إذا تمثل سر الدبلوماسية الناجحة، وفق قول شهير للرئيس الأميركي ثيودور روزفلت، بضرورة التحدث بلطف مع الاحتفاظ بعصاً غليظة في اليد، فقد وصل وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن إلى منتصف تلك الطريق في الأقل، ضمن سعيه لاتباع نهج متوازن في مقاربته الحرب في غزة.
من خلال طريقته المتحفظة المعروفة في التعبير، أورد السيد بلينكن أمراً له وقع قوي للغاية بخصوص الكيفية التي تدير من خلالها إسرائيل عملياتها العسكرية. وفي حديثه في واشنطن بعد عودته من آخر مهمة له في منطقة الشرق الأوسط، بدا السيد بلينكن واضحاً وثابتاً في مواقفه إذ صرح “بأن إسرائيل ملزمة بضرورة إيلاء حماية المدنيين أهمية كبرى. ولا تزال ثمة فجوة بين ما قلته على وجه التحديد حينما كنت هناك، أي هدف حماية المدنيين، والنتائج الفعلية التي نراها على أرض الواقع”.
في المقابل، لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في فك طلاسم الرسالة من رسالة بنيامين نتنياهو الناعمة النبرة الهادئ التي صدرت منه أثناء وقوفه إلى جوار وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون الذي يبدو أنه يدعم الوجود البريطاني على المسرح الدولي ويحقق بعض التأثير في السياسة الأميركية، إذ ستقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل وهي “ستؤمن لها ظهرها”، بحسب جملة قالها الرئيس بايدن، لكن دعم الولايات المتحدة الدبلوماسي والعسكري الحيوي، لا يمكن منحه برمته من دون أي شروط.
في الأسابيع الأخيرة، عمد اللورد كاميرون إلى رفع سقف تصريحاته مع إشارته إلى أن عدد الضحايا الفلسطينيين كبير للغاية، بكل بساطة. والآن، فعل السيد بلينكن الأمر نفسه. وكذلك لم يكن جلياً دائماً أن القانون الإنساني الدولي يحترم (من قبل الطرفين)، ولا أن الحملة الإسرائيلية جاءت متناسبة [كرد على هجمات “حماس”]، بغض النظر عن حملة الرعب السادية التي ارتكبت يوم السابع من أكتوبر.
في المقابل، يجب على السيد بلينكن أن يحذو حذو اللورد كاميرون، وأن يندد علانية بعنف المستوطنين الإسرائيليين ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، على رغم أنه، من دون أدنى شك، لا بد أن يكون قد أعرب عن شيء مماثل يبدي استياء الولايات المتحدة، لكن بشكل بعيد من الإعلام. إن القرار الذي اتخذه الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي بالتصويت ضد حزمة المساعدات الأميركية إلى أوكرانيا، تضمن منح الموافقة على تقديم أموال أميركية لمصلحة إسرائيل وغزة، يجب أن تدفع المسؤولين الإسرائيليين في القدس إلى مراجعة أهداف تلك الحرب، وكيفية تحقيقها.
واليوم، مع هذه المسافة من تاريخ هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، لم يخف تأثير ذلك العدوان العنيف بعد مرور هذه الفترة القصيرة، إضافة إلى أنها لم تقلص الحق السيادي لإسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد العدوان وأعمال القتل والتنكيل بالمدنيين وبالطبع، بجنودها أيضاً. لكن، ثمة أمراً أقل وضوحاً يتمثل بكيفية نجاح استمرار الحصار والقصف المتواصل لغزة، مع ملاحظة كل ذلك العدد من الإصابات في صفوف المدنيين الذي خلفه، في خدمة تعزيز الأمن الإسرائيلي والآمال بالسلام على المدى الأبعد.
لقد اكتشف بعض مواقع “حماس” على ما يبدو، وجرى الاستيلاء على أسلحة، وجمعت معلومات استخباراتية واعتقل مقاتلون. في المقابل، راوغ قادة “حماس” العسكريين، وقيادات مجموعة متنوعة من الميليشيات الأخرى، على ما يبدو، الدبابات الإسرائيلية، وكذلك فإن غالبية القيادات العليا السياسية لـ”حماس” تبقى مقيمة في قطر مع توفر كل وسائل الراحة لها.
في هذه الأثناء، هنالك نسبة مثيرة للقلق من عدد الضحايا الأطفال وحديثي الولادة الذين يتم نقل أنباء وصور مقتلهم ومعاناتهم على شاشات العالم بشكل مباشر مما يثير الغضب العارم. بالطبع كان يمكن لكل أولئك الأطفال أن يكونوا أحياء، وغير متأثرين بقوة النيران الإسرائيلية، لو أن “حماس” لم تشن عدوانها الإرهابي المروع قبل شهرين من اليوم.
واستطراداً، تتمثل القضية أيضاً بأن “حماس” تبدو مرتاحة إلى استخدامها الغزاويين الأبرياء كدروع بشرية، إضافة إلى انتهاكها حرمات المستشفيات، وذلك يمثل جريمة حرب. لكن، إن النقطة التي آثارها السيد بلينكن تبقى مستمرة. إن التنافر بين الوعود الإسرائيلية عن نواياها خفض الإصابات في صفوف المدنيين والواقع على الأرض يبدو صارخاً إلى حد كبير.
واستكمالاً، فبمقدار ما يمكننا الحكم عليه، لم ينهض السيد نتنياهو بإعداد هدف واضح لهذه الحرب أبعد من رغبته (غير الواقعية) في “تدمير” حركة “حماس”، وتأمين التوصل إلى “استسلامها غير المشروط”، والعمل على إنقاذ الرهائن. وكذلك لم يوضح نتنياهو ذلك الأمر لأصدقاء إسرائيل وحلفائها، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولا إلى الدول العربية في الشرق الأوسط الذين تربطه بهم علاقة بناءة، بل إنه لم يشرح ذلك حتى لأبناء وطنه. وبحسب ما جرت الإشارة إليه في مرات عدة، على أساس الخبرة الطويلة والمرة، فحتى لو كتب النجاح [لإسرائيل] في كسر شوكة “حماس”، أو ترويعها بشكل ما عبر هذه الحرب، فقد تظهر جماعات مسلحة أخرى إرهابية كي تأخذ مكان “حماس”، من ثم ستستمر سلسلة العنف على مدى عقود إضافية مقبلة.
واستطراداً، جرى التدمير والتشريد في غزة على مستوى يقارب الدمار النووي، لكن تلك الحرب لا تبدو أنها تسير بشكل مفيد بالنسبة إلى إسرائيل، لا على الأرض ولا على المسرح الدولي. وقد اتخذ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الخطوة غير المسبوقة المتمثلة بإعلانه اللجوء إلى الفصل 99 من ميثاق الأمم المتحدة، ودعا إلى انعقاد مجلس الأمن الدولي لمناقشة التهديدات [التي تشكلها حرب غزة] على الأمن العالمي.
وطرح أحد أصدقاء إسرائيل الإقليميين الجدد، هي دولة الإمارات العربية المتحدة التي أرست علاقات دبلوماسية كاملة معها [إسرائيل]، مشروع قرار يدعو لوقف لإطلاق النار إنساني عاجل. ويعتبر ذلك الأمر مقاربة إشكالية، مع تذكر تردد “حماس” في شأن تخليها عن العنف، لكنه طرح يبدو أنه شرع يحظى بقبول، وكذلك مع الأخذ في الاعتبار الأزمة الإنسانية، وهو طرح من شأنه أن ينقذ الأرواح. بالطبع، قد يؤدي ذلك إلى الإفراج عن مزيد من الرهائن الإسرائيليين وغيرهم ممن تحتجزهم “حماس”.
إن الأوضاع في غزة مزرية بشكل واضح، مع زيادة خطر انفلات موجة من وباء الكوليرا. ويشعر أناس في أرجاء العالم بمعاناة الفلسطينيين. من ثم باتت الحرب تحرك التظاهرات والنزاعات في مناطق بعيدة للغاية عن مخيمات اللاجئين، والخطر المتمثل بحدوث تصعيد إقليمي، يؤدي إلى تدخل إيران، وتركيا والدول الخليجية، لا يزال موجوداً. ولن يكون أي من تلك الأمور عنصراً مساعداً لشعب إسرائيل للعيش بسلام.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال الولايات المتحدة، الوفية لإسرائيل، مستعدة لاستخدام حق النقض الفيتو في مواجهة أي مشروع قرار يطرح على مستوى مجلس الأمن. في المقابل، يجب على نتنياهو أن يستوعب أنه الآن لم يعد باستطاعته أن يتكل على أن مثل ذلك الدعم الأميركي سيكون مضموناً بشكل تلقائي.