غياب أم تغييب؟: دوافع “خفوت” دور قاآني في حرب غزة

غياب أم تغييب؟: دوافع “خفوت” دور قاآني في حرب غزة

منذ تصاعد حدة الحرب في قطاع غزة، على خلفية العملية العسكرية التي شنتها كتائب القسام- الذراع العسكرية لحركة حماس- في 7 أكتوبر الفائت (2023)، كان لافتاً أن معظم كبار المسئولين الإيرانيين، على المستويين السياسي والعسكري، انخرطوا في الجدل الذي دار حول الحرب، حيث كان القاسم المشترك فيما بينهم هو التحذير من احتمال توسع نطاقها ليشمل المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، التي بدأت فعلاً في استهداف المصالح الأمريكية، إلى جانب شن عمليات محدودة ضد إسرائيل.

إلا أن الوحيد الذي بدا لافتاً استثنائه من الانخراط في هذا الجدل هو قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري اسماعيل قاآني، رغم أنه من المفترض أنه المسئول الأول المنوط به الإدلاء بمثل تلك التصريحات، على أساس أن العمليات العسكرية الحالية التي تدور رحاها داخل قطاع غزة تقع ضمن نطاق مهامه المباشرة، باعتباره يقود الفيلق المسئول عن إدارة العمليات الخارجية لإيران.

إذ لم يسجل أى تصريح لقاآني منذ بداية الحرب الحالية، بل إنه لم يظهر في أي نشاط سواء داخل إيران أو خارجها، منذ ما قبل 7 أكتوبر الفائت، رغم أن بعض التقارير تشير إلى تواجده في بعض الدول التي تمتلك فيها إيران نفوذاً على غرار العراق وسوريا ولبنان. وكل ما ذكرته وسائل الإعلام الإيرانية عنه خلال تلك الفترة هو التذكير بما قاله قبل عام عن “مستقبل إسرائيل”.

أسباب عديدة
يمكن القول إن عدم ظهور قاآني على مسرح الأحداث في الفترة الحالية يدخل في سياق “التغييب” وليس “الغياب”، بما يعني أن عدم مشاركته بشكل علني في الجدل الحالي، والرسائل المتبادلة بين إيران وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، كان خطوة متعمدة من جانب النظام الإيراني يمكن تفسيرها في ضوء اعتبارات أربعة رئيسية تتمثل في:

1- تجنب الإيحاء بإدارة الحرب: يُضفي أى ظهور أو تفاعل مباشر لقائد فيلق القدس مع تطورات الحرب الحالية وجاهة خاصة على التكهنات التي كانت تشير من البداية إلى أن إيران لم تكن على علم فقط بما سوف يجري على صعيد المواجهة بين إسرائيل وحركة حماس، وإنما كانت ضالعة في التخطيط لها، وفي إدارتها في مرحلة ما بعد التصعيد العسكري الإسرائيلي في القطاع.

وهنا، فإن ذلك يمثل محظوراً سعت إيران منذ البداية إلى تجنبه، باعتبار أنه يزيد من المؤشرات التي توحي بأنها بالفعل ضالعة في ما يجري على الأرض، على عكس ما سعت إلى تأكيده، وعلى لسان أكبر مسئول فيها، وهو المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي الذي أكد أكثر من مرة أن إيران لم يكن لها دور في ما حدث رغم دعمه للعملية العسكرية التي شنتها حماس.

وقد كان لافتاً أن كل المسئولين الإيرانيين حرصوا فيما بعد على تكرار الرسالة نفسها، بل إن الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله تبنى الموقف نفسه، في الكلمة التي ألقاها في 3 نوفمبر الجاري.

ويوحي ذلك في المقام الأول بأن إيران لا تريد منح خصومها مبررات إضافية لاستهدافها أو جرها لحرب أوسع نطاقاً مما يجري حالياً في غزة، على نحو ترى أنها لا يتسامح مع حساباتها ومصالحها في الوقت الحالي.

2- ضبط حدود انخراط الوكلاء: لا يمكن استبعاد أن تكون التقارير التي أشارت إلى قيام قاآني بزيارات لكل من العراق وسوريا ولبنان خلال مرحلة ما بعد 7 أكتوبر الفائت، صحيحة. وهنا، فإن الهدف الأهم بالنسبة لإيران هو ضبط حدود انخراط المليشيات الموالية لها في الحرب التي تدور رحاها الآن في القطاع. فقد كان لافتاً أن المليشيات الموجودة في كل من العراق وسوريا ولبنان شاركت في التصعيد بطريقة أو بأخرى.

إذ يواصل حزب الله مواجهاته “المنضبطة” مع إسرائيل، ويبدو أنه سيتبنى الموقف نفسه خلال المرحلة القادمة، رغم تلميح نصر الله في كلمته إلى احتمال توسيع نطاق الحرب الحالية. كما شنت الفصائل الفلسطينية في كل من سوريا ولبنان هجمات محدودة ضد إسرائيل، بالتنسيق مع كل من إيران والنظام السوري وحزب الله. فيما تكفلت المليشيات العراقية باستهداف القواعد الأمريكية في كل من العراق وسوريا، رغم التهديدات الأمريكية المتكررة بالرد على ذلك، ورغم قيام واشنطن فعلاً باستهداف موقعين تابعين للحرس الثوري الإيرانية في البوكمال في 30 أكتوبر الفائت.

هنا، فإن هذه المهمة التي ربما يكون قاآني حريصاً على إتمامها في الوقت الحالي لا تنفصل عن سعى إيران إلى ما يمكن تسميته بـ”درء المخاطر” القائمة حالياً بسبب استمرار اتهامها من قبل بعض الاتجاهات بالمسئولية عن العملية العسكرية التي شنتها حماس داخل إسرائيل في 7 أكتوبر الفائت. فالهدف هو عدم تجاوز الهجمات التي تشنها الفصائل الموالية لها الخطوط الحمراء التي حددتها واشنطن وتل أبيب، وربما طهران نفسها، من أجل تجنب المغامرة بتوسيع نطاق الحرب وبالتالي تورط إيران مباشرة فيها.

لذا، فإن التقارير التي تتحدث عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة بين المليشيات العراقية لمتابعة ما يجري على الأرض داخل قطاع غزة واتخاذ موقف منه، فضلاً عن قيام بعض قيادات وكوادر تلك الفصائل بزيارات إلى كل من سوريا والعراق وإيران، كلها توحي، إن صدقت، بأن قاآني ليس بعيداً عنها، باعتبار أن الهدف الأساسي من ذلك كله هو أن تتمكن إيران من مواصلة سياستها الحالية القائمة على “إدارة التصعيد عن بُعد”، وعدم منح الفرصة لزيادة احتمال توسيع نطاق الحرب بحيث تضطر ليس فقط لتغيير تكتيكاتها الحالية، وإنما استراتيجيتها الأساسية التي تعتمد على عدم الدخول في مواجهة مباشرة.

3- تجنب استنساخ أزمة سليماني: تعرضت إيران لضربة قوية، يمكن القول إنها لم تستطع استيعاب تداعياتها حتى الآن، بعد اغتيال القائد السابق لفليق القدس قاسم سليماني في العملية العسكرية التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 3 يناير 2020، في بغداد. فقد أسفرت تلك العملية عن ارتباك الدور الإقليمي الإيراني برمته، في ظل النفوذ القوي الذي استطاع سليماني امتلاكه وجعل منه رقماً صعباً داخل إيران وخارجها.

كما أن اغتيال سليماني كان بمثابة استهداف للنظام الإيراني بشكل مباشر، باعتبار أنه كان يمثل ما يمكن تسميته “رمز الحضور الخارجي” لإيران. ومن ثم فإن إقدام واشنطن على تصفيته كان ماساً بهيبة هذا النظام نفسه.

ومن هنا، فإن الأخير يبدو حريصاً على عدم مواجهة الأزمة مجدداً، بتعزيز احتمالات تعرض قاآني للتجربة نفسها، وهو خيار قد يكون مطروحاً لدى إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل الضربة القوية التي تعرضت لها الأولى في 7 أكتوبر الفائت وكشفت اختراقاً أمنياً واسع النطاق داخلها، فضلاً عن الهجمات المتواصلة التي تتعرض لها القواعد العسكرية للثانية، وتُحمِّل إيران المسئولية عنها.

4- إعادة التموضع في سوريا: ربما تحاول إيران حالياً استغلال انشغال إسرائيل بإدارة العمليات العسكرية في قطاع غزة، والمواجهة المحدودة مع حزب الله في جنوب لبنان، من أجل تكريس سيطرتها داخل سوريا وتبني سياسة جديدة لإعادة التموضع عسكرياً، وتحديداً في الجبهة الجنوبية. صحيح أن إسرائيل تواصل توجيه ضربات داخل سوريا، على نحو بدا جلياً في استهداف مطارى دمشق وحلب أكثر من مرة في الفترة الماضية، إلا أن ذلك لا ينفي أن استمرار الحرب في غزة قد يقلص من قوة وتأثير تلك الضربات، بحيث يتيح الفرصة لإيران من أجل الاقتراب بشكل أكبر من حدود إسرائيل، عبر تمكين المليشيات الموالية لها من الانتقال من بعض المناطق التي تسيطر عليها، مثل دير الزور، إلى جنوب سوريا.

ورغم أن هذا التوجه بالطبع يرتبط بما يجري داخل قطاع غزة، إلا أنه قد يعبر عن استراتيجية إيرانية بعيدة المدى، تتعلق بمحاولات طهران تكريس حضورها في سوريا، على نحو يتجاوز ما تضعه إسرائيل من خطوط حمراء وما تسمح به حسابات روسيا نفسها، التي كانت تستغل في المرحلة الماضية الضربات الإسرائيلية- التي تتم بالتنسيق معها- لكبح جماع التحركات العسكرية لإيران وحلفائها على الأرض.

في النهاية، قد يظهر قاآني في أية لحظة أو قد يواصل تحركاته في الخفاء، وهو مسار سوف يكون مرتبطاً، في كل الأحوال، بحسابات إيرانية معقدة، لا تفصل ما يحدث في غزة، عن ما يجري من تطورات في ملفات أخرى تحظى باهتمام خاص سواء بالنسبة لها أو بالنسبة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.