ما زال الموقف الأمريكي يمثل الأساس الواقعي في مسار العمليات العسكرية الإسرائيلية، في الحرب المفروضة على قطاع غزة. وبات واضحا أن واشنطن تسعى لضبط إيقاع الفعل العسكري، بما يضمن بقاء اليد العُليا فيه لإسرائيل، في سبيل تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها منذ اليوم الأول. لذلك اتخذ الدعم الأمريكي العسكري والسياسي والمادي مسارا تصاعديا في الحرب، منذ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول حتى الآن، بل شكّل موقف واشنطن الداعم لادعاءات إسرائيل، بأن حماس تستخدم المستشفيات كمراكز قيادة عملياتية، إضافة جوهرية لمضمون الدعم الذي تقدمه واشنطن، لما تضمنه من إشارات دفعت إسرائيل قُدما بخطتها لتدمير المؤسسات الصحية في قطاع غزة.
وفي هذا الصدد صرّح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي في البيت الابيض جون كيربي قائلا، (أستطيع أن أوكّد أن لدينا معلومات تفيد بأن حماس والجهاد الإسلامي استخدما بعض المستشفيات في قطاع غزة، بما فيها مستشفى الشفاء والأنفاق الموجودة تحتها لإخفاء عملياتهما العسكرية واحتجاز الرهائن). في حين كان البيت الأبيض قد أعلن رفضه قصف المستشفيات، مطالبا بضرورة حمايتها وعدم إطلاق النار داخل أروقتها، ما يؤشر بوضوح إلى كم الازدواجية والتخبط اللذين يُعاني منهما الموقف الأمريكي، كما يبين عدم وجود خطة واضحة لدى واشنطن لكيفية التعامل مع الحدث، رغم الاتصالات والزيارات التي قام بها بايدن ووزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات للمنطقة.
من الواضح أن هنالك مشكلة في الفهم الأمريكي لمعنى السلام، الذي يتحدثون عن ضرورة قيامه اليوم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في حين أن سلامهم يتجاوز الفلسطينيين
إن تقييم الدور الأمريكي في الحرب المفروضة على غزة حتى الآن، يشير إلى أن الإدارة والكونغرس كلاهما فشلا فشلا ذريعا في اتخاذ موقف مسؤول في هذه الأزمة، ولو كانت للولايات المتحدة خطة واضحة، لاستطاعت إقناع حكومة نتنياهو بوقف القتال منذ الأيام الأولى، لكنهم على العكس من ذلك، تبنوا كل الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة، بل إن بايدن وفي مقال له في صحيفة «واشنطن بوست» قال، إنه يعارض وقف إطلاق النار لأنه يريد حل الصراع. والمعنى هنا واضح جدا، أي أنه يأمل في أن تكون نتيجة هذه المعركة القضاء التام على المقاومة، وبالتالي سيكون من الممكن حل الصراع وفق الرؤية الإسرائيلية. وقد يكون التساؤل مشروعا عندما يُقال، إذن لماذا وافقت ودعمت الإدارة الإمريكية هُدن تبادل الرهائن والأسرى؟ في الحقيقة هي فعلت ذلك لأنه من الناحية الاستراتيجية تحتاج الولايات المتحدة لتحريك الموقف، بمعنى أن تكون مؤيدة للموقف الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي، وعلى مستوى التفاصيل أيضا، فهذه قضية مُكلفة سياسيا واستراتيجيا بالنسبة لها، فالولايات المتحدة لها دور دبلوماسي في الشرق الأوسط، ولها علاقات تحالف وشراكة مع بعض الدول العربية، لذلك وافقت على الهُدن من أجل أن تُقدّم شيئا من التوازن لهذه العلاقات. هناك أيضا موازنة أخرى مهمة جدا في الداخل الأمريكي في قضيتين رئيسيتين هما: أولا وجود رهائن يحملون الجنسية الأمريكية لدى المقاومة الفلسطينية. وثانيا في حزب بايدن (الحزب الديمقراطي) هناك جناح يساري مهم ومؤثر، يعارض المسار الذي اختطه بايدن في هذه الأزمة، هذا الجناح يدعو إلى وقف إطلاق نار فوري، والكف عن سياسة الدعم المطلق والمستمر لإسرائيل. إذن بايدن بحاجة لسياسة متوازنة داخل حزبه، وعلى مستوى العلاقات الخارجية كذلك، من هنا كان التركيز الأمريكي على الحاجة للتوصل إلى هُدنة. ومع ذلك لا بد من القول بأنه قد حصل بعض التغيرات في الموقف الأمريكي، مقارنة بالأيام الاولى بعد السابع من أكتوبر. في البداية كان الموقف الأمريكي الثابت هو، أن إسرائيل تعرضت إلى هجوم، وأن من حقها أن ترد على ذلك، لكن في تفاصيل هذا الموقف كان هناك رفض لاحتلال قطاع غزة، رفض تهجير السكان إلى دول الجوار، والحديث عن حل الدولتين، حتى إن الصحافة الإسرائيلية قالت على لسان مسؤولين إسرائيليين، بأن الضغط الأمريكي والمصلحة الأمريكية هما من أجبرا إسرائيل على الموافقة على الهدنة. كما كان هناك حديث عن مؤشرات عديدة على تقاطع مصالح نتنياهو من جهة، ومصالح بايدن من جهة أخرى، فهذا الأخير تهاوت شعبيته إلى أدنى مستوى، ويحتاج إلى صورة نصر بإخراج عشرة من الرهائن يحملون الجنسية الأمريكية حتى يرفع مستواه. وأيضا ليقول للعرب إنه بذل جهدا في الضغط على إسرائيل للإفراج عن بعض الأسرى الفلسطينيين من سجون العدو، في حين كانت إسرائيل ترى أن هدف تحرير الرهائن يتعارض مع هدف تدمير حماس، كما أن الرأي العام الدولي تحديدا بات له دور وتأثير على القرار الأمريكي في هذه القضية، وعلى بايدن أن يأخذ هذا الامر بعين الاعتبار، لكن السؤال المهم هو، هل يمكن أن تُترجم تغيرات الخطاب الأمريكي إلى أفعال؟
للأسف لا يمكن أن يكون الجواب على هذا السؤال بالإيجاب، صحيح أن واشنطن اليوم تجد نفسها في وضع صعب وتحاول البحث عن حلول، فقبل أيام وفي مؤتمر المناخ تحدثت نائبة الرئيس بايدن، عن ترتيبات أمنية تكون مقبولة لكل الأطراف الإقليمية، وهذا كلام يُخفي أمنية في أن يظهر حل، لكنه ليس كلاما واقعيا، خاصة ونحن أمام تصلب إسرائيلي في الموقف، لماذا هو كلام غير واقعي؟ لأن الإدارة الأمريكية تشترك مع الحكومة الإسرائيلية في كثير من الأمور، ومنها القضاء على حماس على سبيل المثال. وهذا الهدف ليس مقبولا من قبل العرب ولا الأطراف الإقليمية، كما أن الإدارة الأمريكية تشترك أيضا مع الحكومة الإسرائيلية، في السعي وراء حلول أمنية لحل مشاكل سياسية وتاريخية، وعلى الرغم من أن هذه الإدارة تُعلن رفض أي تغيرات على الأرض تخل بمبدأ حل الدولتين، لكنها تعرف جيدا أن إسرائيل غيّرت الوضع على الأرض مرات عديدة من خلال الاستيطان، في حين أن كل الإدارات الأمريكية تعمّدت السكوت عن هذا الموقف. إذن الإدارة الأمريكية مثل الحكومة الإسرائيلية يدفعان ثمن الاستهتار بحل الدولتين، الذي نصّت عليه قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية. وها هم اليوم يبحثون عن حلول أمنية لن تقود إلى السلام بشكل مُرضٍ.
إن العمى الأمريكي عن تاريخ الصراع العربي الفلسطيني، وصل إلى حالة من التسخيف لم يصلها من قبل، فالرئيس بايدن عبّر عن فكرة سمجة حين قال، إن واقعة السابع من أكتوبر كانت ردا على التطبيع الجاري في المنطقة العربية، وهو تقييم معطوب جدا، وإغفال واضح عن عقود من الظلم والقتل والتهجير والاستيطان، وسلب الحرية والكرامة لشعب كامل من أرضه. من الواضح أن هنالك مشكلة في الفهم الأمريكي لمعنى السلام، الذي يتحدثون عن ضرورة قيامه اليوم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في حين أن سلامهم يتجاوز الفلسطينيين. كما أنهم يتشاركون مع إسرائيل في فكرة، أن المقاومة الفلسطينية يمكن أن تنتهي بمجرد قتل أعداد من عناصرها أو قادتها، وينسون أنه طالما بقي الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي ظل الإبادة والتطهير العرقي، لا يمكن أن تنتهي فكرة المقاومة لديه بشتى السُبل.