على الرغم من أن واشنطن وشركاءها منعوا توسع الحرب حتى الآن، إلا أن الافتقار إلى قواعد واضحة على بعض الجبهات -وخاصة سورية- خلق بيئة خطيرة قد تتجاوز فيها أي جهة فاعلة، عن غير قصد، الخطوط الحمراء التي وضعتها جهة أخرى.
* * *
بعد مرور أربعين يوماً وليلةً (حتى تاريخ كتابة هذه السطور) على اندلاع أزمة غزة، لم تقع الحرب الإقليمية التي توقع البعض أنها قد تجتاح الشرق الأوسط وتُعطل أسواق الطاقة والاقتصاد في العالم -على الأقل حتى الآن. وتُواصل إسرائيل تنفيذ “عملية السيوف الحديدية” في غزة، التي يُفترض أنها تهدف إلى القضاء على قدرات حركة “حماس”، وإنشاء قطاع يحكمه أي طرف آخر في غزة، بطريقة أو بأخرى.
وفي غضون ذلك، برزت تقارير مفادها بأن إيران أبلغت “حماس” أن عدم إعطائها إنذاراً مسبقاً بشأن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) يعني أن طهران لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع. إلا أن وكلاء إيران يردون على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في ثلاثة مسارح إقليمية مختلفة. ويشمل المسرح الأول هجمات متعددة يشنها “حزب الله” وإسرائيل ضد بعضهما بعضا على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية.
ويشمل المسرح الثاني صواريخ بعيدة المدى وطائرات من دون طيار يطلقها الحوثيون من اليمن، والتي تم اعتراض معظمها من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية أو سقطت في مناطق فارغة.
أما المسرح الثالث الذي يمكن اعتباره رداً غير متوقع أبداً -مع تداعيات سياسية غير معروفة بالقدر نفسه- فيشمل تصعيداً عسكرياً أفقياً متواصلاً استمر شهرا من قبل الميليشيات المدعومة من إيران ضد القواعد العسكرية الأميركية في مختلف أنحاء سورية والعراق، وما يزال مستمراً على الرغم من توجيه ثلاث ضربات عسكرية أميركية متتالية في أقل من ثلاثة أسابيع.
على طول “الخط الأزرق”
منذ هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، يعلن “حزب الله” كل يوم مسؤوليته عن هجمات عدة على إسرائيل، والتي عادة ما يتبعها رد إسرائيلي. وقد دفعت هذه الديناميكية إسرائيل في 18 تشرين الأول (أكتوبر) إلى إصدار أمر بإجلاء المدنيين على مسافة خمسة كيلومترات من الحدود مع لبنان، كما تم إخلاء معظم القرى على الجانب اللبناني من الحدود ضمن النطاق نفسه أيضاً. وقد قُتل أكثر من 70 مقاتلاً من “حزب الله” و10 مدنيين لبنانيين في لبنان، بينما قُتل 10 إسرائيليين من بينهم 7 جنود في إسرائيل، حتى كتابة هذه السطور.
بين 7 تشرين الأول (أكتوبر) و14 تشرين الثاني (نوفمبر)، يُظهر تحليل تفصيلي أن “حزب الله” شن ما يقرب من 170 هجوماً على وجه التحديد من لبنان باستخدام أسلحة مضادة للدبابات، أو مدفعية، أو صواريخ، أو طائرات من دون طيار. كما استهدفت الجماعات الفلسطينية العاملة داخل لبنان، إسرائيل بدرجة أقل. وأعلنت “كتائب عز الدين القسام” التابعة لحركة “حماس” مسؤوليتها عن شن 8 هجمات صاروخية من لبنان خلال الفترة نفسها، في حين استهدفت العديد منها مدينة نهاريا ولكن تم اعتراضها من قبل الجيش الإسرائيلي أو سقطت في مناطق مفتوحة. وحاولت “سرايا القدس” التابعة لـ”حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” التسلل مرتين من لبنان إلى إسرائيل، في حين شنت “قوات الفجر” التابعة لـ”الجماعة الإسلامية” ثلاث هجمات صاروخية من لبنان على شمال إسرائيل.
ومن خلال هذه الهجمات، يبدو أن “حزب الله” وإسرائيل قد طورا قواعد اشتباك غير معلَنة. فلا يبدو أن “حزب الله” يستهدف المدنيين باستثناء الهجوم على موظفي المرافق الكهربائية، الذي زعم “حزب الله” أنهم جنود كانوا يقومون بتركيب كاميرات وأجهزة “تجسس” أخرى. كما يستهدف “حزب الله” في المقام الأول المواقع العسكرية الإسرائيلية ويمتنع في الغالب عن شن هجمات أبعد من منطقة الإخلاء التي تمتد على مسافة خمسة كيلومترات داخل إسرائيل.
ومن جهتها، تستهدف إسرائيل “حزب الله” بشكل أساسي رداً على هجمات الحزب على أراضيها، ولا تستهدف سوى مصادر نيران الحزب، باستثناء بعض الغارات الجوية على مواقع إطلاق الصواريخ المتوقعة واستخدام الفوسفور في المناطق المشجرة لحرق النباتات وحرمان “حزب الله” من الغطاء الأرضي. وفي الفترة ما بين 7 تشرين الأول (أكتوبر) و14 تشرين الثاني (نوفمبر)، نفذت إسرائيل 327 غارة جوية أو عملية قصف مدفعي مستهدفة مواقع في جنوب لبنان.
عبور البحر الأحمر
شن الحوثيون في اليمن هجمات عدة فشل معظمها بالصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل خلال الفترة الماضية، وهددوا في الأيام القليلة الماضية بمهاجمة السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب. ومع أن إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تمكنت من اعتراض صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة، إلا أن الحوثيين أثبتوا قدرتهم على إحداث الفوضى في المنطقة، حيث أسقطوا طائرة مسيرة أميركية قبالة سواحل اليمن وضلت بعض صواريخهم طريقها إلى بعض المناطق غير المقصودة.
بدأ رد الحوثيين في أعقاب الانفجار الذي وقع في “المستشفى الأهلي” في 19 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما أطلقوا ثلاثة صواريخ “كروز” على طائرات مسيرة عدة من اليمن، والتي أسقطتها المدمرة الأميركية “يو إس إس كارني” USS Carney فوق البحر الأحمر. وقال البنتاغون إن الهدف المقصود كان على الأرجح إسرائيل. وأفادت بعض التقارير بأن السعودية أسقطت صاروخاً كان قد انحرف نحو المجال الجوي السعودي. ثم في 27 تشرين الأول (أكتوبر)، تحطمت طائرتان مسيرتان مجهولتا الهوية في مدينتَي طابا ونويبع المصريتين، مما أدى إلى إصابة ستة أشخاص على الأقل. وفي غضون ذلك، أبلغت إسرائيل عن وجود تهديد جوي من البحر الأحمر، مما يشير إلى أن الحوثيين أطلقوا على الأرجح الطائرتين المسيرتين بهدف استهداف إسرائيل.
واعترض الجيش الإسرائيلي إحدى الطائرتين المسيرتين فوق البحر الأحمر بالقرب من نويبع، وتحطمت الطائرة الثانية في طابا بالقرب من الحدود الإسرائيلية. وبعد بضعة أيام في 31 تشرين الأول (أكتوبر)، زعم الحوثيون أنهم أطلقوا وابلاً من الصواريخ الباليستية وصواريخ “كروز” على جنوب إسرائيل، ولم يصل أي منها إلى أهدافها المعلنة. وتشير تقارير استخباراتية مفتوحة المصدر إلى سقوط أحد الصواريخ في منطقة خالية في “المدورة”.
بعد ذلك بوقت قصير، نشر الجيش الإسرائيلي لقطات تُظهِر طائرة مقاتلة من طراز “إف-35 آي” وهي تعترض صاروخ “كروز”، وتُظهِر نظام الدفاع الصاروخي البعيد المدى “السهم” Arrow وهو يعترض صاروخاً باليستياً. وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، أفادت التقارير بأن السعودية أسقطت صاروخاً آخر في الجزء الشمالي الغربي من المملكة بالقرب من الحدود الأردنية، وأعقب ذلك في اليوم التالي هجوم بطائرة مسيرة ضد إسرائيل تبناه الحوثيون -والذي لم يلق أي رد أو يؤدي إلى إغلاق المطارات الإسرائيلية أو غيرها من المرافق.
وفي 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، اتخذ هذا الاتجاه منحى أكثر خطورة عندما أكد مسؤولو الدفاع الأميركيون أن الحوثيين أسقطوا طائرة عسكرية أميركية مسيرة من طراز “إم كيو-9” قبالة سواحل اليمن. وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر)، هدد الحوثيون علناً السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب قبالة اليمن، ثم حاولوا شن هجوم بطائرة مسيرة انطلقت من اليمن واعترضتها المدمرة الأميركية “يو إس إس توماس هودنر” USS Thomas Hudner. واشتبك طاقم السفينة مع الطائرة المسيرة وأسقطها لضمان سلامة السفينة والأفراد الأميركيين، ولم تتكبد السفينة أي أضرار أو إصابات.
العراق وسورية
يمكن القول إن الاتجاه الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لواشنطن يتعلق بهجمات الميليشيات الإيرانية على القواعد الأميركية في العراق وسورية. ويُظهر التتبع المفصل للهجمات الإيرانية والضربات الأميركية المضادة، الذي أجراه زملائي في معهد واشنطن أن الميليشيات المدعومة من إيران شنت منذ 18 تشرين الأول (أكتوبر) وحتى كتابة هذه السطور -ومجدداً بعد الانفجار في”المستشفى الأهلي” مباشرة- ما يقرب من 77 هجوماً منفصلاً ضد عناصر أميركيين في العراق وسورية.
وشملت هذه الهجمات 43 غارة على قواعد أميركية في سورية و34 غارة في العراق المجاور، باستخدام الصواريخ والقذائف وطائرات من دون طيار أكثر دقة على نحو متزايد.
وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن وقوع 28 هجوماً ضد القوات الأميركية في سورية و27 في العراق منذ 18 تشرين الأول (أكتوبر). (في إحصاءاته، لا يضمن البنتاغون بعض التقارير مفتوحة المصدر عن الهجمات ما لم يتم إثبات أنه تم شنها على القوات الأميركية على وجه التحديد، وبالتالي جاء الاختلافات في عدد الهجمات). وبغض النظر عن العدد الدقيق، تفوق وتيرة الهجمات إلى حد كبير الأرقام الأساسية المسجلة قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر).
ويُظهِر تحليل البيانات حتى الآن أن الهجمات تنطلق من ثلاث مناطق. وتُركز المنطقة الأولى على القواعد الأميركية في غرب الفرات، وفي غرب العراق “عين الأسد”، و”التنف” في جنوب سورية. ويتم شن السلسلة الثانية من الهجمات من داخل شمال العراق ضد القواعد الأميركية الواقعة شرق الفرات في سورية في الشدادي والرميلان، وفي شمال العراق في مطار أربيل وحرير. أما السلسلة الثالثة من الهجمات، فيتم شنها من عدد كبير من قواعد الميليشيات الإيرانية على الضفة الغربية لوادي نهر الفرات الأوسط السوري، وتشمل أسلحتها صواريخ قصيرة المدى يتم إطلاقها ضد القواعد الأميركية و”قوات سورية الديمقراطية” في حقول النفط في دير الزور. كما يتم شن بعض الهجمات، من المنطقة نفسها، بالطائرات المسيرة البعيدة المدى على الشدادي والرميلان وتل بيدر.
ورداً على الهجمات، شنت إدارة بايدن ثلاث ضربات منفصلة على أهداف تابعة للميليشيات الإيرانية في سورية في 27 تشرين الأول (أكتوبر)، و8 تشرين الثاني (نوفمبر)، و13 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقد رافق كلاً منها بيان فوري مفاده بأن الرئيس بايدن قام بذلك دعماً للقوات الأميركية. وفي حين أوضح البيانان الصادران في 27 تشرين الأول (أكتوبر) و8 تشرين الثاني (نوفمبر) أن الولايات المتحدة لا تريد المزيد من التصعيد مع إيران، إلا أن هذه الكلمات كانت غائبة عن رسالة ضمنية، بل واضحة، تم توجيهها في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) ومفادها بأنه من المرجح أن تؤدي المزيد من الهجمات إلى رد فعل أكبر. واستمرت الهجمات لمدة يومين آخرين قبل ليلة من السلام في 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي بعد شهر تقريباً من الانفجار في “المستشفى الأهلي”.
الافتقار إلى قواعد واضحة
في حين قللت إدارة بايدن من أهمية الهجمات، إلا أن كل حادثة تزيد من احتمالات سقوط ضحايا أميركيين وما ينتج عن ذلك من تداعيات سياسية على الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2024. وحتى الآن، وبعد تقييم الحالات، يقول البنتاغون إن 27 فرداً تعرضوا لإصابات دماغية رضحية و32 فرداً تعرضوا لإصابات أخرى غير خطيرة. وقد عاد كل هؤلاء الأفراد البالغ عددهم 59 شخصاً إلى الخدمة الفعلية، مما يشير إلى أن واشنطن كانت قادرة على التعامل مع الهجمات بفعالية ومن دون تكبد تكلفة كبيرة حتى الآن.
لكن كل هجوم يزيد من خطر وقوع حادث يؤدي إلى خسائر في الأرواح. ومن المرجح أن يؤدي أي هجوم يسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا إلى توجيه دعوات، من اليمين المتطرف واليسار المتطرف في الطيف السياسي الأميركي، إلى واشنطن لكي تسحب قواتها من سورية والعراق.
وهذه هي النية المعلنة للتحالف الثلاثي السوري الذي يتألف من النظام السوري وإيران وروسيا، والذي كان منشغلاً هذا الصيف بمحاولة إثارة الفتنة بين “قوات سورية الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة والقبائل العربية المحلية. وقد حدثت اشتباكات بين الطرفين في شهرَي آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) الماضيين بسبب مشاكل قائمة منذ فترة طويلة ومتعلقة بالهيمنة الكردية على قيادة “قوات سورية الديمقراطية” وسيطرتها على “مجلس دير الزور العسكري”.
بشكل عام، ما تزال مهاجمة الولايات المتحدة في سورية منخفضة المخاطر وكثيرة المنافع لإيران وحلفائها. وتوفر سورية القدر الأعظم من حرية المناورة للخصوم العسكريين، كما أن قواعد اللعبة هناك هي الأكثر مرونة -على عكس الحدود اللبنانية الإسرائيلية حيث يبدو أن الجانبين يتجنبان المخاطرة خوفاً من ارتكاب خطأ يؤدي إلى صراع أوسع نطاقاً. لكن غياب القواعد الواضحة وانتشار الجيوش الأجنبية العاملة في سورية ينشئان في الوقت نفسه بيئة خطيرة قد تؤدي إلى تصعيد غير مقصود، وما قد يرافق ذلك من حرب إقليمية ودمار على نطاق كبير.