دفع الانخفاض الأخير في أسعار النفط بسعر الأورال الروسي الرئيسي إلى ما دون الحد الأقصى (60 دولارا) الذي فرضته مجموعة السبع على الشحنات الدولية خلال السنة المنقضية. وكان تداول النفط الروسي الذي يتجاوز الأورال يسجّل ما يفوق السقف منذ فرضه ، في ما يشدّد بعض مهندسيه على نجاحه وحرمانه لروسيا من عائدات حيوية، لكنهم كانوا مخطئين.
وقالت المحللة الاقتصادية إيرينا سلاف في تقرير على موقع “أويل برايس” الأميركي إن النفط يبقى سلعة أساسية أثبتت حالة روسيا ديمومة توفر الوسيلة لنقله من البائع إلى المشتري، حتى ولو كان المصدّر خاضعا لعقوبات شديدة.
وأشار كاتب العمود في صحيفة “فاينانشيال تايمز” آلان بيتي في عمود حديث حول العقوبات إلى أن “الحكومات لا تستطيع حشد ما يكفي من السيطرة على الطلب العالمي لخنق التجارة. تبقى سلاسل التوريد مرنة، وإن كان بشكل غير مشروع أحيانا. ووجد المستوردون بدائل”.
وأكّد نجاح العقوبات الأميركية المشكوك فيه في إيران وفنزويلا، والآن العقوبات الغربية الأوسع على روسيا، أن تحقيق العقوبات لأهدافها أمر نادر. ولم يحدث أي تغيير في النظام في فنزويلا أو إيران، ولم تتوقف روسيا عن غزو أوكرانيا، واستمر النفط في التدفق من البلدان الثلاثة.
وبينما شهدت تدفقات النفط من فنزويلا وإيران انخفاضا كبيرا منذ فرض العقوبات الأميركية، إلا أن البلدين شهدا مؤخرا ارتفاعا طفيفا في الشحنات إلى الخارج. ويدل هذا على العجز عن الاستغناء عن بعض أنواع النفط، حتى مع زيادة الصادرات الأميركية بشكل كبير.
◙ إيرادات روسيا لم تتضرر بالقدر المأمول، وتمكن الاقتصاد من التخلص من معظم الآثار السلبية الناتجة عن العقوبات
لكن حالة روسيا تبقى خاصة بسبب الحجم الهائل للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ولم تتمكن هذه الجهود من استهداف صادراتها النفطية وتدميرها، ولم يُطبّق حتى حد السعر الأقصى المصمم لتحقيق الهدف المعلن الكامن في الحفاظ على تدفق النفط الروسي إلى الخارج مع الحد من الإيرادات.
وذكرت وكالة بلومبرغ خلال الأسبوع الحالي أن روسيا تجني اليوم أموالا من تصدير نفطها أكثر مما كانت تشهده قبل غزو أوكرانيا. وأشار تقرير آخر صادر في نوفمبر إلى أن أرقام البنك المركزي تبرز استمرار هذا منذ أشهر ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو دائما.
وأفاد مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف غير الحكومي بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، الذي يتتبع صادرات الطاقة الروسية، مؤخرا أن الحظر النفطي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي وحدّ الأسعار الأقصى كلّف روسيا 34 مليار يورو (37 مليار دولار) من العائدات. ولا يمثل هذا الرقم، على الرغم من أنه يبدو هائلا، سوى انخفاض بنسبة 14 في المئة في الإيرادات. واعتبر المركز “هذا التأثير أقل بكثير مما كان من الممكن تحقيقه”.
ولم تتضرر الإيرادات بالقدر المأمول، وتمكّن الاقتصاد من التخلص من معظم الآثار السلبية الناتجة عن العقوبات. وحقق الاقتصاد الروسي نمواً فاق التوقعات على الرغم من الآلاف من العقوبات التي فرضتها دول غربية على موسكو منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير 2022.
وشملت الإجراءات ضد روسيا حزمة من العقوبات التي أطلقها الاتحاد الأوروبي ما دفع الكثير من المحللين والمهتمين للتساؤل حول مدى جدوى هذه العقوبات خصوصاً وأن اقتصادات الدول التي فرضتها حققت نمواً بمستويات متدنية خلال الفترة ذاتها.
ويؤكد خبراء اقتصاد وطاقة أن الاقتصاد الروسي صمد أمام هذه العقوبات وأظهر مرونة وقدرة على التكيف معها، بل واستطاع النمو بشكل مستمر، مشيرين إلى نجاح موسكو في توسيع علاقاتها التجارية مع الصين والهند إلى جانب العديد من دول آسيا وقدرتها على إيجاد أسواق جديدة لصادراتها من الغاز والنفط الأمر الذي مكنها من أن تحقق نمواً اقتصادياً يفوق التوقعات.
وشملت العقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والبنكية والعسكرية والعلمية بهدف شل اقتصادها والحد من قدرة البلاد على تمويل الحرب، حيث تغطي العقوبات نحو 1800 فرد وكيان.
وذكرت بلومبرغ أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا سجّل زيادة قدرها 5.5 في المئة خلال الربع الثالث من العام، وهو ما مثل زيادة أخرى إثر النمو الهائل الذي بلغ 4.9 في المئة خلال الربع الثاني. وتحاول منطقة اليورو في المقابل عدم التدحرج في نسب نمو الناتج المحلي الإجمالي الإيجابي، وتدخل ألمانيا مرحلة الركود.
◙ وراء المرونة الاقتصادية لروسيا حافز حكومي كبير وتحول إلى اقتصاد حرب وتغيير غير مسبوق لتجارتها إلى شركاء آسيويين، خاصة الصين والهند
ومن المؤكد أن هذا الوضع يطرح سؤالا حول من سيتضرر أكثر من العقوبات: الهدف أم المنفذون. وتبدو الإجابة من زاوية الاتحاد الأوروبي غير مستحبة، مما يجعل الموضوع من المحرّمات نوعا ما.
وتحدّث الكثيرون عن خسارة روسيا لأكبر أسواقها للغاز، لكنها أعادت ببساطة توجيه معظم التدفقات من الغرب إلى الشرق والصين. واستبدلت أوروبا في نفس الوقت الغاز عبر خطوط الأنابيب بالغاز الطبيعي المسال. ولم يكن أيّ من هذا في صالح صانع العقوبات، وتبرز تقارير الناتج المحلي الإجمالي كل ما تدهور بسببها.
ويرى محللون أن وراء المرونة الاقتصادية لروسيا حافز حكومي كبير وتحول إلى اقتصاد حرب وتغيير غير مسبوق لتجارتها إلى شركاء آسيويين، خاصة الصين والهند. وأضاف المحللون أن حجم روسيا الهائل يجعل من المستحيل عزلها عن الاقتصاد العالمي فهي لا تزال مصدراً رئيسيا للمواد الخام للاقتصادات المتقدمة، في حين أنها بالنسبة إلى العالم النامي مورد بالغ الأهمية للأغذية والأسمدة.
ويعد النفط والغاز (وخاصة النفط) هدفا مفضلا لواضعي العقوبات. ويبدو فرض عقوبات على صناعة النفط في بلد يعتمد عليها بديهيا. ثم يتبين أن هذا يحمل تداعيات على واضعي العقوبات أنفسهم. وشعرت مصافي التكرير الأميركية بذلك عندما توقف تدفق الخام الفنزويلي الثقيل مع فرض العقوبات النفطية. وشعر العالم كله بذلك عندما أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرض العقوبات على إيران وارتفعت الأسعار مؤقتا.
وكتب آلان بيتي أن “مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ليسا جزءا كبيرا بما يكفي من الاقتصاد العالمي لخنق مبيعات النفط الروسية. ولا يتمتع الطرفان بالنفوذ الذي ربما كانا يحلمان به في دول مثل الهند التي تبحث عن صفقة تناسبها هي في ما يتعلق بوارداتها النفطية. ويرى أن “في ضوابط التصدير بذور دمارها، تماما كما دلّت تجربة عصابات منتجي المخدرات ومحاولات منع الترويج”.
ووجد الاتحاد الأوروبي نفسه في مأزق جعله يقرر استيراد الديزل الهندي المرجح أن يكون مصنوعا من النفط الروسي الذي يحظره نفس التكتل. كما أن استهلاك الغاز الطبيعي المسال الروسي كان قياسيا هذا العام. ولن تنجح العقوبات على النفط والغاز أبدا لهذا السبب. ويعني النفط والغاز الطاقة وتعني الطاقة الأمن. ولا تستطيع أي دولة تعتمد على الواردات (مهما كانت) أن تتحمل فرض عقوبات على مصدّريها دون أن تشهد بعض الآثار السلبية على اقتصادها.