على الرغم من انهيار “الهدنة الإنسانية” بين قوات الاحتلال وقوى المقاومة الفلسطينية في غزّة (صباح الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري)، فإن حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة على غزّة أوجدت مجموعة من المتغيرات الاستراتيجية، التي قد تؤدّي، بتفاعلاتها المتشابكة، إلى “نقطة تحول” حقيقية في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، في ثلاثة جوانب على الأقل: أولها، صمود المقاومة الفلسطينية واستعادتها “زمام المبادرة”، ضد تغوّل مشروع الأبارتهايد الصهيوني العنصري، خصوصًا مع عودة أفكار التهجير إلى مركز السياسة الإسرائيلية، وتصاعد رغبة قوى اليمين الصهيوني الديني في تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، بالتوازي مع تصاعد الرغبة في التخلّص من الديمغرافيا الفلسطينية. ثانيها، عودة جهود إحياء عملية التسوية والتطبيع، ولو على خجل، من دون وجود أية ضمانات لوصولها إلى نتائج مختلفة عن مآلات عمليتي مدريد وأوسلو، على مدار العقود الثلاثة الخالية. وثالثها، عودة الولايات المتحدة إلى الانخراط في تفاعلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على نحو ينفي احتمال خروجها “الوشيك” من إقليم الشرق الأوسط، الذي بات ساحةً محتدمة للتنافس الدولي والإقليمي، في غياب أغلب الفاعلين العرب عن التأثير في مجريات حرب غزّة.
وفي سياق تحليل مستجدّات العلاقة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى، والسياقَيْن الإقليمي والدولي المؤثرَيْن في هذه العلاقة، ثمّة خمس ملاحظات متداخلة: أولاها، حدوث تحسّن في موقع “حماس” وقطاع غزّة ضمن معادلات الصراع العربي الإسرائيلي؛ إذ يكشف توقيع الهدن وتبادل الأسرى، (وقبلهما حجم التخطيط لهجوم 7 أكتوبر وطريقة تنفيذه)، فهم قادة “حماس” (خصوصًا يحيى السنوار ومحمد الضيف ومحمد السنوار ومروان عيسى)، “العقلية الإسرائيلية”، لا سيّما نقاط ضعفها، وقدرتهم على إدارة مواجهة طويلة نسبيا، على نحوٍ أسهم في استنزاف الجيش الإسرائيلي، وتعزيز ثقة المقاومة بإمكانية إلحاق إضرار كبيرة به، كما اتضح بعد هجوم 7 أكتوبر. وعلى الرغم من تحكّم “غرائز الانتقام والقَبَليّة واللاعقلانية” في سلوك قوات الاحتلال بعد “طوفان الأقصى”، حققت المقاومة الفلسطينية درجةً من “الندّية”، لكيلا أقول “التفوق”، في العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، بعكس موروث العقود الثلاثة الماضية من عملية أوسلو.
بلغ عدد جرحى الجيش الإسرائيلي خمسة آلاف جندي، منهم أكثر من ألفي معاق، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت
تتعلق الملاحظة الثانية بانعكاسات حالة الهشاشة الداخلية وتفاقم الانقسام المجتمعي الإسرائيلي منذ عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزارء للمرّة السادسة (29/12/2022)؛ خصوصًا مع عدم اعترافه صراحةً بفشله في التعامل مع هجوم 7 أكتوبر، وعقم مقارباته التي عمّقت مأزق الدولة الإسرائيلية، بسبب تفضيله مصلحته الشخصية والبقاء في المنصب، خشية التعرّض للملاحقة القضائية والسجن.
وعلى الرغم من حساسية المجتمع الإسرائيلي للخسائر الضخمة في صفوف الجيش، (بلغ عدد جرحاه خمسة آلاف جندي، منهم أكثر من ألفي معاق، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت 9/12/2023)، فقد مضت حكومة نتنياهو في تصعيدها الممنهج، وأنهت “الهدنة الإنسانية” (24-30/11/2023)، غير مكترثةٍ بحياة الرهائن الإسرائيليين في غزّة، سواء من المدنيين أم العسكريين، ما يؤكّد هيمنة منظور أمني عسكري على توجّهاتها، واستمرارية اعتقادها بأهمية تكثيف التصعيد العسكري والضغط على المقاومة والشعب الفلسطينيين، بغية الحصول على صورة “نصرٍ مزعوم”، عبر الضغط في الملفّ الإنساني (سواء في تشديد الحصار، أم تدمير المستشفيات والبنية التحتية في قطاع غزّة برمته، أم تقسيمه إلى مربّعات أمنية… إلخ)، ما يطرح تساؤلاتٍ جدّية عن مستقبل السياسة الإسرائيلية تجاه غزّة، في غياب أية استراتيجية كبرى (Grand Strategy) عن هذه السياسة منذ “الانفصال أحادي الجانب” عن غزّة (disengagement)، الذي نفذّه رئيس الوزارء الأسبق أرييل شارون (أغسطس/ آب – سبتمبر/ أيلول 2005)، ثم إعلان حكومة إيهود أولمرت قطاع غزّة “كيانًا معاديًا” (19/9/2007)، ما يعكس حالة التخبّط الإسرائيلية التي تفاقمت عمومًا بعد تداعيات الفشل الإسرائيلي المدوي، في حرب لبنان صيف 2006.
تتعلق الملاحظة الثالثة بزيادة مستوى التعقيد والتشابك في العلاقة بين “حماس” وإسرائيل، وخضوعها بصورة أكبر لسياقاتها الخارجية؛ إذ أصبحت تتجاوز طرفيها المباشرين، وتعكس درجةً من “الاصطفافات الإقليمية والدولية” في ظل ثلاثة متغيرات: أولها، احتمال “تدويل/ أقلمة” موضوع الرهائن، سواء بسبب مطالبات عائلاتهم الإسرائيلية واتهاماتهم نتنياهو بإهماله مصير الرهائن، أم بسبب الوساطات الإقليمية والدولية في هذا الصدد، التي تضع بعض الضغوط على الحكومة الإسرائيلية. وثانيها، وجود فرصة أمام التبادل “الجزئي” في قضية الأسرى، على الرغم من العوائق الإسرائيلية الحقيقية أمام مبدأ “الكلّ مقابل الكلّ”، (بمعنى تبييض السجون الإسرائيلية مقابل الإفراج عن كل الجنود الإسرائيليين الذين أسرتهم المقاومة). وثالثها، استمرارية تصاعد الصراع بين “حماس” وإسرائيل، واحتمال انتقاله تدريجيا نحو الضفة الغربية، وربما وصولا إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة.
ترغب إدارة بايدن في ضبط الصراع الإقليمي وعدم توسعته، ومنع روسيا والصين وتركيا وإيران من توظيف تداعيات حرب غزّة
تتعلق الملاحظة الرابعة بوجود كوابح إقليمية ودولية أمام نمط “الصراع المفتوح” بين حركة حماس وإسرائيل، على الرغم من تهديد رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك) رونين بار باغتيال قادة الحركة في تركيا وقطر ولبنان، (بحسب ما جاء في تسجيل صوتي مُسرّب بثته هيئة البث الإسرائيلية “كان 11″، في 3/12/2023).
وفي هذا السياق، ثمة عاملان يسهمان في الحدّ من حرية الحركة الإسرائيلية الخارجية؛ أحدهما تراجع وضع إسرائيل وقدراتها الردعية في مواجهة حلفاء إيران (“حماس” وحزب الله وجماعة أنصار الله، الحوثيين في اليمن). وبالتالي، تآكل مكانة إسرائيل الإقليمية، وتحجيم قدراتها على الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، بعيدا عن نمط “مواجهات الظل” (بما يشمل الحروب السيبرانية، مثل الهجوم على منشأة نطنز النووية الإيرانية (11/4/2021)، والهجمات على السفن، واغتيال العلماء والعسكريين الإيرانيين… إلخ). والعامل الآخر تأثير حرب الإبادة على غزّة في تراجع التطبيع العلني العربي والإقليمي مع إسرائيل، على الرغم من احتمال استمرار مستويات من التطبيع غير العلني.
وتتعلق الملاحظة الخامسة بطبيعة التدخل الأميركي في إعادة رسم العلاقة بين “حماس” وإسرائيل، ومحاولة ضبط سلوك إسرائيل الانتقامي، سواء تجاه غزّة، أم الجبهة اللبنانية، أم جماعة الحوثي اليمنية، أم إيران؛ إذ ترغب إدارة بايدن في ضبط الصراع الإقليمي وعدم توسعته، ومنع روسيا والصين وتركيا وإيران من توظيف تداعيات حرب غزّة، بالتوازي مع تحديد مدى زمني لحرب إسرائيل على غزّة، على الرغم من وجود هدفٍ مشترك بين واشنطن وتل أبيب بالقضاء على حركة حماس أو إضعافها إلى أقصى مدىً ممكن.
تحوّل الاهتمام الدولي عن الحرب في أوكرانيا، وانشغلت الولايات المتحدة بجبهة غزّة
وعلى الرغم من متانة التحالف الأميركي الإسرائيلي، ومركزيّته في توجيه السياسات الأميركية في المنطقة، واستمرار واشنطن في تعطيل مشروعات قرارات مجلس الأمن بشان غزّة وفلسطين، وتزويدها إسرائيل بمختلف أنواع الأسلحة، فإنها (واشنطن) تخشى تحقيق موسكو مكاسب من حرب غزّة؛ إذ تحوّل الاهتمام الدولي عن الحرب في أوكرانيا، وانشغلت الولايات المتحدة بجبهة غزّة، وتراجعت بالتالي توريدات الأسلحة الأميركية/ الغربية إلى كييف، كما عملت موسكو على توظيف الانحياز الأميركي لإسرائيل في بناء سردية تعزّز شرعية روسيا وحضورها في العالمين العربي والإسلامي، عبر الحديث عن تجاهل واشنطن لحقوق الشعب الفلسطيني، في مقابل توازن السياسة الروسية في الشرق الأوسط، وعدم اعتبارها حركة حماس “منظمة إرهابية”، مثل ما تفعل دول غربية كثيرة.
يبقى القول إن تأثير عمل طوفان الأقصى في نمط العلاقة بين “حماس” وإسرائيل يظل مركّبا ومعقدًا؛ إذ يعتمد، في جانب كبير منه، على إدارة الطرفين تداعيات هذه الحرب المفصلية على المواقف الإقليمية والدولية، وتفسير الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، معاني الانتصار والهزيمة، وقدرتهما على استمرار حشد طاقات المجتمع في هذا “الصراع الاجتماعي السياسي المصيري الممتد”، خصوصًا مع احتمال دخوله مرحلة الحسم، في المديين المنظور والمتوسط، وتصاعد احتمال حدوث تحولات/ تصدّعات جوهرية في دولة الاحتلال ومعسكر داعميها الدوليين والإقليميين، ما يؤكّد أن ثمّة حاجة ملحّة إلى تشكيل الطرف الفلسطيني الموحد، الذي يملك رؤية استراتيجية نضالية وبرامج تنفيذية لمستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، ويعيد موضعة قضية فلسطين في سياقاتها السياسية التحررية، على الصعد العربية والإقليمية والعالمية، في هذه المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظامان الإقليمي والدولي، التي تفرض على الفلسطينيين والعرب تحدّيات جمّة، وتمنحهم، في الوقت نفسه، فرصًا ممتازة، إذا أحسنوا توظيف أوراق قوّتهم، ونجحوا في الضغط على نقاط ضعف الحالة الإسرائيلية المترهلة.