لماذا لا تريد الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل؟

لماذا لا تريد الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل؟

هل تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية من أدوات النفوذ والضغط والتأثير ما قد يمكنها إن أرادت من إيقاف حرب إسرائيل في غزة؟
الإجابة هي نعم مشروطة. فالقوة العظمى التي تمد الدولة العبرية بالسلاح والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية وتحرك قطعا عسكرية عملاقة لردع أعدائها وتدعمها ماليا وتوفر لها عالميا الغطاء الدبلوماسي الذي يحميها من المحاسبة على جرائم العدوان والاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحصار التي ترتكبها ويحول دون التزامها بالقرارات الدولية القاضية بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في الخامس من يونيو / حزيران 1967 وبقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، هذه القوة العظمى التي بحوزتها كل هذه الأدوات لا تستطيع بمكالمة تليفونية من رئيسها أو رسالة يبلغها وزير خارجيتها أن تجبر حكومات إسرائيل لا على القيام بأفعال معينة ولا على التوقف عن أفعال أخرى.
والسبب هو أن إسرائيل راكمت منذ تأسيسها في 1948 من عوامل القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية ما يمكنها أما من رفض الضغوط الأمريكية أو التحايل عليها حين تأتي، وبذاكرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية البعض من الأمثلة على رفض تل أبيب التوقف عن اجتياح لبنان في 1982 على الرغم من معارضة واشنطن وتحايلها على تنفيذ اتفاقات أوسلو طوال عقد التسعينيات وتفريغها لبنودها من المضمون بهدف الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في مواجهة ضغوط أمريكية مستمرة.
السبب أيضا هو أن إسرائيل طورت من علاقات التحالف وشبكات التعاون مع القوى الكبرى ما يسمح لها بالحد من وطأة الضغوط الأمريكية حين تواجه بها، ومن بين تلك العلاقات يبرز التحالف الاستراتيجي الكامل مع ألمانيا التي تدعم إسرائيل عسكريا وتكنولوجيا وماليا دون قيد أو شرط وبدبلوماسية مزدوجة المعايير تدافع عن جرائم الحرب المرتكبة راهنا في غزة كدفاع شرعي عن النفس وتتجاهل حقائق الاحتلال والاستيطان والتهجير والحصار القائمة منذ عقود ومن شبكات التعاون التي باتت مؤثرة في تفاعلات السياسة الدولية تجدر الإشارة إلى التعاون بين إسرائيل والهند في مجالات التكنولوجيا العسكرية والاقتصاد والتجارة الذي يدفع العملاق الآسيوي القريب تاريخيا من الحق الفلسطيني والعربي إلى الانحياز لحرب حكومة نتنياهو على غزة وتجاهل المطالبة بوقف إطلاق النار والامتناع في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت على القرار اليتيم الذي خرج منها مدينا لما يحدث في القطاع من قتل للمدنيين وتهجير لهم وتدمير للمنشآت المدنية.
لا يعني هذا أن الولايات المتحدة لم تستطع في بعض الأحيان الضغط الفعال على حليفتها الأهم في الشرق الأوسط ودفعها إما إلى الامتناع عن تنفيذ سياسات وممارسات عنيفة تجاه الشعب الفلسطيني والجوار العربي والإقليمي أو إلى تبني سياسات وممارسات تقلل من مناسيب الصراع وعدم الاستقرار الذي دوما ما رتبته العدوانية الإسرائيلية.
على سبيل المثال، أجبرت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب (1988 ـ 1992) حكومة رئيس الوزراء إسحاق شامير أثناء حرب تحرير الكويت في 1990 ـ 1991 على الامتناع عن الرد على الهجمات الصاروخية العراقية (هجمات سكود) التي لم تخلف الكثير من الأضرار لا في الأرواح ولا المنشآت وأراد بها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كسب تأييد الرأي العام العربي لغزوه الجنوني للكويت والتهرب من نتائجه الكارثية. ثم عادت إدارة بوش الأب، بعد حرب تحرير الكويت ولتمهيد الطريق إقليميا لمؤتمر مدريد للسلام 1991 وحجبت مساعدات عن إسرائيل لكي تجبرها وبنجاح على التوقف عن نشاطها الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

إسرائيل راكمت منذ تأسيسها في 1948 من عوامل القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية ما يمكنها أما من رفض الضغوط الأمريكية أو التحايل عليها حين تأتي

وكذلك فعلت، وإن بدرجة أقل لجهة شدة الضغوط وفاعليتها، إدارة بيل كلينتون الأولى والثانية (1992-2000) وإدارة بوش الابن الأولى (2000-2004) فيما خص مطالبة حكومات إسرائيل بالتوقف مؤقتا عن النشاط الاستيطاني وللتفاوض بجدية مع منظمة التحرير الفلسطينية ثم مع السلطة الفلسطينية بشأن قضايا التسوية السلمية من حدود دولة فلسطين إلى مسألة اللاجئين ووضع القدس، وطرحت الإدارتان خططا متماسكة للاقتراب من تحقيق السلام (والإشارة هنا إلى ما سمي بمحددات كلينتون المعلنة في 2000 وصيغة بوش وخارطة الطريق المعلنتين في 2003) لم يكن من السهل تجاهلها. كما أن إدارتي باراك أوباما (2008 ـ 2016) مارست ضغوطا صريحة لإبعاد إسرائيل عن مهاجمة إيران ومنشآتها النووية عسكريا ووقعت، على الرغم من معارضة تل أبيب والرفض الصاخب لأنصارها في واشنطن، على المعاهدة الإطارية للإدارة السلمية للطموحات النووية للجمهورية الإسلامية والحد من العقوبات المفروضة عليها.
كانت هذه بعض الأمثلة على الحالات القليلة التي أرادت بها الولايات المتحدة الضغط على حليفتها الشرق أوسطية وحصلت على شيء من التغيير في السياسات والممارسات الإسرائيلية. غير أن الأمثلة المقابلة على عدم رغبة واشنطن في الضغط على تل أبيب وانحياز إداراتها، جمهورية كانت أو ديمقراطية، لها تظل أكثر وأشمل بكثير.
لذلك يصبح السؤال المنطقي التالي هو لماذا لا تريد الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل ولماذا تترك لها المجال العسكري والأمني والسياسي في الشرق الأوسط مفتوحا لممارسات تضر في التحليل الأخير بعضا من المصالح الاستراتيجية الأمريكية كفرض حالة من الاستقرار الإقليمي والتسوية السلمية للصراعات والنزاعات وضمان علاقات تحالف جيدة مع الدول العربية القريبة منها والاحتواء الدبلوماسي لأدوار إيران والحركات المسلحة القريبة منها؟
تأخذنا الإجابة على هذا السؤال، أولا، إلى تفاصيل مجتمعية وسياسية داخلية في الولايات المتحدة التي، وبعيدا عن نظريات المؤامرة وعن التعميمات المخلة، تؤشر على الوزن النسبي الكبير لنخب المال والأعمال والإعلام القريبة من إسرائيل في تحديد هوية ممارسي العمل التشريعي والتنفيذي على المستوى الاتحادي (الكونغرس والبيت الأبيض) وعلى مستوى الولايات (برلماناتها وحكامها) من خلال تمويل الحملات الانتخابية وتحشيد الإعلام إن تأييدا أو معارضة.
تأخذنا الإجابة، ثانيا، إلى تفاصيل أيديولوجية وفكرية وإعلامية وأكاديمية في المجتمع الأمريكي عمقت منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) من تعاطف الأغلبية مع اليهود بعد فظائع النازية ضدهم ومن التماهي الشامل مع رواية إسرائيل عن تأسيسها وحقها في الوجود دون اعتبار للحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه ودون إدراك للجرائم التي ارتكبتها إسرائيل تجاهه من النكبة في 1948 إلى حرب العقاب الجماعي والتهجير والقتل الراهنة في غزة ودون رغبة في معرفة الرواية الفلسطينية عما حدث لهم طوال العقود الماضية.
تأخذنا الإجابة، ثالثا، إلى تمكن نخب المال والأعمال والإعلام القريبة من إسرائيل وكذلك جماعات المصالح المستفيدة منها من ترجمة التعاطف والتماهي هذين إلى عقيدة عامة تدافع دوما عن إسرائيل على الرغم من سياسات وممارسات الاحتلال والاستيطان والتهجير والفصل العنصري والحصار الظالمة وتصنف كل انتقاد لها أو مطالبة بالتغيير كمعاداة للسامية قد تكلف من يأتون بها خسائر شخصية باهظة من فقدان الوظائف في وسائل الإعلام والجامعات والمدارس إلى انتهاء الدور والمستقبل السياسيين.
تأخذنا الإجابة، رابعا، إلى شيوع المقولات العنصرية والمعادية للعرب والمسلمين، وبداخل الدائرتين يصنف الشعب الفلسطيني، ونزوع قطاعات سكانية مؤثرة في الولايات المتحدة إلى النظر إلينا بدونية وبقابلية لنزع إنسانيتنا إن كإرهابيين أو دعاة كراهية وتطرف وعنف أو كفاقدي أهلية تحركهم زعامات دينية وهمية أو رافضين للحداثة والتمدن. الشيوع العام لتلك المقولات العنصرية هو تحديدا العنصر الأهم الذي يجعل نائبة منتخبة في برلمان ولاية أمريكية تدعو إلى قتل كل الفلسطينيين دون أن تفكر مرتين فيما تصرخ به ويجعل وسائل الإعلام الأمريكية تتعامل بمعايير مزدوجة لا مواربة بها مع المدني الإسرائيلي صاحب الحق المقدس في الحياة والمدني الفلسطيني الذي ليس له، رضيعا كان أو طفلا أو سيدة أو رجلا، حق أصيل في الحياة ويمكن التضحية به لكي تمارس إسرائيل جرائمها التي يرونها دفاعا شرعيا عن النفس.
هكذا تصنع السياسة الأمريكية تجاه الدولة العبرية على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات، وهكذا تتشكل العقائد العامة وتتحدد وجهة النقاش العام بشأنها في مجتمع بدأت مؤخرا بعض قطاعاته (الشباب من المتعلمات والمتعلمين تحديدا) تنفتح على الرواية الفلسطينية وهو ما يستنفر في ظروف الحرب الراهنة مقاومة أنصار إسرائيل ويستدعي عنفهم اللفظي والمهني والسياسي ضد من يرفع الصوت برفض جرائم العقاب الجماعي والتهجير والقتل المرتكبة في غزة.
هكذا تصنع سياسة القوة العظمى تجاه إسرائيل، تصنع من الداخل الأمريكي. وهكذا يؤطر للانحياز المستمر والممنهج من قبل واشنطن إلى تل أبيب، حتى وإن كان ذلك على حساب مصالحهم في الشرق الأوسط وعلى حساب انتشار نظرة بالغة السلبية لهم ولمعاييرهم المزدوجة ولحديثهم المتهافت عن حقوق الإنسان التي لا تقبل الاجتزاء في أوكرانيا بينما تقبل النحر في فلسطين.