تشبه الحرب الإسرائيلية على غزة حرب نظام الأسد على سوريا في وجوه كثيرة، في همجيتهما وإطلاقيتهما وعدم اكتراث المعتديَين بالأعراف والقوانين الدولية والدعم المطلق لحلفائهما. بالمقابل امتدت الحرب الأسدية على سوريا لفترة أطول تعد بالسنوات، في حين أن الحرب الإسرائيلية لا يمكن أن تعد إلا بالأسابيع والأشهر، نعرف ذلك وإن لم تنته بعد. وجغرافياً شملت حرب الأسد على سوريا مساحة أوسع بكثير في مقابل مساحة غزة الصغيرة، حتى لو أضفنا إليها الضفة الغربية التي تتعرض بدورها لوحشية الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، ولا يمر يوم واحد بدون سقوط قتلى فلسطينيين، وغالباً مدنيين.
العدد المهول من القتلى المدنيين هم المشترك الآخر في نتائج الحربين على كل من سوريا وغزة. وإذا كان عداد القتلى في غزة يعد بشكل يومي، فقد توقف عد القتلى في سوريا بعدما تجاوز نصف المليون، ولا يعرف أحد إذا كان هذا العدد قد تجاوز المليون أم لا. علينا عدم إهمال الفارق بين عدد القتلى بنسبتهم إلى عدد السكان الإجمالي، فبإدخال هذا العامل يتراجع الفارق بالنظر إلى أن عدد السكان في سوريا يبلغ نحو عشرة أضعاف عدد السكان في غزة، مع العلم أن الحرب على غزة لم تتوقف بعد.
المقارنة في الجانب السياسي تظهر أيضاً تشابهات واختلافات. تمكن نتنياهو من حشد رأي عام إسرائيلي كبير داعم لحربه، تجسد في حكومة الحرب التي شاركت فيها القوى المعارضة له أيضاً. وتمكن نظام الأسد من استمالة قطاع مهم من الفئات الاجتماعية التي دعمت حربه على غالبية السوريين. وخارجياً حاز نتنياهو على تأييد ودعم جميع الدول الغربية، وبعض الدول الأخرى، وصلا إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي. وحاز نظام الأسد على دعم وتأييد دولتين من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إضافة إلى إيران، مقابل معارضة رخوة من دول إقليمية ودولية، تمكن بفضل كلا الدعم القوي والمعارضة الرخوة هذين من البقاء في السلطة. وسهّلت القوى الإسلامية التي تصدرت مشهد المعارضة منذ السنة الثانية من الثورة في سوريا مهمة النظام الأسدي في دفع المجتمع الدولي إلى القبول ببقائه حتى لو كان ذلك على مضض. بالمقابل سهّلت الهوية الإسلامية لحماس (والجهاد) مهمة إسرائيل في تسويغ حربها الوحشية على الفلسطينيين وكسب تعاطف الرأي العام العالمي، وبخاصة ممارسات مقاتلي الفصيلين في عملية طوفان الأقصى التي تضمنت قتلاً لعدد كبير من المدنيين في غلاف غزة.
تشبه الحرب الإسرائيلية على غزة حرب نظام الأسد على سوريا في وجوه كثيرة، في همجيتهما وإطلاقيتهما وعدم اكتراث المعتديَين بالأعراف والقوانين الدولية والدعم المطلق لحلفائهما
بيد أن التشابه الأكبر بين الحالتين الفلسطينية والسورية إنما يكمن في استنقاع قضيتي الشعبين على مدى زمني كبير وفقدان الأمل بإيجاد حل منصف لهما حرباً أو بالسياسة. لقد ظهرت المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينيات بعد فشل الأنظمة العربية في حربي 1948 و1967 في تحقيق أي انتصار على إسرائيل، ثم فشلت مرة أخرى في حرب 1973 التي جاءت مبادرة الرئيس المصري أنور السادات بالانفراد في حل سياسي أولويته استعادة الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل في الحروب السابقة. سبقتها الحرب الأهلية في لبنان، وتبعتها الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 1982، ليشكلا معاً البيئة التي تنتقل فيها المقاومة الفلسطينية من هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني إلى الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على جزء منها.
لا الحروب ولا المقاومة المسلحة ولا انخراط منظمة التحرير الفلسطينية في عملية أوسلو حققا ولو شيئاً بسيطاً من حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته إلى دولة مستقلة ذات سيادة. فإسرائيل المدعومة من حكومات الدول الغربية وبخاصة التزام واشنطن الثابت بتفوقها العسكري على مجموع الدول العربية المعنية بالصراع، تمكنت من الإفلات من أي التزام بمقتضيات قرارات مجلس الأمن الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وكذا مقتضيات اتفاق السلام الموقع مع منظمة التحرير.
وهكذا وصلت الأمور إلى وضع لا يطاق في الأراضي الفلسطينية المفترض أنها تحت سلطة الفلسطينيين، وصولاً إلى طوفان الأقصى الذي كان، في وجه منه، بمثابة تذكير للعالم بالسجن الكبير الذي يعيش فيه الفلسطينيون سواء في غزة أو الضفة الغربية.
الصراع في سوريا، بالمقابل، تحول من ثورة تحررية قام بها شعب لم يعد يتحمل حالة الطوارئ التي تثقل عليه منذ فجر الثامن من آذار 1963 تاريخ الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط البعث، واستفحلت هذه الحالة أكثر بعد العام 1980، حين فرض على السوريين نظام شبيه بالأنظمة الفاشية يقوده رجل مهووس بالسلطة، حافظ الأسد، أبّد نفسه حاكماً أوحد، وورّث الحكم لابنه حين اقترب أجله. ما فعله الأب في بين العامين 1980 و1982 في بعض المدن السورية من ارتكاب مجازر مهولة واعتقال عشرات آلاف البشر، كرره الابن بأحجام مضاعفة بعد اندلاع الثورة على نظامه في 2011، فهجّر نصف السكان ودمر نصف العمران واعتقل مئات الآلاف وقتل ما يقارب المليون من السوريين، ورهن مصير البلاد لقوى أجنبية.
تدخلت الجامعة العربية لإيجاد حل سياسي، منذ العام الأول للثورة، ثم انتقلت المهمة إلى مجلس الأمن، لكن الحل كان يبتعد أكثر وأكثر بدلاً من أن يقترب.
وهكذا استنقعت قضية السوريين كحال قضية الفلسطينيين، وتحولت عناصرها ومفرداتها هنا وهناك، من الهدف الأقصى إلى أهداف «أكثر واقعية» كما يقال، لكن الحل واصل الابتعاد كما السراب في صحراء.