تصاعد الموقف التركي، وارتفع مع الوقت سقف خطابه المتعاطف مع غزّة وفلسطين في مواجهة الحرب الإسرائيلية، وفظاعة الجرائم التي ترتكبها الدولة العبرية، بدعمٍ كاملٍ من الغرب المنحاز، والمنافق، والمنفصم حسب التعبيرات المتداولة سياسياً وإعلامياً في تركيا.
بدايةً كان الموقف التركي متحفظاً نسبياً تجاه عملية طوفان الأقصى، مع رفض استهداف المدنيين، والمطالبة بالإفراج عن الأسرى، خاصةً الأطفال والنساء والشيوخ منهم، لكن بعد الرد الإسرائيلي الدموي، وسقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين، تبدت معالم موقف أنقرة العامّ في رفض الخيار العسكري، والمطالبة بهدنةٍ إنسانيةٍ لإدخال المساعدات، ثم وقف إطلاق النار نهائياً، ورفع وتيرة التواصل مع الدول العربية والإسلامية والعواصم المعنية بالحدث، عبر اتصالات ولقاءات الرئيس رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته هاكان فيدان، وعلى سبيل المثال وفي الأسبوع الأخير فقط، سافر الرئيس أردوغان إلى ألمانيا ثم الجزائر، ويفترض أن يستقبل بعد أيّامٍ نظيره الإيراني. في حين استضافت عقيلته، السيدة أمينة، قمةً خاصّةً لزوجات زعماء الدول العربية والإسلامية المعنية بغزّة، والقضية الفلسطينية. كما زار فيدان أو اتصل مع نظرائه في القاهرة والدوحة والرياض وعمان وبيروت، كما استقبل نظيريه الأميركي والإيراني في أنقرة.
بتفصيلٍ أكثر، وقبل مرور أسبوعٍ على الحرب؛ يوم الجمعة 13 أكتوبر/تشرين الأول، كانت تركيا من أوائل الدول التي أرسلت مساعداتٍ لغزّة عبر مطار العريش ومعبر رفح، حيث وصلت ثلاث طائراتٍ محمّلةٌ بالمساعداتٍ، وصل حجم مجمل مساعداتها حتّى اللحظة إلى 800 طن، كما أرسلت 8 مستشفياتٍ ميدانيةٍ إلى سيناء، كأول دولة تفعل ذلك أيضًا، مع استقبال مئات الجرحى الفلسطينيين ومرافقيهم، وهي أوّل دولةٍ تستقبل عددًا معتبرًا من الجرحى للعلاج في مستشفياتها أيضًا، كما أعفت طلاب غزّة من رسوم الدراسة في الجامعات التركية.
في الأثناء، أيّ الأسبوع الأوّل من الحرب بلورت نواة الموقف الأول، عبر الدعوة إلى هدنةٍ إنسانيةٍ، وإدخال المساعدات إلى غزّة، مع التأكيد على ضرورة العودة إلى الخيار السياسي، ومعالجة أصل القضية الفلسطينية وجذرها، ورفض تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعدما قال أنه حضر إلى إسرائيل كيهوديٍ، إذ انتقده الرئيس أردوغان مباشرةً، وكان التصريح سبباً مباشراً في عدم استقباله في أنقرة، أثناء جولته الأولى على المنطقة منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يستقبله بعد شهرٍ تقريباً بخفوتٍ دبلوماسيٍ وتباينٍ واضحٍ بالرؤى والمواقف، ومحاولاتٍ لجسر هوة الخلافات، خاصّةً في ما يتعلق بزيادة المساعدات إلى غزّة.
توضح الموقف التركي شبه النهائي من الحرب في غزّة فلسطين، مع بلورة خطةٍ مزدوجةٍ، تتضمّن عزل إسرائيل دولياً
في الأسبوع الثاني؛ ارتفع سقف الخطاب أكثر مع رفض الجرائم الإسرائيلية ضدّ المدنيين، والدعوة إلى وقف إطلاق نارٍ نهائيٍ، وصفقة تبادل أسرى عادلةٍ وشاملةٍ، والعودة إلى الخيار السياسي المتمثّل في حلّ الدولتين، وفق قرارات الشرعية الدولية، والتأكيد على أن لا استقرار أو سلام في المنطقة دون حلٍّ نهائيٍ وعادلٍ للقضية الفلسطينية، كان قد أكّد عليه الرئيس أردوغان في خطابه أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامّة للأمم المتّحدة، قبل أيّامٍ من الحرب فقط.
في السياق، وجهت تركيا انتقاداتٍ حادةً للغرب؛ أميركا والاتّحاد الأوروبي، لنفاقه وتجييشه وحشده العسكري، كما حملته المسؤولية المباشرة عن الممارسات والجرائم الإسرائيلية، كونه قادرًا على إيقافها، مع التركيز على ازدواجية موقفه تجاه أوكرانيا وغزّة، مقارنةً مع تركيا المنسجمة دائماً مع نفسها وقناعاتها أخلاقياً وسياسياً هنا وهناك.
ثم ارتفع سقف الخطاب والموقف التركي ضدّ الدولة العبرية مجددًا، عبر اتهام الأخيرة بارتكاب جرائم حربٍ وإبادةٍ ضدّ الفلسطينيين، ووصفها بالدولة الإرهابية، بموازاة انتقادٍ دائمٍ لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، وتحميله المسؤولية المباشرة، واعتباره منتهيًا سياسياً، وطيّ صفحة التعاطي معه نهائياً، حسب تعبير الرئيس أردوغان حرفيًا.
خلال هذه الفترة استدعت تركيا سفيرها من تلّ أبيب، بعد سحب كلّ الدبلوماسيين الإسرائيليين من أنقرة، لدواعٍ أمنيةٍ نهاية أسبوع الحرب الثاني، لكن لم تقطع العلاقات نهائياً، دون استبعاد قطعها كجزءٍ من الضغط والعمل الجماعي رفقة الدول العربية والإسلامية، كي يكون مجديًا ومؤثرًا أكثر، حسب تعبير وزير الخارجية فيدان.
تظاهرات حاشدة في المغرب دعماً للفلسطينيين ورفضاً للتطبيع مع الاحتلال (فاضل سينا/فرانس برس)
ملحق فلسطين
التطبيع الإقليمي إلى أين بعد 7 أكتوبر؟
في الوقت ذاته أعلن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار عن تجميد التعاون مع إسرائيل، في ما يخص هذا القطاع شرق البحر المتوسط، كما أعلن وزير الاقتصاد عمر بولات عن انخفاض مستوى التبادل التجاري الذي يدار أساساً من القطاع الخاص، بين البلدين إلى النصف منذ أكتوبر الماضي. ويبدو أنّ العلاقات لن تعود إلى طبيعتها أبداً، حتّى انتهاء الحرب، مع تطورٍ مهمٍ ولافتٍ عبّر عنه وزير الخارجية فيدان بقوله إنّ تحسن العلاقات مع إسرائيل كان جزءًا من الانفتاح والتهدئة بالمنطقة كلها، وإن الظرف كلّه قد تغير الآن، مع الحرب والفظائع الإسرائيلية، ما يعني أن وتيرة التحسن “والتطبيع” ستتعثر حتماً، خاصّةً مع فهم تركيا واستيعابها لدلالات عملية طوفان الأقصى، والحرب نفسها، لجهة أنّ إسرائيل محميةٌ من الغرب، ولا يمكنها العيش ثلاثة أيّامٍ دون مظلّته، وستنشغل بنفسها لفترةٍ طويلةٍ بعد الحرب، ولن تكون قادرةً على التأثير سلباً، أو تهديد المصالح التركية لا شرق المتوسط ولا في المنطقة عامّةً.
في الأيام الأخيرة، توضح الموقف التركي شبه النهائي من الحرب في غزّة فلسطين، مع بلورة خطةٍ مزدوجةٍ، تتضمّن عزل إسرائيل دولياً، والسعي إلى محاسبتها على جرائمها أمام المحاكم الدولية، وفتح ملف سلاحها النووي المسكوت عنه، والدعوة إلى تشكيل لجنةٍ لإعادة إعمار غزّة بعد الحرب، مع الاستعداد للعب دورٍ مركزيٍ في الإعمار، ودور الضامن سياسيًا، تماماً كما هو الحال مع القضية القبرصية.
لا بدّ من الإشارة إلى التعاطف الكبير مع غزّة، والشعب الفلسطيني بصفته الأحبّ والأقرب إلى قلوب الأتراك، من مختلف الفئات والشرائح، والفعاليات التضامنية الواسعة جداً، كما في أيّ دولةٍ ديموقراطيةٍ، والانخراط الواسع والمنظم في حملة مقاطعة الشركات الدولية الداعمة لإسرائيل، 19 مليون تركي أوقفوا التعامل مع شركتي ماستر كارد وفيزا، وسط تغطيةٍ إعلاميةٍ مساندةٍ جداً للفلسطينيين، واعتداء ومضايقة مراسلي وسائل الإعلام التركية من قبل مواطنين إسرائيليين، أثناء تغطيتهم الحرب، والتطورات في فلسطين المحتلة.
مثالٌ واضحٌ لتطوّر الموقف التركي شاهدناه منذ أيّامٍ، في مؤتمر الرئيس أردوغان الصحافي رفقة المستشار الألماني أولاف شولتز، حين انتقد الأوّل إسرائيل بقوةٍ ووضوحٍ، لتجاوزها حقّ الدفاع عن النفس، ودعا إلى وقفٍ كاملٍ لإطلاق النار النهائي، مع الإشارة إلى ازدواجية الغرب في التعامل بين أوكرانيا وغزّة، وتبنّي تركيا؛ غير المديونة لإسرائيل، سياسةً مختلفةً وصائبةً وأخلاقيةً في القضيتين، إضافةً إلى تأكيد اعتباره حماس حركة تحرّرٍ وطنيٍ، تدافع عن حقوق الفلسطينيين المشروعة.
بعد الرد الإسرائيلي الدموي، وسقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين، تبدت معالم موقف أنقرة العامّ
هذا بموازاة دورٍ تركيٍ فاعلٍ في اللجنة السباعية، المنبثقة من القمة العربية الإسلامية في الرياض، المكلفة بمهمةٍ مزدوجةٍ، تتمثّل في الضغط لوقف إطلاق النار، وهي ستذهب إلى بكين وموسكو ولندن في جولةٍ أولى، يفترض أن تشمل عواصم أخرى في ما بعد، مع العمل على تنفيذ قرار كسر الحصار عن غزّة، ، ونفس المنحى رأيناه في التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية هاكان فيدان، لجهة التنسيق الفاعل والجماعي مع العواصم المعنية والمؤثرة، لتنفيذ قرارات مؤتمر القمة العربية الإسلامية تحديداً، وقف الحرب، وكسر الحصار عن غزّة، وإدخال المساعدات والمستلزمات الضرورية لها، من غذاءٍ ودواءٍ وماءٍ ووقودٍ.
ختامًا وبتركيزٍ، بدت تركيا منسجمةً مع نفسها وقناعاتها ورؤاها تجاه القضية الفلسطينية، والمنطقة عامّةً، ودورها كلاعبٍ مركزيٍ ومهمٍ فيها، لا يمكن تجاوزه، كونها دعت دوماً إلى حلٍّ سياسيٍ ودبلوماسيٍ وفق الشرعية الدولية وقراراتها ومواثيقها، كما بذلت وتبذل أقصى ما في وسعها لوقف الحرب، بالتنسيق مع الدول الفاعلة، وبالإمكانيات ووسائل الضغط السياسية والدبلوماسية والاقتصادية المتاحة لديها، مع دعمٍ وتمسكٍ بالرؤية الفلسطينية- العربية للحلّ، ورفضٍ قاطعٍ لأن تفرض إسرائيل تصوراتها بالقوّة الجبرية، في غزّة والضفّة الغربية والقدس وعموم الأراضي المحتلة عام 1967، التي تراها تركيا ملكًا للدولة الفلسطينية التي تعترف بها، وفق المواثيق والشرائع الدولية ذات الصلة.