الحرب بطبيعتها لا تجلب سعادة لأحد، لأنها تنطوي على تضحيات وخسائر استثنائية، لكن الحرب تكون مشروعة دفاعا عن البقاء والمحافظة على النفس من الإبادة، وهو حال الفلسطينيين حاليا، وهم يتحملون تضحياتها وخسائرها في هذا السياق. الحرب ليست مشروعا أيديولوجيا، ولا هي غاية في حد ذاتها، كما تؤمن قيادات الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل، وهي المشروع المفضل طالما أنها تأتي لهم بالمكاسب، بصرف النظر عن الثمن وعمن يتحمل التضحيات. ولا تلوح في الأفق نهاية لحرب غزة، من دون حل سياسي، فالحلول العسكرية لم تنتج غير المزيد من الحروب. وقد اعترف واحد من غلاة مؤيدي إسرائيل في الكونغرس الأمريكي هو السيناتور ليندسي غراهام بأن الصراع يمكن أن يستمر: «إذا لم نأت بحل للصراع الآن، فإننا نتكلم عن جيل جديد من أنصار الموت».
ومع أن أنصار الحرب في إسرائيل يعلمون أنها ستطول، فإنهم لا يقدرون قوة التحولات التي صنعتها المقاومة الفلسطينية في الضمير العالمي، وفي توجهات الرأي العام الإسرائيلي نفسه، وعلى حلفاء إسرائيل بما فيهم الولايات المتحدة. وقد واجه أصحاب مشروع الحرب المستمرة في إسرائيل محنة مذلة ففي الأسبوع العاشر فقط من الحرب، قفز فيه عدد القتلى من ضباطهم وجنودهم إلى 22 فردا، عادوا في أكفانهم إلى المقابر، حيث العويل والصراخ، وليس في احتفال بالنصر.
تشعر إسرائيل بمرارة الهزيمة، رغم كل خطب نتنياهو الزاعقة وخسائرها البشرية تثبت أن المقاومة الفلسطينية تلحق بالجيش الإسرائيلي المزيد من الخسائر
الآن تشعر إسرائيل بمرارة الهزيمة وآلام الفقد، رغم كل الخطب الزاعقة التي يطلقها نتنياهو. كما أن خسائر إسرائيل البشرية في الأسبوع العاشر تثبت أن المقاومة الفلسطينية تلحق بالجيش الإسرائيلي المزيد من الخسائر يوما بعد يوم. واعتمادا على بيانات الجيش الإسرائيلي نفسه فإن عدد القتلى من الضباط والجنود حتى نهاية يوم 17 من الشهر الحالي بلغ 127 قتيلا بمعدل يبلغ 1.7 قتيل يوميا منذ بدء الهجوم البري. لكن الأرقام نفسها تشير إلى أن عدد القتلى في الاسبوع العاشر فقط بلغ حوالي 22 عسكريا في 6 أيام بمتوسط يبلغ حوالي 4 قتلى يوميا تقريبا. ونظرا لأن جوهر عمل المقاومة في حروب المدن هو «جرح العدو وتركه ينزف»، وليس الانتصار على جيش الاحتلال في عملية واحدة، فإن ارتفاع متوسط نزيف أعداد القتلى العسكريين الإسرائيليين يثبت أن المقاومة الفلسطينية تخطو على الطريق الصحيح، مع كل التضحيات الاستثنائية التي يتحملها الفلسطينيون. ومن المؤكد أن إسرائيل تعمد إلى تقليل الأرقام المعلنة لقتلاها وجرحاها، خشية إثارة الرأي العام ضدها. وتثبت أرقام الجرحى العسكريين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات والمراكز الطبية الإسرائيلية أن عددهم يتجاوز 5000 آلاف جريح بعضهم في حالة خطرة. إسرائيل تنزف بشريا أيضا من واقع معدلات النزوح التي تزايدت في الأسابيع الأخيرة.
إن الصدمة العسكرية في الأسبوع العاشر من الحرب، بما تضمنته من خسائر في القيادة الميدانية للقوات الإسرائيلية تكشف عن تخبط شديد في تنفيذ قواعد الاشتباك، أدى إلى قتل مجموعة من المحتجزين لدى المقاومة في موقعتين، سجلت الأولى مقتل المحتجز ومقتل وجرح كل أفراد القوة الخاصة المهاجمة (مات واحد منهم بعد نقله للمستشفى). وسجلت الثانية مقتل ثلاثة محتجزين. وقد علق واحد من أهم القادة العسكريين في العالم، الذين شاركوا في حروب المدن في أفغانستان والعراق والحرب على «داعش» هو الجنرال (متقاعد) تشارلي هربرت (بريطاني) على ذلك قائلا، إن «واقعة قتل الجيش الإسرائيلي ثلاثة من المحتجزين الإسرائيليين في غزة تضع علامات استفهام كبيرة على تكتيكات الجيش الإسرائيلي، وقواعد الاشتباك العملياتية، وعدم الالتزام بمبدأ «التناسبية» في الرد، وعدم التمييز في العمليات بين المدنيين والعسكريين. ونقل عنه الصحافي البريطاني المتخصص في الشؤون العسكرية فرانك غاردنر قوله: «لا يوجد حل عسكري فعال لمسألة المحتجزين في غزة». ويبدو أن الصدمة العسكرية الأخيرة، وضعت نتنياهو وقيادة تيار الصهيونية الدينية المتطرفة تحت ضغوط عوامل أخرى سبقتها تدعو الى التهدئة ووقف إطلاق النار مؤقتا، منها الضغوط التي يمارسها الرئيس الأمريكي لتخفيف حدة الحرب ومحاولة إنهائها بأسرع ما يمكن، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الثاني الذي يطالب بهدنة إنسانية في غزة، تتضمن وقف القتال لعدة أيام، وترتيب الإفراج عن عدد من الأسرى والمحتجزين لدى الطرفين، وزيادة المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في غزة، الذين يعانون من الموت جوعا وعطشا وبالرصاص، كذلك فإن نتنياهو ربما يكون قد أراد تخفيف الأثر النفسي على الإسرائيليين من عودة أبنائهم في أكفان من غزة مع اقتراب موسم الاحتفالات بذكرى مولد السيد المسيح عليه السلام، واحتفالات بداية السنة الميلادية الجديدة. وتحت ضغط هذه العوامل أعلن قبوله بفكرة وقف القتال مؤقتا بعد يوم واحد من تصريح ناري أمام جنوده قال فيه «لا شيء سيوقفنا» عن محاربة حماس إلى النهاية. ومن المحتمل أيضا أن القيادة العسكرية الإسرائيلية، التي باتت في وضع صعب مع تزايد قوة المقاومة، ربما تريد الحصول على مهلة لإعادة تقييم الموقف وتغيير تكتيكات الإدارة اليومية للحرب. في هذا السياق فقط وليس في غيره يمكن تفسير التغير في موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، وسكوت أصوات المتطرفين داخل حكومته، أمام قبول عرض جديد لاستئناف مفاوضات «المحتجزين مقابل الأسرى»، يشمل أيضا وقف إطلاق النار لتأمين عملية المبادلة، وفتح البوابات لتدفق مساعدات إنسانية أكبر إلى الشعب الفلسطيني الصامد في غزة.
حجج تغذي استمرار الحرب
لم تصل التكلفة التي تتحملها إسرائيل في حرب غزة حتى الآن، إلى الحد الذي يدفع الرأي العام الإسرائيلي إلى نقطة الانقلاب عليها. صحيح أن هناك تيارا لا يثق في أن حكومة نتنياهو سوف تحقق نصرا على المقاومة في غزة، وأن مصيره إلى زوال سياسي بمجرد انتهاء الحرب مهما كانت النتائج، إلا أن الرأي العام الإسرائيلي يتلقى يوميا كمية هائلة من الجرعات السياسية والأيديولوجية التي تروج للحرب ضد الفلسطينيين، وتعتبرها مسألة حياة أو موت. ويتم تصنيع تلك الجرعات بواسطة كتيبة من غلاة المتطرفين من التيار الصهيوني الديني. واحد من أهم رموز هذه الكتيبة هو مئير بن شبات رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي سابقا، الذي أمضى عمره المهني كله تقريبا داخل جهاز الأمن الداخلي (شين بيت) في إسرائيل. ويترأس بن شبات حاليا معهد دراسات الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية في القدس. هذا المعهد تأسس عام 2005 ليكون المطبخ الفكري – السياسي لليمين الصهيوني الديني المتطرف، وقد اشتهر في الإعلام بعد حرب غزة بدراسته التي أعدها عن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر، مقابل أموال تحصل عليها الحكومة في القاهرة.
يقول مئير بن شبات في مقال منشور بتاريخ 15 من الشهر الحالي، إن تكثيف الضربات الإسرائيلية (على غزة) هو أهم من أي شيء آخر، إذا كنا نريد حماية الأرواح وإنهاء الحرب. وتقوم رؤية بن شبات للسياسة الأمنية الإسرائيلية على أن حماس (وكذلك المقاومة المسلحة الفلسطينية بشكل عام) تمثل تهديدا وجوديا لإسرائيل. ومن ثم فإنه لا مجال للتردد أمام مهمة الخلاص منها. مؤكدا أن الطريق الأسهل والأقل تكلفة للتخلص من حماس والمقاومة المسلحة هو حملة تتألف من «هجمات عسكرية عالية الكثافة مع حصار شديد يحرم حماس من بناء أي قدرات لاستعادة نفوذها في قطاع غزة». ومن أجل تقليل الخسائر البشرية يتعين السماح للسكان بمغادرة مناطق القتال إلى أماكن أخرى، كما كانت قوات التحالف تفعل أثناء الحرب على «داعش» في العراق وسوريا. بمعنى آخر فإن بن شبات يريد أن يذكر الإدارة الأمريكية بأن موقف إسرائيل من المدنيين في غزة لا يختلف عن موقف الدول الحليفة من المدنيين في حروب أفغانستان والعراق وسوريا.
ويرى بن شبات أن «تقليل كثافة الهجمات وزيادة المساعدات الإنسانية هي وصفة لإطالة أمد الحرب ومساعدة المقاومة على البقاء». وإذا قبلت إسرائيل بذلك فإنها تنجرف إلى مستنقع، يزيد بالضرورة المخاطر التي يتعرض لها الجنود. ولتجنب التعرض لذلك ينصح بن شبات بممارسة أقصى درجة من تكثيف العمليات العسكرية شبيهة بتلك التي كانت في المرحلة الأولى للحرب، وهذا ما يزيد فاعلية جهود التخلص من حماس، كما يزيد فرص تحرير المحتجزين، بصرف النظر عن أعداد الضحايا والأهداف المدنية الفلسطينية. وتتضمن المشاورات بين واشنطن وتل أبيب بشأن تخفيف حدة الحرب، التركيز على ضرب أهداف مرتبطة مباشرة بالمقاومة الفلسطينية وتحديد خريطة طريق لتنفيذ ذلك في الأسابيع الأولى من العام المقبل. كذلك من المتوقع أن تكون المفاوضات بشأن هدنة جديدة شديدة الصعوبة على التوازي مع تكثيف الضربات العسكرية.