوامش المنصفة للحق الفلسطيني على إدخال شيء من التوازن على ما اعتادت عليه السياسة والصحافة والجامعة من انحياز كامل لإسرائيل.
ويمكن للجاليات العربية والإسلامية في الغرب وللتيار العام في مجتمعاتنا ذات الأغلبيات العربية والإسلامية أن يسهم في ذلك بالابتعاد عن الأقوال والأفعال التي تدخل في عداد العداء للسامية وبالابتعاد عن الصمت عن إدانة قتل المدنيين وعن تديين القضية الفلسطينية التي تظل في الجوهر قضية حق قومي وحق تقرير مصير لشعب يواجه منذ ما يقرب من قرن من الزمان مصائر الاضطهاد والعنف والتهجير والفصل العنصري.