منذ النكبة في عام 1948، وإسرائيل تراهن كما راهن الغرب بشكل عام، على عامل الوقت، كوسيلة فاعلة لنسيان القضية الفلسطينية، ذلك أن جيلاً يذهب وآخر يأتي، تتوارى القضية شيئاً فشيئاً، معالم البيوت تتلاشى بفعل التطوير والتحديث والإحلال، مفتاح المنزل الذي تحتفظ به الأسرة الفلسطينية يصبح من الماضي، عقد الملكية أيضاً يصبح كأن لم يكن، معالم الشوارع اختلطت، المالك الأصلي أصبح يجد صعوبة في التعرف عليها، فما بالنا بالورثة الذين لم يعيشوا بها أو يعاصروها، شيّد المحتل مؤامراته على مجرد اختفاء جيل النكبة، القضية أيضاً سوف تختفي، لم يعد لها أصحاب أو مدافعون، أو حتى مؤيدون، هكذا توهموا، وهكذا كانت حساباتهم.
بالتزامن كان المخطط الموازي، استقطاب العواصم العربية شيئاً فشيئاً، عقد اتفاقيات سلام منفردة أحياناً، اتفاقيات تطبيع مع البعض أحياناً أخرى، تحييد البعض الثالث، هكذا سارت الأوضاع، خصوصاً بعد اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، سقطت العواصم الواحدة تلو الأخرى في مستنقع العار، دون تحقيق أي مكاسب على أرض الواقع، اللهم إلا رضا الغرب على هذا النظام أو ذاك، إطالة عمر هذا الرئيس أو ذلك الملك، إعدام الرئيس العراقي صدام حسين كان مشهداً ماثلاً للعيان، التنكيل بالعقيد الليبي معمر القذافي أيضاً، دراما النهاية للعقيد علي عبدالله صالح في اليمن كذلك، هكذا كان التلويح ومازال، نتيجة طبيعية ما دامت القيادات في عالمنا العربي لا تستمد شرعيتها من الشعوب.
أثبتت مجريات الأحداث أننا أمام جيل فلسطيني من طراز مختلف، ليس ذلك فقط، بل ليس كأي حركات تحرر وطني، يتعامل مع القضية بعد 75 عاماً وكأنها وليدة اليوم
الهدف النهائي هو تجريد الشعب الفلسطيني من مصادر قوته، أو على الأقل مصادر الدعم، كان ذلك بالتوازي أيضاً مع عملية ترويض واسعة للمقاومة الفلسطينية التاريخية، ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية بشكل خاص، من خلال سلطة رسمية عبثية أشبه بسلطات البلدان المجاورة، اتفاقية أوسلو عام 1993 كانت البداية، مصطلح المقاومة في حد ذاته أصبح يمثل إخلالاً بالأمن وتحدياً للسلطة، (على اعتبار أن هناك أمن وهناك سلطة!). نستطيع التأكيد على أن المخطط حقق نجاحاً كبيراً فيما يتعلق بالعواصم العربية والسلطة الفلسطينية في آن واحد، إلا إنه فشل فشلاً ذريعاً فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني في مجمله، فشل في الرهان على عامل الوقت والنسيان، فشل رغم تغيير معالم الشوارع والمنازل والأحياء والمدن والقرى، فشل رغم الضغوط الأمنية وطلقات البنادق وأطنان القنابل وسجن الآلاف وقتل عشرات الآلاف، فشل رغم استهداف الأطفال والنساء بالدرجة الأولى، في إشارة إلى استهداف النسل الفلسطيني، فشل رغم الدعم الخارجي منقطع النظير للمحتل، وتخاذل المنظمات الدولية رغم كثرة عددها. بالفعل، أثبتت مجريات الأحداث على أرض الواقع أننا أمام جيل فلسطيني من طراز مختلف، ليس كغيره من الأجيال السابقة، ليس ذلك فقط، بل ليس كأي حركات تحرر وطني في كوكب الأرض، يتعامل مع القضية بعد 75 عاماً وكأنها وليدة اليوم، عامل الزمن أكسبه المزيد من الإصرار، القنابل والسجون أكسبته المزيد من الخبرة، الخيانة العربية الرسمية للقضية زادته بأساً، الدعم الخارجي للكيان المحتل زاده تحدياً، إلا أن الإمعان في الظلم، وهذا الدمار غير المسبوق، وهذه الأنهار من الدماء على مدار الساعة، تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن حل الدولتين أصبح مستحيلاً، اتفاقيات السلام لن تجدي نفعاً، حسن الجوار والتعايش السلمي لن يتحقق بأي حال من الأحوال، والأسباب في ذلك كثيرة:
أولاً: إسرائيل دولة احتلال، وهي كيان سرطاني غاصب، تم زرعه على حساب شعب آخر متجذر، مازال تراثه ملء السمع والبصر، مازال تاريخه مدوناً بحروف من نور في مجلدات العرب والعجم في آن واحد، وقد تعلمنا من حركة التاريخ، ألا يضيع حق وراءه مطالب.
ثانياً: حدود الرابع من يونيو 1967 التي ينص قرار الأمم المتحدة رقم 242 على إقامة دولة فلسطينية عليها، تمثل 22% فقط من أرض فلسطين التاريخية، بعد أن احتلت إسرائيل 78% منها عام 1948، الآن تقلصت هذه الأرض إلى أقل من 20% من مساحتها، بفعل الاستقطاع والمصادرة، وإقامة 144 مستوطنة عليها بالضفة الغربية وحدها، منها 12 في شرق القدس، بخلاف أكثر من 100 بؤرة استيطانية أخرى أقيمت بمبادرات من المتطرفين بمعزل عن السلطات الرسمية، أو بغض الطرف أياً كان، وفي كل الأحوال لم تعد تساعد طبيعة الجغرافيا الحالية على إقامة دولة متصلة الأبعاد.
ثالثاً: عمليات التغول في القتل والهدم في حد ذاتها جعلت من الصعب إيجاد صيغة للتعايش بين شعبين أحدهما صاحب الأرض مغلوب على أمره، والآخر كيان غاصب تم طرده من شتات الدنيا نتيجة سلوكيات طائفية مخربة ومدمرة معلومة للعالم أجمع، تم نبذها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهنا تجدر الإشارة إلى أن اليهود لم يعيشوا في أمان، قبل قيام دولتهم، سوى في بلدان العالم العربي.
رابعاً: الأطماع الإسرائيلية في المنطقة ككل لا تخفى على أحد، فما بالنا بالأراضي الفلسطينية، وقد ظهر ذلك واضحاً بشكل خاص في ظل الحكومة المتطرفة الحالية، حيث مخطط توطين أهالي غزة خارج القطاع، ومخطط توطين أهالي الضفة الغربية أيضاً خارج حدود الدولة الفلسطينية، بل التأكيد المستمر على يهودية الدولة، والإشارة في ذلك إلى تهجير فلسطينيي 1948 أيضاً من أبناء القدس وغيرها.
خامساً: عمليات الاستسلام العربية المتتالية، بالتطبيع تارة، وانتقاد المقاومة الفلسطينية تارة أخرى والتخلي عنها، منح كيان الاحتلال الفرصة لتنفيذ مخططاته بسهولة ويسر، بل القفز عليها بمزيد من الأطماع في البحرين الأبيض والمتوسط، وحتى المحيط الهندي وبحر العرب، وهو ما يجعل من قبوله بدولة فلسطينية على أي أرض وبأي شكل ضرب من الأوهام.
سادساً: يجب أن نعترف بأن الجيل الفلسطيني الجديد، خصوصاً من حركات المقاومة الإسلامية على اختلاف مسمياتها، لم يعد يقبل بوجود دولة احتلال على أي شبر من أرضه التاريخية، خصوصاً في ظل الممارسات العنصرية النازية، ما جعل الحياة تتساوى لديهم مع الموت والشهادة، في ظل هذا البؤس وهدر الكرامة الإنسانية على مدار الساعة.
سابعاً: ليس وارداً في برامج الأحزاب أو الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أي حل يتعلق بمغادرة المستوطنات القائمة حالياً بالضفة الغربية والقدس، أو تفكيكها، حتى يمكن تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو 1967، وهو الأمر الذي يصعب معه تنفيذ تلك القرارات للوصول إلى التسوية التي ترددها التصريحات والمبادرات هنا وهناك، (والتي تتحدث الآن عن دولة منزوعة السلاح، بجوار دولة نووية).
وفي هذا الإطار يمكن أن نكتشف أن استحالة حل الدولتين في ظل الظروف القائمة، يعود إلى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في آن واحد، وليس بسبب أحدهما فقط، أي أننا أمام موقف مشترك، رغم عدم الإعلان عن ذلك رسمياً، لا من هذا الطرف ولا ذاك، ناهيك عن أن دولة الكيان المحتل ترفض أيضاً حل الدولة الواحدة، لأسباب كثيرة، تتعلق بالخلل الديمغرافي، ذلك أن فلسطينيي الشتات فقط حال عودتهم يمثلون ضعف المجتمع اليهودي، ناهيك عن فلسطينيي الداخل. من هنا كان على العرب التعامل مع هذه الأوضاع بواقعية، إن أرادوا سلام وأمن واستقرار المنطقة على المدى البعيد، وذلك بتبني الطرح المنطقي والانحياز له، وهو ضرورة البحث عن وطن بديل للدولة الصهيونية، وليس العكس، ذلك أن طرح تهجير وإعادة توطين الفلسطينيين أصحاب الأرض يعد هزلاً مستمراً إلى ما لا نهاية، بعد أن ثبت بالدليل القطعي أن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن أرضهم، حتى إن تخلى عنهم العرب وغير العرب، وهو ما يوجب على السلطة الفلسطينية في رام الله بشكل خاص مراجعة أوضاعها العبثية هذه قبل فوات الأوان، بحسم أمرها، إما مع المقاومة وإما مع إسرائيل، ذلك أن أنصاف الحلول هنا لا تجدي نفعاً حتى للسلطة نفسها.
وعلى أية حال، لن ننتظر طويلاً حتى يثبت للعالم أجمع أن المقاومة الفلسطينية للاحتلال هي الحل الوحيد لتحرير الأرض، في ضوء ذلك التعنت الإسرائيلي، نتيجة الانحياز الدولي غير الأخلاقي لسلطة الاحتلال، وربما كان ما شاهدناه في الآونة الأخيرة من تحولات لصالح القضية، في مواقف كثيرة حول العالم، شخصية ودولية، عواصم ومنظمات، جماعات وأفرادا، هو أكبر دليل على أن إسرائيل أصبحت تمثل عبئاً كبيراً على مناصريها، وأن المجتمع الدولي أمام قضية عادلة، تتطلب فقط تقديم الدعم الإنساني لأصحابها، لأنهم أدرى بشعابها، ذلك أن الخطأ الأكبر في تاريخ القضية، كان تدخل الأشقاء في شؤونها، وكانوا في أوقات كثيرة، كما سجلت كتب التاريخ، أخطر عليها من الأعداء، وها هو التاريخ يعيد نفسه.