بعد مرور ما يزيد على شهرين منذ اندلاع الحرب بين حركة حماس وإسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي (2023)، لا يزال تحقيق وقف إطلاق النار بين الطرفين دونه صعوبات عدة، وقد فشلت آخر محاولة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار في الثامن من ديسمبر الجاري، بعد استخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو ضد المشروع الذي تقدمت به المجموعه العربية في الأمم المتحدة.
نحن إذن أمام أفق مفتوح لاستمرار الحرب، بحيث لا يمكن الحديث عن المهزوم والمنتصر فيها في تلك اللحظة. غير أن ذلك لا يحول دون إجراء تقييم لنتائج تلك المرحلة من القتال، بحساب المكاسب والخسائر التي حققها الطرفان، ومن ثم محاولة توقع تأثير تلك النتائج على مسار الحرب لاحقاً. ويرتبط حساب المكاسب والخسائر على الجانبين بالأهداف الثابتة والمتغيرة لكليهما قبل بداية الحرب وأثنائها.
أولاً: حسابات حركة حماس
ليس من السهل تحديد أهداف الحرب الحالية بالنسبة لحركة حماس، إلا بإعادة التذكير بطبيعة الحركة وأهدافها، والتي يمكن اختصارها في النقاط التالية:
1- وفقاً لميثاق الحركة منذ انطلاقها عام 1987، فهي فرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين، تسعى لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وإزالة الدولة العبرية.
2- ناورت الحركة منذ تأسيسها لتفادي الاندماج في منظمة التحرير الفلسطينية (الإطار الجامع لمعظم حركات المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة فتح)، وبالتالى اتسم موقفها بالتناقض منذ توقيع اتفاق أوسلو، وما تبعه من تأسيس السلطة الفلسطينية في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية. فمن ناحية، استمرت حماس في العمل كحركة مقاومة مسلحة، على خلاف اتفاقات أوسلو التي أقرت بأن حل القضية الفلسطينية سيتم عبر التفاوض. ومن ناحية أخرى، شاركت الحركة في الانتخابات التشريعية التي أجرتها السلطة الفلسطينية في يناير 2006، وفازت بها. وأثناء توليها حكم القطاع، شنت عملية نوعية ضد الجيش الإسرائيلي في يونيو من العام نفسه، وتمكنت من أسر الجندي جلعاد شاليط، ونجحت في مبادلته عام 2011 بأكثر من ألف سجين فلسطيني داخل المعتقلات الإسرائيلية.
3- مع ظهور مصطلح “محور المقاومة” عام 2002 والذي تبنته إيران كمحور نقيض لما أسماه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الإبن) بـ”محور الشر” (إيران، العراق، كوريا الشمالية)، أعلن وزير داخلية حماس سعيد صيام في مايو عام 2006 أن “حركة حماس هي جزء من محور المقاومة المكون من سوريا وإيران وحزب الله”.
4- في يونيو 2007 قامت الحركة بانقلاب ضد السلطة الفلسطينية، وانفردت بحكم غزة، وإن استمرت في الحصول على نصيب القطاع من موارد السلطة الفلسطينية.
5- وفقاً لتصريحات رئيس الحركة في أبريل عام 2008 خالد مشعل، تقبل الحركة بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 من دون الاعتراف بإسرائيل، وكحل مرحلي مقابل هدنة طويلة مع إسرائيل لمدة عشرين عاماً.
6- مع صدور ما سمى بوثيقة المبادئ والسياسات العامة للحركة في مايو 2017، أزالت حماس النص على أنها فرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين وعرّفت نفسها بأنها “حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها”.
7- منذ انفرادها بحكم غزة، دخلت حماس في الفترة من 2008 وحتى ما قبل الحرب الحالية، في عدة مواجهات كبرى مع إسرائيل، أكبرها كان في عامى 2012، و2014، وانتهت كافة تلك المواجهات المتقطعة، حتى عام 2021، بتحقيق الهدنة واستعادة التهدئة مؤقتاً، دون تمكن حماس من رفع الحصار الذي ضربته إسرائيل حول القطاع منذ انسحابها منه عام 2005، والذي تزايدت شدته مع كل مواجهه كانت تقع بين الجانبين.
في إطار هذه الخلفية التاريخية، فإن أهداف حماس من الدخول في مواجهات مع إسرائيل كانت تتركز حول هدف ثابت وأهداف أخرى مرحلية أو مؤقتة. فيما يتعلق بالهدف الثابت والذي يتفق مع أيديولوجيتها كحركة تنتمي للإسلام السياسي، فهو السعى لتحرير فلسطين كاملة، وإقامة نظام إسلامي بها، تمهيداً لحلم إدماجها في الخلافة الإسلامية عندما يتثنى ظهورها مستقبلاً.
أما الأهداف المرحلية فقد كانت: الحلول محل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، سواء بالاندماج فيها كطرف متساوي مع حركة فتح على أقل تقدير، أو كقيادة للمنظمة في أفضل الأحوال عبر الاستيلاء على قيادتها من الداخل. وخلال فترة معركة الانفراد بتمثيل الشعب الفلسطيني، ستستمر حماس في القتال ضد إسرائيل، وستعتبر نفسها جزءاً من محور المقاومة الذي تقوده إيران، وستكون الأهداف المرجوة من وراء الهجمات التي تشنها ضد إسرائيل خلال تلك الفترة، أهدافاً متنوعة ترتبط بالظروف الداخلية في القطاع، والتطورات الإقليمية والدولية التي يمكن أن تؤثر على مكانتها في المعادلة الفلسطينية وداخل محور المقاومة.
وقد جسدت المواجهات المستمرة بين حركة حماس وكل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الفترة 2008-2021، مدى قدرة حماس على التمسك بأهدافها الثابتة والمتغيرة، حيث أفسدت كل محاولات إعادة غزة إلى حكم السلطة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الذي ظل قائماً منذ استيلائها على حكم القطاع. كما تمكنت في أحد أكبر انتصاراتها من تحقيق هدف الإفراج عن عدد كبير من النشطاء الفلسطينيين القابعين في سجون إسرائيل في عام 2011 مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وأصرت حماس- تأكيداً على هدفها نحو تقديم نفسها كممثل لكل الفلسطينيين- على أن تشمل صفقة السجناء الفلسطينيين المفرج عنهم في صفقة شاليط، نشطاء ينتمون إلى كافة منظمات المقاومة الفلسطينية وليس المنتمون فقط لحركة حماس. ورغم فشل الحركة في رفع الحصار المضروب من قبل إسرائيل على القطاع منذ عام 2008 من خلال المواجهات المتقطعة معها حتى عام 2021، إلا أنها اكتسبت شرعية- غير مباشرة- عبر الاعتراف بها إقليمياً ودولياً كرقم مستقل عن السلطة الفلسطينية في غزة، من خلال التأييد الكامل لجهود مصر المتكررة لاستعادة التهدئة في أعقاب نشوب كل أزمة بينها وبين إسرائيل. كما فرضت حماس على السلطة الفلسطينية، وعلى العديد من المنظمات والدول التي تقدم مساعدات لغزة، أن تمر هذه المساعدات عبر سلطتها في القطاع، لتتولى مؤسساتها توزيعها وفقاً لرؤيتها وأهدافها.
ومع الهجوم الصاعق وغير المسبوق من حيث حجمه ونوعه، والذي شنته حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، كانت الأسئلة التي فرضت نفسها بعده: ما هى دوافع الحركة لشن هذا الهجوم، وما هو هدفها من وراءه؟، وما هي المكاسب والخسائر التي ترتبت عليه، على مدى شهرين كاملين من الغارات الوحشية لإسرائيل وغزو قواتها برياً للقطاع؟
فيما يتعلق بالدوافع: من المسلم به أن هجوماً بهذا الحجم لابد وأن سبق الاستعداد له والتدريب عليه قبل أكثر من عام على أقل تقدير (وذلك وفقاً لتقديرات استخبارية مختلفة منها تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية نفسها). وبناءً على ذلك، يمكن القول إن ما دفع حماس للإعداد لهذا الهجوم هو التطور الخطير الذي بدأ في التشكل منذ قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإطلاقه لاحقاً ما سمى بـ”صفقة القرن” في يناير عام 2020، وصولاً لنجاح الولايات المتحدة في الحصول على موافقة أربعة دول عربية للانضمام إلى ما يعرف باسم “السلام الإبراهيمي” الذي يقضي بتطبيع العلاقات مع تلك الدول من دون انتظار حل القضية الفلسطينية، خاصة بعد رفض السلطة الفلسطينية ومعظم الدول العربية لصفقة القرن رسمياً. وأخيراً، أثارت محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لتكوين محور يضم إسرائيل وعدداً من الدول العربية والإسلامية، يتولى مواجهة إيران وأذرعها الإقليمية في المنطقة، مخاوف مشتركة بين أطراف “محور المقاومة”، فقد كان أي نجاح محتمل في إطلاق المحور الذي تريده واشنطن، يعني تقويض أهداف محور المقاومة، وبالتالى كان هدف إفساد هذه المحاولات ضرورة استراتيجية لكل أطراف محور المقاومة. فبالنسبة لإيران، كان الخطر جسيماً، حيث سيعني النجاح في إقامة المحور الذي تريده واشنطن أن معركته ستنصب أولاً على القضاء على الأذرع التي شكلتها على مدى عقود لتكون خط الدفاع الأول عن أمنها وطموحاتها الإقليمية، لتستدير بعدها لحصار النظام الإيراني وإسقاط حكم الملالي، وبطبيعة الحال كان القلق في أوساط حزب الله أكبر رغم يقينه بأن إسرائيل ربما تلجأ في البداية إلى تصفية حركة حماس والجهاد في غزة تمهيداً للاستدارة نحو مواجهته هو، حيث من المحتم أنها ستكمل مخططها للقضاء على الحزب ومحور المقاومة بأكمله في نهاية المطاف، وبالتالى كان الرابط الذي شد الأطراف الثلاث يبدو منطقياً، وتمثل في شعار “وحدة الساحات” الذي يعني أنه في حالة قيام إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة بشن هجوم على أحد الأطراف، فيجب أن يفتح الطرفان الآخران جبهة كلٍ من ناحيته، بمعاونة جبهات أقل قوة (الجبهة السورية، ضربات من الجماعات الشيعية في العراق ضد القواعد الأمريكية هناك، تهديد الحوثيين للملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر)، على أمل انضمام جبهات عربية أخرى للصراع، وعلى رأسها الضفة الغربية المحتلة، مع إمكانية إدخال إسرائيل في تحدٍ ضخم مع مصر إذا ما وصل الرد الإسرائيلي على هجمات أكتوبر إلى حد دفع سكان قطاع غزة للتوجه نحو الحدود المصرية.
لم تأت التطورات اللاحقة لهجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر بسيناريو مطابق لتصورات حماس، وهو ما أجبرها على تغيير دوافعها وأهدافها المعلنة منذ بداية الحرب على النحو التالي: في أعقاب الهجوم، أصدر إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس بياناً قال فيه: “إن عملية طوفان الأقصى جاءت رداً على العدوان المتكرر من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين على المسجد الأقصى، وتهدف لوقف هذه الاعتداءات، وتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإن الطوفان بدأ من غزة ولكنه سيمتد للضفة والخارج، وكل مكان يتواجد فيه شعبنا وأمتنا”، وهو ما كرره نائبه صالح العاروري – يعيش في تركيا- مهيباً بأبناء الضفة الغربية تحديداً للانتفاض ضد المستوطنين وجيش الاحتلال، كما طالب الأمة العربية والإسلامية بكل دولها بالانضمام للمعركة.
أما محمد الضيف قائد كتائب عز الدين القسام – الذراع العسكرية لحركة حماس – فقد أكد من جهة على نفس الدوافع التي ذكرها هنية والعاروري لشن العملية، فيما كان أكثر تفصيلاً من جهة أخرى، في دعوته لتمديد المواجهه للخارج بقوله: “ابدئوا بالزحف الآن نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدوداً ولا أنظمة، ولا قيوداً تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى، ويا أهلنا في الداخل والنقب والجليل والمثلث أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين”. واستمر مضمون البيانات الصادرة عن حماس في نفس الاتجاه حتى يوم ١١ أكتوبر، وعندما تبين للحركة أن محاولتها إثارة الجماهير العربية والإسلامية بحثِّها على الانضمام إلى الحرب بوازع ديني (تحرير الأقصى) لم تنجح، وبعد إدراكها أيضاً أن حزب الله لن يزيد من وتيرة اشتباكاته المحدودة مع إسرائيل والتي بدأت بإطلاق بضع قذائف نحو مواقع الجيش الإسرائيلي في مزارع شبعا، غيرت حماس روايتها عن دوافع شن عملية طوفان الأقصى، حيث صرح صالح العاروري في ١٢ أكتوبر بأن عملية طوفان الأقصى كانت عملية “استباقية” لمنع إسرائيل من شن حرب شاملة ضد القطاع في أعقاب نهاية الأعياد اليهودية (٧-٩ أكتوبر)، وأن بعض المشاهد التي تم تصويرها لعدد من الفلسطينيين وهم يقتادون أسرى إسرائيليين من بينهم أطفال ونساء كبيرات السن، لم يكن مقاتلوها هم من قاموا بذلك، بل بعض مواطني غزة الذين استغلوا انهيار الحراسة الإسرائيلية على الحدود، وقاموا بالدخول إلى مناطق غلاف غزة، واقتادوا عدداً من الرهائن في رحلة عودتهم للقطاع، وتم ذلك كله بعيداً عن تعليمات قادة حماس، التي تحرص على الالتزام بالقوانين الدولية التي تحمي حقوق المدنيين والأسرى في الحروب.
وصاعداً منذ 12 أكتوبر، بدأت حماس في محاولة وقف القتال، عبر التركيز على جذب الرأي العام العالمي للتعاطف معها، والضغط من أجل إيقاف الحرب، بعد الأعداد الهائلة من الضحايا المدنيين من الفلسطينيين خاصة الأطفال والنساء، والذين كانوا يسقطون يومياً.
وبعد مضي أكثر من شهر على الحرب، وفي صدد تراجع حماس عن روايتها لأهداف الحرب، صرح القيادي بالحركة خليل الحية في التاسع من نوفمبر أن “هدف حماس ليس إدارة غزة وتزويدها بالمياه والكهرباء وما إلى ذلك، ولكنها أرادت “إيقاظ العالم من سباته العميق، لوضع القضية الفلسطينية حاضرة على الطاولة”.
غير أن الأمور ازدادت تعقيداً مع عجز مجلس الأمن عن استصدار قرار ملزم بوقف القتال، وكانت آخر المحاولات في هذا الصدد في الثامن من ديسمبر الحالي، والتي لم تحظ بالموافقة بسبب استخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو. كما أيدت الأخيرة سعى إسرائيل لإنهاء حكم حماس في غزة، مع تقديم تأكيدات نظرية ومتكررة بشأن حل الدولتين، دون الإعلان بوضوح عن خطة لتطبيقه.
أيضاً، اضطرت حماس للتراجع عن رفضها الحديث عن قضية الأسرى الإسرائيليين كما كانت تقول في الأسبوع الأول للحرب، وقبلت بثلاث عمليات متتالية لتبادل الأسرى مع إسرائيل مقابل هٌدن إنسانية، قبل أن تتوقف هذه العمليات ويعود القتال مجدداً في الأول من ديسمبر الجاري.
وإذا كان الأمر على جانب حماس قد شهد تراجعات عن روايتها الخاصة بالحرب سواء في دوافعها، أو في أهدافها، فإن الأمر نفسه حدث على الجانب الإسرائيلي.
ثانياً: الحسابات الإسرائيلية
على مدى سنوات طويلة، لم تكن القيادات الإسرائيلية المتعاقبة قادرة على وضع تصور يمكن تطبيقه في التعامل مع قطاع غزة؛ فعلى خلاف الوضع في الضفة الغربية التي تسعى إسرائيل بقوة إلى نشر الاستيطان بها تمهيداً لابتلاعها، مع السماح لسكانها الفلسطينيين بحكم ذاتي محدود، تحت دعاوي توراتية وأمنية، كانت إسرائيل تسعى بنفس القوة للتخلص من القطاع الذي يُنظر إليه على أنه عبء أمني وسياسي، ولا يحظى بأهمية توراتية مثل الضفة. وعندما قررت إسرائيل تفكيك مستوطناتها في القطاع والرحيل عنه عام 2005، كان هدفها الرئيسي بعد التخلص من مسئولية إدارته، هو وضع حركة حماس في مواجهة مع السلطة الفلسطينية، وترك هذه المواجهة تتفاعل مع ظروف الاختلافات الأيديولوجية المعروفة، والمنافسات السياسية الممتدة مع حركة فتح (التي تقود السلطة الفلسطينية)، لتحدث شقاً في الصف الفلسطيني يحول دون توحده في مواجهة إسرائيل من جانب، ويخلق زريعة مقبولة أمام المجتمع الدولي بأنه لا يوجد شريك فلسطيني موحد للحديث معه عن مستقبل حل الدولتين من جانب آخر.
تبنت هذه السياسة الحكومات المتعاقبة التي شكلها زعيم الليكود بنيامين نتنياهو منذ عام 2009 وحتى رحيله المؤقت عن الحكم في منتصف عام 2021، وخلال هذه الفترة الطويلة وقعت عدة مواجهات صغرى، ومواجهتين كبيرتين في أعوام 2012، و2014 مع حركة حماس، لم يضع نتنياهو في أي منهما هدفاً يقضي بإنهاء حكم حماس في غزة، رغم تمرد بعض أحزاب اليمين عليه بسبب هذه السياسة، ورفضها العودة للمشاركة في ائتلافات بقيادته، كما فعل أفيجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتينو منذ عام 2019.
ومع عودة نتنياهو إلى الحكم مجدداً في ديسمبر من العام الماضي، بدا أنه سيتمسك بنفس النهج طالما لم تتجاوز حماس خط تكرار مستوى المواجهات السابقة، رغم أن حزبي الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموترتش، وحزب القوة اليهودية بزعامة إتمار بن غفير، قد اشترطا للمشاركة في الائتلاف الأخير رفض حل الدولتين، وإنهاء حكم حماس في القطاع إذا ما أطلقت صواريخها ضد إسرائيل لأي سبب.
وبسبب قناعة نتنياهو بأن التطورات الإقليمية والدولية تتجه لصالح إسرائيل، سواء باستمرار توسع اتفاقات السلام الإبراهيمي، واستقطاب الحرب الروسية- الأوكرانية الاهتمام الدولي بعيداً عن القضية الفلسطينية، أو بسبب سعي الولايات المتحدة لجعل إسرائيل ركيزة لمنظومة دفاعية إقليمية تتولى مواجهة صعود التحالف الروسي- الصيني- الإيراني في الشرق الأوسط، وبالتإلى عدم إثارتها لقضية السلام مع الفلسطينيين.. لهذه الأسباب اعتقد نتنياهو أن إيران التي تتحكم في قرارات أذرعها في المنطقة (حزب الله، وحماس، والجهاد) لن توافق على دعم أي هجمات ضد إسرائيل، خاصة في وقت كانت الولايات المتحدة تجري مفاوضات مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018، كما كانت إيران أيضاً تسعى لتأمين اتفاقها مع الولايات المتحدة للإفراج عن جزء من الأموال الإيرانية المجمدة، مقابل الإفراج عن عدد من المواطنين الأمريكيين الذين تحتجزهم إيران في سجونها بناءً على اتهامات مختلفة.
وأخيراً كان نتنياهو مقتنعاً تمام الاقتناع بقوة الردع الإسرائيلية المتمثلة في أجهزة الاستخبارات، والجيش، ومن ثم فإن هذا العامل أيضاً سيشكل ردعاً كافياً لحماس حتى لا تواجه رداً عسكرياً صارماً، يكلفها الكثير من قدراتها التي تتآكل تدريجياً بفعل الحصار المضروب على قطاع غزة منذ عدة سنوات.
ومثلما راهنت حركة حماس على عناصر خارج سيطرتها، لتوجيه ضربة طوفان الأقصى لإسرائيل، دون أن يؤدي ذلك إلى شن الجيش الإسرائيلي حرباً برية ضد القطاع، فقد راهن نتنياهو أيضاً على عناصر متخيلة في ذهنه وحده لردع حماس ومنعها من الهجوم على إسرائيل، ولذلك جاء هجوم حماس في السابع من أكتوبر بمثابة صدمة هائلة لنتنياهو، وللشعب الإسرائيلي بأكمله، وليعلن بوضوح نهاية الأساطير الإسرائيلية عن مناعتها، وعن قدرتها على العمل ضد خصومها في أكثر من جبهة، حيث اضطرت لطلب العون الأمريكي الذي تمثل في إرسال واشنطن لحاملتي طائرات إلى شرق البحر المتوسط، وتعزيز الوجود البحري الأمريكي في الخليج لردع إيران وحزب الله عن فتح جبهات أخرى ضد إسرائيل، وبدون هذا التحرك الأمريكي كان من الصعب على إسرائيل أن تحارب في جبهتين في آن واحد، بل كان اضطرارها للتركيز على جبهة حزب الله الأكثر قوة في الشمال، سيأتي حتماً على حساب قدرتها على التعامل مع حركة حماس في الجنوب.
وفي كل الأحوال، أنهت عملية طوفان الأقصى النظرية التي تبناها نتنياهو لسنوات، وهي الحفاظ على حكم حماس في غزة، عند أدنى مستوى للتهديد من جانبها (أي حماس) ضد إسرائيل، للاستمرار في تقويض فكرة حل الدولتين، الذي كان يعتبره هو وحلفاؤه في اليمين أخطر على إسرائيل من تهديدات حركة حماس.
وفي الناتج النهائي وحتى اللحظة (بعد شهرين من الحرب) لم تحقق إسرائيل أياً من أهدافها وخاصة، القضاء على القدرات العسكرية لحماس، وتحرير بقية الرهائن الإسرائيليين.
خلاصة القول، إن الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر بين حماس وإسرائيل، قد برهنت على خطأ حسابات الجانبين، سواء الجانب الإسرائيلي قبل الحرب، أو جانب حماس بعد اندلاعها، ويبقى فقط رصد الخسائر والمكاسب على الجانبين، ومحاولة التنبؤ بمسار المواجهات بينهما بعد دخول الحرب شهرها الثالث.
ثالثاً: تقييم الخسائر والمكاسب على الجانبين
1- على جانب حماس
باعتبار أن حماس كانت المُبادِرة بشن الحرب، فقد حققت في الأسبوع الأول نصراً كبيراً على إسرائيل عسكرياً وسياسياً، حيث تمكنت من تكبيد إسرائيل خسائر ضخمة في الأفراد (1200 قتيل من المدنيين، 138 أسيراً أغلبهم من الجنود والضباط، جرح أكثر من 7400، نزوح قرابة 200 ألف من مدن غلاف غزة نحو وسط إسرائيل). ومع استمرار القتال حتى بداية الشهر الثالث نشرت إسرائيل بيانات تشير إلى جرح أكثر من 1000 جندي، ومقتل 95 آخرين في معارك داخل القطاع.
كما تفوقت حماس على حزب الله اللبناني، حيث كان الأخير يحارب دوماً داخل الحدود اللبنانية، ولم يجرؤ في حربه عام 2006 مع إسرائيل على الدخول إلى الحدود الإسرائيلية، بينما تمكنت حماس من الدخول إلى مسافة كبيرة داخل مدن الجنوب الإسرائيلي، كما قامت باحتلال عدة قواعد للجيش الإسرائيلي لعدة ساعات، واستطاعت أيضاً أسر أكبر عدد من الجنود الاسرائيليين منذ حرب أكتوبر 1973.
ومن ناحية التأثيرات السياسية لعملية حماس، فمن المؤكد أنها تسببت في إنهاء حقبة نتنياهو في الحياة السياسية الإسرائيلية بغض النظر عن النتائج النهائية للحرب، كما ستؤثر كثيراً على قوة اليمين هناك في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن أنها ستتسبب في ضغوطات كبيرة على إسرائيل بعد انتهاء الحرب لفتح مسار للتسوية النهائية للقضية الفلسطينية.
ولكن على جانب الخسائر، فهي أيضاً لم تكن قليلة بالنسبة لحماس، حيث خابت رهاناتها على تحديد مسار الحرب وإنهائها بشكل سريع، بإجبار إسرائيل على وقفها مقابل تبادل للأسرى، حيث برهنت حكومة نتنياهو على أن هدف إنقاذ الرهائن لم يكن على رأس أولوياتها. كما عجز المجتمع الدولي، وعجزت الضغوط الشعبية في شوارع كبرى العواصم الدولية عن إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية، وهو ما كان رهاناً مهماً تعول عليه حماس بشكل كبير لوقف الحرب، وأخيراً اكتشفت حماس مدى خواء شعار “وحدة الساحات” بعد أن امتنع حزب الله عن استخدام كامل قوته لفتح جبهة ضد إسرائيل في الشمال، وبعد إعلان إيران على لسان وزير خارجيتها أمير عبد اللهيان في 30 أكتوبر: “فيما يتعلق بهذه العملية التي تسمى طوفان الأقصى، لم يكن هناك أي صلة بتلك المعطيات بين إيران وعملية حماس هذه، لا حكومتي ولا أي جهة من بلدي”، وأردف قائلاً: “إيران لا ترغب في توسيع جبهات الحرب”.
أما الجانب الأكثر كارثية في خسائر حماس، فقد تجسد في عجزها عن تقديم الحماية لشعبها في غزة، وحتى نهاية الشهر الثاني من الحرب بلغ عدد من أسقطتهم الغارات الإسرائيلية قرابة 16 ألف من المدنيين الأبرياء وأغلبهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى جرح أكثر من 46 ألف آخرين، وقيام إسرائيل باعتقال ما يزيد على خمسة آلاف شخص في الضفة وغزة على خلفية اتهامهم بالعمل مع حماس، و أخيراً اضطرار أكثر من مليون فلسطيني للنزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد تدمير قرابة 60% من منازل القطاع بأكمله.
ومما لا شك فيه، فإنه أياً كانت نهاية الحرب، ستواجه حماس كفكرة أولاً وكتنظيم يحكم القطاع ثانياً (إذا لم يسقط حكمه هناك فعلاً) انتقادات عنيفة من جانب سكان القطاع الذين تركتهم حماس يواجهون آلة القتل الإسرائيلية، بدون أن تفكر في مصيرهم أثناء التخطيط لعملية طوفان الأقصي، وانتقادات أشد بسبب أنها بدلاً من أن تحرر القدس والأراضي المحتلة في الضفة الغربية، تسببت في عودة احتلال إسرائيل للقطاع مرة أخرى.
2- على الجانب الإسرائيلي
كان أهم ما في كشف الخسائر، ليس فقدان أعداد كبيرة من القتلى والجرحى والأسرى، ونزوح مئات الآلاف من السكان من الجنوب والشمال لوسط البلاد، بل الأخطر هو انهيار كافة الأساطير التي عاش في ظلها المجتمع الإسرائيلي، فأجهزة الاستخبارات التي تصف نفسها بأنها “الأكثر ذكاءً” فشلت فشلاً ذريعاً في اكتشاف خطة هجوم حماس على الدولة، والجيش الذي يعتبر نفسه “الأقوى في العالم” عجز عن مواجهة هجوم قاده ثلاثة آلاف مقاتل لا يحملون سوى أسلحة شخصية، وظل لمدة أسبوع يحاول القضاء على من تمكنوا من الدخول لقواعده وللمدن في جنوب البلاد.
كما سقط الشعار الذي كانت إسرائيل ترفعه “جيشنا أكثر جيوش العالم أخلاقية”، بعد أن قتلت آلته العسكرية آلاف الأطفال والنساء. وفي اتجاه آخر، فقدت إسرائيل ثقة بعض الدول التي كانت تراهن على قوتها العسكرية ونفوذها السياسي لحماية أمنها ومصالحها في مواجهة الخطر الإيراني. كما أيقنت واشنطن أن إسرائيل غير صالحة لتولي مكانة “الوكيل الإقليمي” لها لحماية مصالحها في الشرق الأوسط، وأخيراً وليس آخراً سقطت أسطورة أن إسرائيل هي الوطن الأكثر أمناً لكل يهود العالم. وربما ستكون الفائدة الوحيدة لإسرائيل من تلك الحرب، أنها قد تنتهي بسقوط حكم حماس في غزة وابتعاد الخطر القادم من القطاع لسنوات طويلة، مع احتمال مؤكد بأنها أيضاً ستنتهي بسقوط نتنياهو ورحيله عن الحياة السياسية بعد سنوات طويلة من عجز منافسيه السياسيين، والقضاء الإسرائيلي نفسه، عن الاطاحة به عبر عدة انتخابات متتالية، وعبر محاكمات قضائية ما تزال تطارده حتى اليوم.
رابعاً: مستقبل الصراع في المدى المنظور
رغم ادعاء إسرائيل وحركة حماس بقدرتهما على الاستمرار في الحرب لأشهر عديدة قادمة، إلا أنه من الناحية العملية لم يعد أمام إسرائيل أي هدف عسكري يمكن أن تحققه داخل القطاع، بعد أن دمرت كل ما هو فوق الأرض من منشآت مدنية أو عسكرية تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وتبدو كل الخيارات أمام إسرائيل مُكلِّفة للغاية، فإما أن تواصل قتل المدنيين ودفعهم للهرب نحو الحدود مع مصر، وهو ما سيزيد من حجم الانتقادات الدولية لجرائمها في قطاع غزة، ويفتح المجال أمام خيارات مصرية أخرى لحماية أمنها القومي. وإما أن تشن هجمات مكثفة على أنفاق حماس بما في ذلك بأسلحة غير تقليدية، وهو ما يمكن أن يكلفها خسائر مروعة في أرواح جنودها، كما سيجر عليها انتقادات دولية أشد عنفاً تمهد لتقديم قادتها وجنودها للمحاكم الجنائية الدولية بعد نهاية الحرب. وإما- ثالثاً- الاستمرار في القتال الحذر لتفادي الخسائر في صفوف قواتها، وهو ما سيزيد من المدى الزمني المتوقع لنهاية الحرب، بكل ما يفرضه هذا الوضع من خسائر اقتصادية ومعنوية ضخمة، ناهيك عن أن العديد من التقارير التي تنشرها الصحف الأمريكية مؤخراً تشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن منحت إسرائيل سقفاً زمنياً لإنهاء عملياتها العسكرية في القطاع قبل نهاية هذا العام، وإذا ما صدقت مثل هذه التقارير، فإن إسرائيل ربما تزيد من وتيرة قصفها الوحشي للقطاع على أمل أن تنهار القدرات العسكرية لحماس في وقت أقرب من انتهاء المهلة الأمريكية المزعومة، والتي يمكن أن تظهر في صورة توقف تام عن إطلاق الصواريخ صوب إسرائيل، وتقليل الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية في القطاع إلى الحد الأدنى.
ولكن حتى بافتراض استمرار حماس في الحرب حتى نهاية هذا العام، فإن إسرائيل لن تستجيب للمطلب الأمريكي المنتظر بوقف القتال، حتى لو اضطرت لتخفيض حجم غاراتها الجوية ضد السكان المدنيين، والاكتفاء بالاستمرار في تعزيز وجودها في شمال غزة، واشتراط رحيلها عنه بإخراج قوات حماس من القطاع بواسطة قوة دولية، أو بتقبل استمرار إسرائيل في مساعيها العسكرية لتفكيك حماس على المدى البعيد.