أولا، أبعاد الحرب الاسرائيلية الراهنة في غزة وفلسطين:
يخطئ أكثر قادة العرب، حكومات ومثقفين وسياسيين، إذا اعتقدوا أن الحرب التي تخوضها إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، هي بالدرجة الأولى حرب على حركة حماس، حتى لو كانت “حماس” هي التي تسبّبت في اندلاعها. ويخطئ أكثر من يراهن على الحرب الإسرائيلية للقضاء على حركات الإسلام السياسي، وتحرير البلدان العربية أو بلدان الشرق الاوسط منها، ومن مغامراتها، لصالح تعزيز فرص ولادة أنظمة سياسية علمانية أو شبه علمانية وديمقراطية أو تعددية. هدف الحرب، بالعكس تماما، قطع الطريق على مثل هذه الولادة للنظم الوطنية والديمقراطية والعلمانية التي لا يمكن أن تتخلق وتتشكّل من دون حدٍّ أدنى من السلام والاستقرار والسيادة واحترام حقوق الإنسان والاعتبار لمصالح الشعوب العربية، وفي مقدّمها إطلاق عجلة التنمية الحضارية، الاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وليس هناك عامل ساهم في تقويض هذه التنمية الإنسانية واستنزاف الجهود الفكرية والبشرية والمادية لهذه الشعوب أكثر من الحروب المستمرّة منذ أكثر من قرن لتفريغ المنطقة من قوتها ووزنها وتعزيز بؤرة الاستيطان اليهودي.
وقد تحوّل هذا الاستيطان وتأمين وجوده وتوسيع قاعدة انتشاره وتمكينه من فرض إرادته على الدول العربية المجاورة إلى ثقب أسود يبتلع جميع جهود العرب الفكرية والبشرية والمادية لقرن كامل، وحكم عليها بالتراجع والتخلّف والتقهقر في جميع الميادين، بمقدار ما جعل من إخضاع شعوبها لهذه الأجندة جوهر أجندة السياسة العالمية، والغربية خصوصا، في الشرق الأوسط. وهذا ما استدعى حرمان شعوبها من سيادتها وعدم التردّد في التدخّل في شؤونها الداخلية ودعم النظم الديكتاتورية العسكرية والأمنية وحمايتها والتغطية على انتهاكاتها مهما كانت خطيرة للحقوق المدنية والسياسية.
من هنا، لا تنفصل معركة واشنطن/ تل أبيب لإخضاع الفلسطينيين وحرب التطهير العرقي التي تعتمدها في فلسطين عن معركة الدفاع عن النظم الاستبدادية التي كانت تُراهن عليها لضمان التطبيع مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية وإقامة تحالفٍ يضمن أن يبقى الشرق الأوسط منطقة نفوذ غربية، فأحد أهم دوافع التطبيع تثبيت أسس النظم الاستبدادية التي زعزعتها الثورات العربية في العقد الماضي، والتي تدرك الآن أنه لا أمل لها في البقاء بعد إفلاسها الوطني وفشلها، حتى في الردّ على الحاجات الأساسية لمجتمعاتها، في مجال الحرّيات والحقوق المدنية، وحتى في مجال تأمين الخبز والماء والكهرباء، إلا بالرهان على الحماية الغربية والأميركية بشكل خاص. هكذا لم تعد هناك خلافاتٌ بين هذه النظم ونظام الفصل العنصري في فلسطين، ولا اختلافات تذكر بين ممارسات نظام الاحتلال الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين وممارسات نظم عربية عديدة تجاه شعوبها. هنا أيضا تقدّم إسرائيل في حربها على شعب غزّة نموذجا يُقتدى به في استخدام تجويع الشعوب وتعطيشها وحرمانها من أي خدمات إنسانية سلاحا لإخضاعها وفرض الإذعان عليها.
بدت الحرب الإسرائيلية والتواطؤ الغربي معها تحدّيا سافرا للمبادئ السياسية والأخلاقية التي يقوم عليها الولاء للدولة والنظام والأخلاقيات العمومية
وتخطئ هذه القيادات العربية إذا اعتقدت أن حرب غزّة لا تتعلق إلا بفلسطين، حتى لو كانت قضية فلسطين، أرضا وشعبا، في قلبها. إنها في جوهرها حربٌ إقليميةٌ للحفاظ على السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط، وما يتمتع به من ميزات استراتيجية في مواجهة أي منافسات داخلية عربية أو إقليمية تركية وإيرانية. وفي مقدمة مهام هذه الحرب للحفاظ على السيطرة الغربية إعادة صدقية الردع الإسرائيلي الذي تراهن عليه كقوة رئيسة إقليمية تهدد الدول الإقليمية الطامحة في توسيع هامش مبادرتها وتأمين الأنظمة التابعة وحمايتها ضد الاضطرابات الداخلية أو الخارجية، بما في ذلك ردع العرب عن التفكير خارج الصندوق الذي وضعتهم فيه هذه السياسة ذاتها. لكن هدفها أيضا، في ما وراء ذلك، مواجهة محاولات الدول الكبرى الصاعدة الطامحة في تغيير النظام الدولي المتمحور حول الغرب ومصالحه وإقامة نظام جديد يعيد توزيع أوراق السيطرة ومناطق النفوذ في العالم، وفي ما يتعلق بالقرار الدولي. وهذا يعني أن لهذه الحرب بعدا عالميا يتمثل في تأكيد واشنطن سيطرتها على مناطق نفوذها وعدم التخلّي عن احتكار صياغة أجندة السياسة العالمية بما يخدم أهدافها ومصالحها الاستراتيجية. وهي تنظر إلى أي طرف يخالف قراراتها أو لا يتقيد بها ولا يتصرّف على أساسها أنه متمرّد عليها ومصدر تهديد للأمن والسلام الدوليين، وبالتالي عرضة للعقوبات التي ترتئيها. ولا تخفي أن قرارها هو القانون، اتفق مع القانون الدولي أو خالفه. وهي لا تعير أي اعتبار لهذا الأخير عندما يتعلّق الأمرُ بما تسمّيها مصالحها أو مصالح حلفائها.
غزّة هي اليوم بؤرة الصدام ومسرح العمليات لإعادة الاعتبار لهذه القوة الأميركية المركزية والمتمسّكة بالسيطرة والأحادية القطبية، بمقدار ما أنّ ردع إسرائيل العرب ومحو الأثر السلبي لطوفان الأقصى على صدقية هذا الردع هو الشرط الضروري لإجبار العرب على الاستمرار في الالتحاق بالغرب، وبواشنطن بالذات، ومنعهم من التفكير في توسيع هامش مبادرتهم الاستراتيجية بإقامة علاقات إيجابية ومستقلة مع القوى الدولية الصاعدة، كالصين وروسيا اللتين تعتقد واشنطن أنها في حرب تاريخية حقيقية معهما لمنازعتها على احتكار حقّ صياغة الأجندة السياسية الدولية، وسعيهما إلى تكوين تحالف دولي واسع ضد سيطرتها الأحادية.
ثانيا، في اختلاف الاستجابات العربية والدولية
أدركت قطاعاتٌ واسعةٌ من الرأي العام في الغرب دوافع هذه السياسة الأميركية الغربية الرامية إلى تحميلها ثمن حروب السيطرة الاستعمارية الجديدة النيوكولونيالية، ليس على الصعيد المادي وشروط المعيشة اليومية فحسب، وإنما أكثر من ذلك على حساب حقوق شعوبها المدنية وحرّياتها وتوريطها في حروبٍ عنصريةٍ وإبادية، سوف تتحمّل مسؤوليّتها الأخلاقية والسياسية، وحتى الاقتصادية، عقودا طويلة مقبلة. من هنا، ما يحصل في الغرب ردّا على سياسة دعم الاستيطان والاحتلال والإرهاب والتطهير العرقي لا يعبّر عن انقلاب سياسي وأيديولوجي عميق لدى الشعوب الغربية على السردية الملفقة التي سوّدتها دولها حول المسألة الإسرائيلية والفلسطينية فقط، وإنما هو أكثر من ذلك ثورة ضمير ضد تجاوز كل حدود أخلاقية وإنسانية في إدارة هذه الحرب الاستعمارية التي تجاوزت نموذج الحرب الصليبية التي شنّها جورج بوش الابن على العراق إلى نموذج حروب الإبادة العنصرية. إنه يعكس ردّة الوعي الغربي على الخديعة التاريخية والسياسية التي روّجتها الدعاية والإعلام الاستعماريان في أنه لا حلّ للمسألة الفلسطينية، وبالتالي لا مهرب من دعم إسرائيل حتى النهاية، وتمويل حرب الإبادة الفلسطينية، فبدت الحرب الإسرائيلية والتواطؤ الغربي معها تحدّيا سافرا للمبادئ السياسية والأخلاقية التي يقوم عليها الولاء للدولة والنظام والأخلاقيات العمومية، بالرغم من غياب وشائج القربى الثقافية أو السياسية مع البلاد العربية والشعب الفلسطيني.
بمقدار ما وضعت الحرب في غزّة الأنظمة في مأزق انعدام الخيارات الاستراتيجية في حربٍ ستقرّر مصير الشرق الأوسط ما بعدها، وضعت الشعوب العربية أمام تحدٍّ كبير لم تستطع نخبها أيضا أن ترتقي إلى مستوى الرد الأدنى عليه
فبمقدار ما تشكّل صحوة الضمير هذه أحد مظاهر انحسار هيمنة منظومة الاستعمار الجديد، تبرز أيضا تفجّر تناقضات منظومة السيطرة الدولية القائمة، وتعمل على إعادة تشكيل الوعي السياسي الشعبي، وعودة الصراع إلى محوره الداخلي الرئيسي، بعد سيطرة طويلة للتيارات اليمينية والعنصرية ورهانها على تفجير الحروب الخارجية للتغطية على التناقضات الاجتماعية. وهذا يعني انتقال الأزمة الأيديولوجية إلى داخل هذه البلدان المركزية، مهما كانت النتيجة العسكرية النهائية لهذه الحرب القائمة في غزّة. وعلى هذه اليقظة التي فجّرتها حرب الإبادة في غزّة في بلدان المركز الغربي، نستطيع أن نراهن، وينبغي أن نراهن في المستقبل، لتوسيع دائرة التحالفات العابرة للحدود، وتعزيز التضامن بين القوى الديمقراطية في الشمال والجنوب العالميين في سبيل فضح أساليب التفكير العنصري المتنامي، والصراع ضد سياسات القهر وسلب الإرادة والسيادة، وبلورة اقتراحات لسياسات عولمية جديدة تقطع مع الروح والمنطق الاستعماريين. وفي سبيل فتح آفاق جديدة أمام حركات التحرّر الاجتماعية والديمقراطية الملجومة من تحالف الإمبريالية والاستبداد في معظم مناطق العالم، والدفع نحو تغيير أولويات السياسة العالمية.
في المنطقة العربية، حيث تسود أقوى أشكال التحالف بين مشاريع السيطرة الإمبريالية ونظم الاستبداد، بين الريع النفطي وتجارة السلاح والاستثمار في الجيوش والمليشيات، وضع الانفجار الكبير في فلسطين، وفي غزّة بشكل خاص، الحكومات أمام خياراتٍ صعبة، فقد قوّض مشروعها الاستراتيجي للتطبيع مع إسرائيل، ومن ورائها مع الغرب، لتأمين نظمها ضد الثورات الشعبية وحمايتها من التهديدات الخارجية، والإيرانية بشكلٍ خاص، من دون أن يفتح أمامها أفقا آخر لبلورة خياراتٍ جديدةٍ لمواجهة المخاطر والتهديدات الخارجية، فتركها في الفراغ الاستراتيجي، غير قادرةٍ على مسايرة الانتفاضة الفلسطينية، ولا على الوقوف ضدها وتعميق قطيعتها مع شعوبها المتضامنة تلقائيا معها. فلا يقلّ التغاضي عن حرب التطهير الإسرائيلية خطرا عليها عن القبول بالسير وراء مشاريع المقاومة الفلسطينية المسلحة الحاملة لمخاطر أيديولوجية وسياسية واستراتيجية معا. لذلك، كان موقفها الانتظار وفتح نوافذ على محيطها الإسلامي لتخفيف عبئي تحدّي الغرب بدعم المقاومة والمطالب الفلسطينية من جهة ومخاطر وقوفها في وجه شعوبها المتضامنة مع المقاومة من جهة ثانية، فهي تسير على حبل مشدود تحبس أنفاسها وتزن كل خطوة بمعيار الذهب، حتى لا تتجاوز حدود هامش مبادرتها المعدومة تقريبا.
لكن الأنظمة لم تكن وحدَها الفاقدة للمبادرة، فبمقدار ما وضعت الحرب في غزّة الأنظمة في مأزق انعدام الخيارات الاستراتيجية في حربٍ ستقرّر مصير الشرق الأوسط ما بعدها، وضعت الشعوب العربية أمام تحدٍّ كبير لم تستطع نخبها أيضا أن ترتقي إلى مستوى الرد الأدنى عليه. لذلك، كان الصمت والتردّد والمتابعة السلبية السمات الكبرى لسلوك الكتلة الكبيرة من الجمهور المنزوع الأهلية السياسية والمحاصر أيديولوجيا وسياسيا وأمنيا، والفاقد أي قيادة سياسية وفكرية. هكذا، بعكس ما حدا بالجمهور الغربي إلى التظاهر الحماسي بعد اكتشافه الخديعة وراء تسويق أنظمته إسرائيل بوصفها الحامية قيم الغرب والمدنيّة والإنسانية في الشرق الأوسط والعالم العربي المتوحش، لم تبرز الاحتجاجات أو تظاهرات التضامن العربية إلا متأخّرة، وكانت أقلّ قوة بكثير مما حصل في البلدان الغربية. لكن ذلك لا يعني غياب التعاطف أو ضعفه مع مقاتلي الفصائل الفلسطينية.
لا تنفصل معركة واشنطن/ تل أبيب لإخضاع الفلسطينيين وحرب التطهير العرقي التي تعتمدها في فلسطين عن معركة الدفاع عن النظم الاستبدادية
كان ضعف التظاهرات الشعبية العربية بالمقارنة مع مظاهرات واحتجاجات جمهور إسبانيا وإيطاليا وأيرلندا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأجنبية نابعا من فقدان جمهورها الثقة ليس بالأنظمة التي تحكمه فحسب، وإنما أيضا بالفصائل والمليشيات وحتى القوى السياسية المعارضة أيضا التي شارك كثير منها في معاناته، وكان بالتالي أحد مظاهر استسلامه وتسليمه بأن إسرائيل والحكومات العربية حسمت الموقف لصالحها، ولا يستطيع أن يغير شيئا من الأوضاع البائسة، بما فيها التسليم بسياسة الاستيطان الإسرائيلي أمرا واقعا.
بل إن قسما من النخب العربية في الحكم والمعارضة قد وصل إلى اعتقاد راسخ بأن التحرّر من القضية الفلسطينية ومتعلقاتها من النضال والتركيز على العداء للصهيونية ومواجهة الغرب، وبالتالي، التسليم بالأمر الواقع وإعطاء إسرائيل ما تريد، شرط ضروري للتحرّر السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية، حتى لو كان على حساب الشعب الفلسطيني “الذي عجز عن توحيد صفوفه والتفاهم في ما بين فئاته” للضغط على إسرائيل والغرب للحصول على بعض حقوقه. باختصار، أصبحت فلسطين، في نظر القسم الأكبر من النخب الحاكمة والمعارضة العربية، عبئا لا يُحتمل في سبيل تحقيق التطلعات التحرّرية السياسية والأيديولوجية المحلية أو القطرية. فهي تغذّي، في نظرهم، الإسلاموية والتثبت على الهوية والاعتقاد بالقطيعة بين الغرب والعرب والمسلمين. وبالتالي، تحرمهم من الاندماج بالحضارة والمدنية. والقبول بوجودها كما هي أقل ضررا للعرب من مقاومتها أو الوقوف في وجه مشاريعها التوسّعية.
ثالثا، فصل بطولي من فصول تصفية الاستعمار وعودة التاريخ إلى مساره
في المقابل، تعرّضت إسرائيل لضربةٍ تاريخية، ما فرض على جمهورها والعديد من القوى الدولية التي تقف وراءها وتستخدمها كسيف مسلط لحرمان الدول العربية، وفي مقدّمها مصر، من استعادة دورها الإقليمي، وتجميع الأقطار العربية من حولها أو إقامة تحالف إقليمي فاعل، يعزّز فرصها جميعا في التنمية الاقتصادية والإنسانية، ويزيد ثقة شعوب هذه الأقطار بدولها واستثمارها فيها، لتعظيم فرص تقدّمها وضمان مستقبل أجيالها القادمة. فقد زعزعت هذه الضربة الأسس التي قامت عليها إسرائيل، والتقدم الكبير الذي حققته في العقود الماضية. ونخطئ إن اعتقدنا أن هذه القوة وهذا التقدم الاستثنائيين ناجمان عن الحمية القومية أو التمسك بالعقيدة الدينية. ما جذب ويجذب المهاجرين اليهود إلى فلسطين هو، بالدرجة الأولى، الامتيازات الاستثنائية التي يقدّمها كل نظام استعماري لجمهوره، لقاء تجنيدهم في الحرب الدائمة ضد الشعوب التي انتزعوا منها أملاكها المنقولة وغير المنقولة وتوجيهها نحو المستوطنين الجدد الذين يجدون أنفسهم، وقد تحولوا إلى أسياد وإقطاعيين جدد بمجرّد ولائهم للدولة الجديدة، وحصولهم على جنسيتها، بعد أن كانوا مشرّدين وفقراء في بلدانهم الأصلية. لكن ليس السطو على أملاك السكان الأصليين واستملاكها بالمجان منهم هو الذي يفسّر حجم هذه الامتيازات، وإنما الاستثمار الكبير الذي يضعه في الاحتلال التكتل الغربي الذي جعل من إسرائيل منذ البداية الحارس “الإقليمي” أو المحلي لمصالحه في المنطقة، لقاء عمله على استراتيجيته وتنفيذ خططه والتكفّل بردع شعوبها وحكوماتها ونخبها. وهو استثمار استراتيجي محض، لا علاقة له بما يُشاع عن تبرئة ذمة الغرب من المحرقة التي ارتُكبت بحقّ اليهود في أوروبا، ولا إشفاق قادته على ضحايا النازية.
من هنا، يبرز عمق الأزمة التي وضع فيه “طوفان الأقصى” إسرائيل وهدّد مستقبلها، فإذا فقدت إسرائيل دورها قوة ردع للحكومات والشعوب العربية وعصا غليظة يمكن توظيفها لضرب أي محاولة جدّية للتحرّر من هيمنتها أو القضاء على أي حالم بسياسة مستقلة تضع مصالح شعبه وأمته في المقدّمة أمام المصالح الاستعمارية، لم تعد للغرب مصلحة في الدفاع عن تفوّقها وسيطرتها والاستثمار العسكري والسياسي الهائل فيها. وإذا ضعُفت مساعدات الغرب العينية واللامنظورة، المالية والعسكرية والدبلوماسية والأيديولوجية والإعلامية، وخفت عوائد الاحتلال الاستراتيجية، لم يعد هناك ما يشجّع يهود الغرب والعالم على الالتحاق بها، وتحمّل عبء الحروب التي تستدعيها وظيفتها لقاء مزايا قليلة أو معدومة. وفي هذه الحالة، لم تعد لمشروع الاستيطان الصهيوني، أي لإسرائيل، جاذبية تذكر.
إسرائيل تخوض معركة وجودها بمقدار ما تسعى من خلالها إلى إعادة تأكيد قدرتها الاستثنائية العسكرية والاستراتيجية على خدمة مموّليها من الدول الغربية
لذلك، من الصحيح أن إسرائيل تخوض اليوم معركة وجودها بمقدار ما تسعى من خلالها إلى إعادة تأكيد قدرتها الاستثنائية العسكرية والاستراتيجية على خدمة مموّليها من الدول الغربية. وكي تبرهن على ذلك، عليها أن تمحو عار الهزيمة التي تكبّدها جيشها وأمنها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأن تستردّ ردعيتها وتعيد جاهزيتها لإرهاب الدول والشعوب العربية وانتزاع خضوعها وإذلالها. وهذا هو التحدّي الأبرز التي تواجهه اليوم، والذي يجعلها تعتقد أنها أمام معادلة لا يمكن التراجع عنها، فإما وجودها، وهو يستدعي إنهاء الشعب الفلسطيني وقضيته التي تورّق عيشها وتنهي وظيفتها، أو وجود الشعب الفلسطيني الذي لا يعني انتزاعه دولة فلسطينية إلى جانبها إلا القضاء على دورها الجيوستراتيجي الذي بنت عليه سيطرتها وثروتها المادّية والرمزية وتفوّقها، أي أسطورتها الفعلية.
ما هو الموقف الذي يستجيب لمصالح الحكومات العربية في هذه المواجهة؟ لن يكون بالتأكيد النأي بالنفس عن المواجهة، واعتبار الأمر يتعلّق بالفصائل أو بغزّة أو بفلسطين والسعي إلى التوسّط لانهائها. ينبغي أن يكون بالعكس الاستفادة من أزمة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ومن ورائه أزمة السيطرة الغربية، والأميركية خصوصا، وتوظيفها من أجل توسيع دائرة مبادرتهم وهامش استقلال قرارهم وضمان مستقبل أفضل لدولهم ومجتمعاتهم.
هذا يعني أن يعملوا معا وبشكل منهجي، حتى لا تكون إسرائيل الرابحة في نهاية المطاف، وأن يتحقّق للفلسطينيين الجزء الأهم من الاعتراف بهم شعبا ومجتمعا سياسيا ودولة مستقلة وسيدة إلى جانب الدول الإقليمية الأخرى، فربح فلسطين هذه المعركة السياسية الكبرى لا يعني زوال إسرائيل، وهو ليس الهدف المنشود لهم الآن، وإنما تحجيمها وقلع أنيابها وتحويلها إلى دولة طبيعية خاضعة، مثل جميع دول المنطقة، لقانون واحد، هو القانون الدولي المطبّق من الأمم المتحدة وبقية القواعد والأعراف الدولية. وهو ما يقدّم لهذه الحكومات فرصة إعادة بناء علاقاتها مع إسرائيل وغيرها من للدول الإقليمية على أساس المواثيق الدولية السائدة والقائمة على مبدأ الندّية، أي المساواة المبدئية وتبادل المصالح، لا على الإكراه والإجبار بالقوة من طرف والإذعان من طرف آخر. وهذا ما سوف يشجّع المنقطة بأكملها على الخروج من همجيتها التي ارتبطت بشكل أساسي بحروب إسرائيل وتقويضها جميع الأعراف الدولية، والعمل بمنطق القوة والغزو في الداخل والخارج، ويحفّزها على الدخول تحت سقف القانون.
أدركت قطاعاتٌ واسعةٌ من الرأي العام في الغرب دوافع السياسة الأميركية الغربية الرامية إلى تحميلها ثمن حروب السيطرة الاستعمارية الجديدة
لا يتطلّب تبنّي هذا الخيار والسير فيه الانتصار العسكري النهائي للفصائل الفلسطينية على القوة الإسرائيلية المدجّجة بالسلاح الحديث، والمدعومة بشكل لا سابق له بالترسانة العسكرية الأطلسية الأميركية والأوروبية، فهذا مستحيل. إنه يستدعي فقط عدم التفريط بالإنجاز الفلسطيني الاستراتيجي والسياسي والإعلامي الذي صغر إسرائيل مهما حدث بعد ذلك، وحجّمها وفضح كذبها وخداعها للعالم، وعبأ قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، بما في ذلك، بل خصوصا، في الولايات المتحدة وأوروبا ضد ما أصبح واضحا أن إسرائيل، التي اعتادت مع الغرب على ترديد أنها الديمقراطية الوحيدة في المنقطة، لتبرير الدعم المطلق واللامشروط لها، ليست سوى دولة فصل عنصري، وقوّة همجية لا تتقيّد بأي معايير دولية أو قيم إنسانية. ويمكن للعرب، بالبناء على ذلك، أن يفرضوا على الأميركيين الذين من المفروض أن يعترفوا بأنه لم يعد بمقدورهم حماية مصالحهم في المنطقة بالقوة الإسرائيلية التي “نفّستها” الفصائل الفلسطينية، ولا بد لهم من بناء علاقاتهم مع الدول العربية على أسس أكثر احتراما لاستقلال الأخيرة ومصالحها وحقها في أن تردّ بشكل إيجابي أكثر على تطلعات شعوبها.
نجاح الحكومات العربية في التوصل إلى فرض مثل هذه العلاقة الأكثر استقلالية مع الولايات المتحدة والغرب لن يمكّنها من فرض احترامها على الآخرين فحسب، وإنما من الانفتاح على شعوبها وتوفير الأموال المستثمرة في سباق السلاح وفي الحروب وإعادة إعمار البلدان المدمّرة هنا وهناك، لتحسين شروط معيشة شعوبها وتأهيلها، وهو ما يقلّل من مخاطر الثورات والانتفاضات، ويفتح باب التحوّل الديمقراطي التدريجي، بمقدار ما يغيّر المناخ العام العدواني السائد اليوم في العلاقات بين الدول وداخلها بين الحكومات أو النخب الحاكمة الخائفة والشعوب المكلومة أو المنكوبة أو كليهما.
والخلاصة أن ما شهدناه منذ شهرين ولا نزال نشهده من نجاح فئة قليلة من مقاتلي الفصائل من زحزحة اللوائح التكتونية الساكنة، وتغيير موازين القوى، فصل جديد ملحمي من مسيرة تصفية الاستعمار الطويلة والعنيدة، وإحدى معاركها الكبرى والاستثنائية، تشبه معركة الجزائر العاصمة (1957) التي دقّت جرس الانسحاب الاستعماري الفرنسي. وللأسف، لن يكون الفصل الأخير. فلا تزال هناك شعوب وجماعات عديدة تعيش تحت الاحتلال، وتتعرّض للتمييز والاضطهاد والتمييز العنصري، لكنه يظل تأكيدا مُلهما لحتمية عودة التاريخ إلى سياقه الطبيعي، أعني التحرّر الإنساني والاتجاه نحو العدالة والمساواة، بالرغم من جميع العقبات، لكنه يبقى قبل ذلك تتويجا لروح التضحية الاستثنائية والبطولة الإنسانية والإيمان بالقضية ورفض الاستسلام لقدر القوة والظلم. وأول من ينبغي أن يستلهم درسَه السوريون القابعون تحت وطأة الديكتاتورية الوحشية التي هي المنتج المسخ لتواطؤ السيطرة الإسرائيلية الاستعمارية والاستبداد البغيض.