أحيت تركيا في 29 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم ذكرى مرور 100 عام على إعلان الجمهورية من قبل مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923.وهي تتأهب منذ أشهر لرسم معالم المئوية الثانية وخارطة الطريق التي ستعتمدها في القرن الجديد، بعدما أعلنت القيادات التركية في الحكم انطلاق مسيرة الجهود “التي ستزيل نواقص القرن الأول لجمهوريتنا، وتكمل الاستعدادات للقرن الثاني”.
نجحت قيادات حزب العدالة والتنمية بتسجيل اختراقات قياسية في الإصلاح والتحديث والإنجازات الاستراتيجية خلال خمس عمر الجمهورية التركية، وهي الفترة الزمنية التي أمضتها على رأس السلطة حتى اليوم.
لكن المحمول على كتفها من ملفات داخلية وخارجية انتقلت معها للمئوية الثانية في عهد الجمهورية، أكثر من أن يعد أو يحصى، هناك أزمات اقتصادية ومالية ودستورية واجتماعية ووعود إطلاق خطط تغيير وتعديل وإصلاح سياسي وقضائي ومعيشي مزمنة تنتظر منذ أعوام .
ولدت الجمهورية التركية في ظل ظروف سياسية وعسكرية واقتصادية صعبة، نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبرطورية العثمانية وتحرك الدول المنتصرة للتوغل في أراضي الدولة التي قدمت على أنها “الرجل المريض” العاجز عن إدارة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرته.
الحرب العالمية تقترب من نهايتها فتوقع الإمبراطورية العثمانية عام 1918 معاهدة موندروس وما أعقبها من توغل عسكري بريطاني فرنسي في الأناضول، ثم الاحتلال اليوناني لمدينة إزمير ومحاولات التمدد نحو العاصمة التركية أنقرة في عام 1919.
ينتقل أتاتورك إلى مدينة صامصون المطلة على البحر الأسود لإعلان انطلاق حرب التحرير والاستقلال ثم تتويج كل ذلك بمعاهدة لوزان في يوليو/تموز 1923.
دخل الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك حرب التحرير لمدة 4 سنوات كاملة، تمكنوا خلالها من إخراج القوات اليونانية والفرنسية والبريطانية والروسية من الأناضول بعد دفع الثمن الباهظ، حاول أتاتورك الذي انتخب رئيسا للبلاد بناء منظومة سياسية ودستورية واجتماعية جديدة تقطع مع الكثير من رواسب الإمبراطورية العثمانية لصالح الانفتاح على الغرب كنموذج يحتذى به، أخذ ما يريد أحيانا خصوصا بعد هيمنة حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني على الحكم حتى أواخر الأربعينيات، لكن البنية الاجتماعية الدينية التركية كان عندها ما تقوله في مطلع الخمسينيات وبعد ولادة التعددية الحزبية ووصول عدنان مندريس الشخصية المحافظة إلى الحكم.
ظلت تركيا تعاني لسنوات طويلة من أزماتها الداخلية والخارجية، بسبب ارتدادات هزيمة الحرب العالمية الأولى وحرب التحرير التي خاضتها على أكثر من جبهة، لكن استراتيجية الحياد والبقاء خارج دوائر الحرب العالمية نتيجة دبلوماسية متوازنة مع الغرب والشرق مكنتها من تعزيز موقعها ودورها واقتناص فرص مواصلة عمليات النهوض والنمو وسط اقتصاديات الحروب في العالم.
دفعت التهديدات السوفياتية وتوتر العلاقات الدائم بين أنقرة وموسكو بسبب المضايق وشؤون الأقليات، القيادات التركية لقبول العروض الغربية المغرية اقتصاديا واختيار الجانب الأمريكي والأوروبي كحليف في صراع نظام القطبين.
كانت أمريكا الداعم العسكري الأول لتركيا في الخمسينيات، كما كانت حصة الدول الأوروبية في العلاقات التجارية أكثر من 60% من مجموع أرقام التجارة الخارجية التركية.
تمكنت تركيا نتيجة هذا الاختيار في حل الكثير من أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأصبحت تحتل مركزا إقليميا حساسا بالنسبة لشركائها في حلف شمال الأطلسي، لكنها ظلت تعاني من مشكلة تراجع أرقام اقتصادها بالمقارنة مع زيادة عدد السكان مما منح أمريكا فرصا إضافية لعرض خدماتها العسكرية والاقتصادية ومحاصرة الاستقلالية التركية الإقليمية لسنوات طويلة.
5 انقلابات أو محاولات انقلاب في التاريخ السياسي التركي الحديث، كان أكثرها تأثيرا انقلاب عام 1980 مع الجنرال كنعان إفرين، والانسداد الحزبي والسياسي حتى عام 1984 مع ظهور حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال، الذي ترك بصمات سياسية واقتصادية إصلاحية كبيرة في الداخل والخارج، حدد معالمها باتجاه خفض حجم الالتزام بأمريكا والاقتراب أكثر من أوروبا والعالمين العربي والإسلامي، وتحسين العلاقات مع الجار الروسي الذي كان في الطريق نحو إنهاء المنظومة السوفياتية.
حقبة 1990-2002 كانت بين الفترات السياسية والدستورية والاقتصادية الأصعب على الداخل التركي، والتي شهدت الكثير من الخضات السياسية والحزبية والائتلافات الحكومية قصيرة المدى، التي فتحت الطريق على وسعها أمام حزب العدالة والتنمية للوصول منفردا إلى سدة الحكم.
أطلقت قيادات حزب العدالة الكثير من الخطط والبرامج الإصلاحية الاقتصادية والاستثمارية التي أدت إلى تحسن واستقرار تدريجي في الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة والدخل القومي وتراجع أرقام التضخم والغلاء، كما ذهبت وراء سياسة خارجية جديدة شهدت تحسنا ملموسا في العلاقة مع دول الجوار.
الامتحان الأول الذي كان ينتظرها جاء مع الملف العراقي وقرار واشنطن التدخل العسكري المباشر عبر الأراضي التركية، والذي وجه برفض البرلمان التركي، مما تسبب بأزمة ثنائية ما زالت ارتداداتها قائمة حتى اليوم.
الامتحان الإقليمي الثاني الذي جاء مكلفا على الداخل السياسي والاقتصادي والأمني التركي كان مع ما سمي بحراك الربيع العربي، وحيث توترت علاقات تركيا مع العديد من العواصم حتى عام 2020 وقرار أنقرة بمراجعة سياستها ومواقفها الإقليمية التي فتحت الأبواب أمام مرحلة جديدة من العلاقات.
لكن أهم التحولات كان في عام 2018 مع إعلان تغيير شكل النظام من برلماني إلى رئاسي، بخصوصية تختلف عن الكثير من النظم المعمول بها في العالم. وهي خطوة دستورية جاءت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/تموز 2016.
أردوغان وحزبه في الحكم لخمس سنوات قادمة بعد هزيمة موجعة لتكتل المعارضة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل 5 أشهر، وهو الذي يقود انطلاقة المئوية الثانية في عمر الجمهورية بأحلام وتطلعات جديدة تحت عنوان “قرن تركيا”.
يرى أحد السياسيين والإعلاميين البارزين في حزب العدالة والتنمية أن تاريخ الجمهورية التركية الفعلي لم يبدأ في عام 1923 بل في عام 1950، ومع دخول البلاد مرحلة التعددية الحزبية في عهد عدنان مندريس.
أكاديمي وبرلماني آخر في العدالة يدعو لإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أتاتورك الثاني، في البلاد بسبب الإنجازات التي حققها خلال العقدين الأخيرين من الحكم في تركيا.
لكن أقلاما وأصواتا في المعارضة تتوقف عند مئات المليارات من الديون، والتفاوت الكبير في تقاسم الثروات ونسب البطالة الضخمة في صفوف الشباب، وأرقام التضخم والغلاء ورفع سعر الفائدة إلى 35 في المئة، بعدما كان شعار أردوغان هو خفض قيمة الفائدة لخفض نسب التضخم والغلاء في منتصف يونيو/حزيران 2022.
عادي جدا في العمل السياسي والحزبي أن يبرز كل طرف الجوانب الإيجابية والإنجازات التي تحققت في عهده، وأن يظهر سلبيات ونواقص الطرف الآخر خلال فترة حكمه ووجوده على رأس السلطة.
هذا ما يجري في تركيا اليوم خلال الحديث عن نهاية عقد وبداية مئوية جديدة من عمر الجمهورية المعلنة في عهد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
لكن حقيقة الوضع السياسي والحزبي القائم في تركيا تقول إن المعارضة تغرد خارج السرب، ولا حظوظ لها في تغيير المشهد بعد 5 أشهر خلال الانتخابات المحلية المرتقبة.