نتيجة وجود مؤسسات عديدة لها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبسبب اطلاعها على الواقع العياني لمعادلات الاحتلال وفظاعاته اليومية، ومسؤوليتها القانونية في وصف ما يحصل، وهو ما يؤدي، عمليا، إلى الكشف عن الجرائم والانتهاكات والاعتداءات التي تجري على السكان والبنى التحتية، بما في ذلك الاعتداءات الفعلية أو اللفظية على مواقعها وموظفيها واللاجئين إليها، فقد أصبحت «الأمم المتحدة» طرفا يتلقى بدوره هجمات إسرائيل.
لم يقتصر الأمر على الأشخاص الفاعلين من أعضاء منظماتها الإنسانية والحقوقية والإغاثية الموجودين على الأرض في غزة والضفة الغربية، أو المولجين بشؤون المسألة الفلسطينية إنسانيا وحقوقيا وإغاثيا وسياسيا، بل امتدّ الأمر إلى أسس المنظمة الأممية النظرية وشرعها ومبادئها، مثل ميثاق الأمم المتحدة، الذي هو بمثابة القانون الدولي، ومؤسساتها التي ترتبط بشكل أو آخر بالفلسطينيين.
ضرب أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للمنظمة الأممية، مثالا سياسيا وإنسانيا مهما حين صرح، بعد أسبوعين من العدوان الإسرائيلي على غزة، بأن الفلسطينيين يتعرضون «لاحتلال خانق على مدار 56 عاما» وأنهم «رأوا أراضيهم تلتهمها المستوطنات، وتعاني العنف. خنق اقتصادهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم بالتوصل إلى حل سياسي لمحنتهم» وأن «الهجمات المروعة» (التي قامت بها «حماس») «لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني».
يشكل رد فعل سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، غلعاد اردان، الذي صرح أن غوتيريش «ليس مؤهلا لقيادة الأمم المتحدة» تمثيلا بليغا لاعتبار إسرائيل نفسها فوق العالم، وأنها الدولة التي تحدد من يقود الأمم المتحدة، أما سؤال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين لغوتيريش: «في أي عالم تعيش؟» فهو تعبير آخر يقول ضمنا إن الافتراس والهمجية والعنصرية هي قواعد العالم الذي تعيش فيه إسرائيل.
قدّمت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة في الأمم المتحدة، إجابة تنقض سؤال كوهين حين فككت المبرر القانوني للحرب الإسرائيلية على أهالي غزة بإبطال الادعاء القانوني بأن حربها هي «دفاع عن النفس» حسب البند 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وهو حق، كما قالت ألبانيز، لا تملكه إسرائيل لأن ما يجري ليس حربا بين دولتين ولكن بين إسرائيل وجماعة مسلحة داخل أراض محتلة. غزة، حسب السوابق القضائية المؤكدة للجهاز القضائي للأمم المتحدة، ليست كيانا قائما بذاته بل جزءا من الأراضي التي تحتلها إسرائيل ولا يمكن بالتالي شن حرب كما لو أن غزة هي دولة أو كيان سياسي مستقل.
عبر حربها على غزة، انتقلت إسرائيل عمليا من انتقاد المنظمة الأممية وتهديد أمينها العام إلى استهداف مؤسساتها ماديا، وهو ما أكده فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة للإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) حين اعتبر ما تقوم به إسرائيل محاولة متعمدة لخنق عمل الوكالة الإنساني في غزة.
تحدثت مديرة الوحدة الإقليمية للإعلام في برنامج الغذاء العالمي عن تعرض سكان غزة، الذين نجوا، حتى الآن، من الموت، إلى خطر الموت جوعا بسبب الاكتظاظ والظروف المعيشية غير الصحية وقلة حجم المساعدات التي تدخل غزة، وهو ما جعل شعب غزة بأسره محتاجا لمساعدات غذائية.
مديرة الإعلام في وكالة أونروا، صرّحت أمس أن سكان غزة يعيشون جحيما منذ أسابيع، وأن إسرائيل تستخدم المياه والوقود والغذاء والمساعدات الإنسانية سلاحا ضد أهالي غزة، كما أشارت إلى إجبار الفلسطينيين، مجددا، على الهجرة الجماعية، وعلى عدم وجود مناطق آمنة له.
قتلت إسرائيل مئة وثلاثة من موظفي الأمم المتحدة في غزة، والذين لم يكن لهم أي علاقة بهذا الصراع، وهو ما يمكن قراءته كدليل على الإرهاب الممنهج الذي يستهدف المدنيين، كما يمكن قراءته باعتباره استهدافا مباشرا للأمم المتحدة.
في المواجهة مع الأمم المتحدة لا تكتفي إسرائيل بتصريحات الاستعلاء والاستقواء على المنظمة الأممية بل تقوم عمليا بقصف المنظمة الأممية التي تجمع الإنسانية، وتقتل موظفيها وتشل عملياتها، وهو ما يؤطرها ضمن حقيقتها الفعلية كدولة إرهاب مارقة وخارجة على قوانين البشرية.