وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات فلسطينية تمنح الشرعية لقيام كيان فلسطيني يتولّى إدارة قطاع غزة.. هو الإطار الذي يمكن به مواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي يريد انطلاقاً من غزة إقامة نظام نكبة جديد كما نكبة عام 1948″. هذا هو رأي الباحث والأستاذ الجامعيّ الإسرائيلي مناحيم كلاين الذي كان مستشاراً للوفد الإسرائيلي في المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 2000، وأحد الرعاة لمبادرة جنيف عام 2003.
يعتقد كلاين، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، أنّ “اتفاق فتح وحماس في عام 2021 لإجراء انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية ومجلسها التشريعي، وانضمام حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية، قدّما ويقدّمان أفقاً سياسياً مقبولاً نحو حلّ الصراع. فقد كان من المقرّر إجراء الانتخابات وفقاً لاتفاقيات أوسلو التي تضمّنت الالتزام باحترام القانون الدولي، وإقامة دولة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الإطار الشرعي والحصري، وإجراء نضال شعبي سلمي، ونقل الحكومة المنفصلة في قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية”.
لكنّ إلغاء الانتخابات، بعد ضغوط شديدة من إسرائيل والولايات المتحدة واستسلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس لها، أدّى، كما يعتبر كلاين، إلى “انتفاضة الوحدة”، ومعها عملية “سيف القدس” التي نفّذتها حماس، وعملية “حارس الأسوار” الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه تقريباً، إلى تصوّر وتخطيط الهجوم القاتل في 7 أكتوبر (تشرين الأول). وهو يعتقد أنّه لو لم يتمّ إلغاء الانتخابات، لظهر زعيم شعبي ديمقراطياً، ولكنّا من المرجّح سنشهد واقعاً سياسياً مختلفاً تماماً. لكنّ النجاح أعمى إسرائيل، تماماً كما حدث قبل حرب عام 1973.
الغطرسة الإسرائيليّة
في رأي كلاين أنّ “هناك أوجه تشابه عدّة بين هجوم 7 أكتوبر والهجوم المفاجئ على إسرائيل في حرب يوم الغفران. عمليّاتيّاً، في كلّ من عامَيْ 1973 و2023، لم يولِ قادة المخابرات الإسرائيلية اهتماماً كافياً بالتحرّكات العسكرية لأعدائهم على الأرض. واستراتيجياً، أرسلت دولة عربية مجاورة تحذيراً إلى إسرائيل لم يؤخذ على محمل الجدّ:
– في عام 1973، كان الملك حسين عاهل الأردن.
– وفي عام 2023، المخابرات المصرية.
وفي كلتا الحالتين، اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية بغطرسة على الاعتقاد الخاطئ بأنّ انتصاراتها العسكرية قد نجحت في ردع أعدائها”.
ويتابع: “كما حدث في عام 1973، كان الفشل الأساسي في السابع من أكتوبر سياسياً. قبل عامين من تلك الحرب، اقترح الرئيس المصري أنور السادات ترتيباً جزئياً مع إسرائيل، ووافق تقريباً مع أفكار وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان في ذلك الوقت. لكنّ رئيسة الوزراء غولدا مائير لم تثق بالسادات، وبالنسبة لها لا فرق بينه وبين سلفه القومي العربي جمال عبد الناصر، فكلاهما كان يريد ببساطة تدمير إسرائيل. فتمسّكت بموقفها. وكانت الحرب الرهيبة، التي قُتل فيها أكثر من 2,600 إسرائيلي وأُسر 300 جندي، ووقّعت إسرائيل بعدها اتفاقية هدنة مع مصر في عام 1974، وكانت شروطها تتقاطع إلى حدّ كبير مع اقتراح السادات في عام 1971”.
برأي الكاتب أنّه “عندما رفضت مائير مبادرات السادات في عام 1971، كانت تعتقد، كما قسم كبير من المؤسسة الإسرائيلية بعد حرب الأيام الستّة، أنّ وضع البلاد أفضل من أيّ وقت مضى”. وكان هذا شعار الحزب الحاكم قبيل الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها أواخر عام 1973. هذه الغطرسة نفسها تجلّت عام 2021، عندما عارضت إسرائيل الانتخابات الفلسطينية وضغطت على عباس للتخلّي عن علاقته مع حماس. كان نتانياهو، مثل مائير، يعتقد أنّ سياسات الحكومة كانت ناجحة، وأنّ السماح بإجراء انتخابات وإعادة تنظيم القيادة السياسية الفلسطينية سيدمّر كلّ ما بنته إسرائيل.
إلغاء الانتخابات، بعد ضغوط شديدة من إسرائيل والولايات المتحدة واستسلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس لها، أدّى، كما يعتبر كلاين، إلى “انتفاضة الوحدة”، ومعها عملية “سيف القدس” التي نفّذتها حماس، وعملية “حارس الأسوار” الإسرائيلية
انهيار النهج الإسرائيلي في غزّة
يشير كلاين إلى أنّ سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين منذ عام 2006، تدور حول ثلاثة محاور رئيسية، تدعمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية:
– أوّلاً، السيطرة الكاملة على قطاع غزة من الخارج والفصل المادّي والقانوني والسياسي لغزة عن الضفة الغربية، والحفاظ على التنافس بين فتح وحماس ومحاولة ترويض هذه الأخيرة.
– ثانياً، إدارة الصراع مع الفلسطينيين بدلاً من حلّه. فإلى جانب التوسّع في مستوطنات الضفة الغربية، أنشأت إسرائيل نظاماً فريداً يمنحها السيادة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وحوّلت السلطة الفلسطينية إلى مقاول لها يسيطر على الفلسطينيين نيابة عنها.
– ثالثاً، الحدّ من الصراع الإسرائيلي العربي الأوسع من خلال إبرام اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية وترك الفلسطينيين معزولين وضعفاء تحت رحمة إسرائيل.
لكن لم يكن نتانياهو وحده هو من صاغ السياسة الإسرائيلية، يذكر كلاين، بل إنّ قادة المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل يشاركون في صياغة وتنفيذ النهج الذي انهار الآن. وما زال العديد منهم لا يدركون إلى أيّ مدى يتطلّب هجوم حماس الدموي تغييراً جذرياً في المسار. وبدلاً من ذلك هم يسعون إلى العودة إلى المبادئ السابقة وإيجاد مقاول من الداخل لإدارة قطاع غزة نيابة عن إسرائيل، سواء كان كياناً محلياً أو سلطة عباس أو هيئة دولية.
إقرأ أيضاً: استطلاع فورين أفيرز “مع إيران”: هل يمثّل 2400 تونسي كلّ العرب؟
عودة إلى مخطّط 2021
لكن لا يمكن لأيّ كيان من هذا القبيل أن يعمل من دون الشرعية التي تمنحها له الانتخابات الفلسطينية. وإلّا فسيتمّ النظر إليه على أنّه متعاون غير شرعي مع المحتلّ، يؤكد كلاين الذي يرى أنّه “لا بدّ من العودة إلى المخطّط السياسي الذي تم رفضه في 2021 من أجل خلق واقع جديد، والعمل إلى جانب وقف إطلاق النار، على إجراء انتخابات فلسطينية باعتبارها وسيلة لتغيير قواعد اللعبة وقادرة على قيام فلسطين المستقلّة على كلّ الأراضي المحتلّة عام 1967، بدلاً من إعادة إنتاج النظام الفاشل الذي تفرضه إسرائيل في الضفة الغربية”.
ويختم بأنّ “هذا هو الإطار الذي يجب وضعه في مواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي يريد إقامة نظام جديد قاسٍ متّسق مع نظام النكبة عام 1948، بدءاً بقطاع غزة: نفي أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من غزة، وبناء مدن استيطانية، بما في ذلك إعادة بناء المدن التي تمّ إجلاؤها في عام 2005، ثمّ تنفيذ الخطة نفسها في الضفة الغربية بالشراسة نفسها”. ويقول: “لقد تمّ في الماضي تجنّب هذا المسار الرهيب حين منع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي، إسرائيل في عامَي 1973 و1974 من استئناف القتال مع مصر بمجرد وقف إطلاق النار، وأشرف على توقيع الاتفاقيّتين المؤقّتتين بين إسرائيل ومصر اللتين مهّدتا الطريق لزيارة السادات القدس عام 1977، والتوصّل إلى تسوية سلمية توسّط فيها الرئيس جيمي كارتر في 1978-1979. لكن هل يوجد الآن في أميركا من له الوزن وقوة الإرادة نفساهما ليفعل الشيء نفسه بين إسرائيل والفلسطينيين؟”.
* مجلّة +972: هي مجلّة إلكترونية مستقلّة لا تمثّل، بحسب موقعها، أيّ منظمة خارجية أو حزب سياسي أو أجندة، ويديرها مجموعة من الصحافيين الفلسطينيين والإسرائيليين. تأسّست عام 2010. يستعيد اسمها رمز الهاتف الدولي للاتصال في جميع أنحاء إسرائيل وفلسطين.
* وثيقة جنيف: وثيقة غير رسمية، تمّ التوقيع عليها، في الأوّل من كانون الأول 2003، بين بعض السياسيين الفلسطينيين وبعض الإسرائيليين من اليسار، تنصّ على انسحاب إسرائيل من معظم الأراضي التي احتُلّت في حرب عام 1967، وعلى ترسيم الحدود بين الطرفين، وإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنّها لاقت معارضة من اليمين الإسرائيلي ومن بعض الأحزاب الوطنية والإسلامية الفلسطينية.