رغم وجود عدة منظمات تسعى لتحقيق المصالح الإسرائيلية في الولايات المتحدة، إلا أن الأيباك تعد الأهم على الإطلاق نظرا لقوتها تنظيميا ونفوذها في عدة مؤسسات أميركية، وهو ما مكنها من فرض السياسات الإسرائيلية متوخية ثنائية المكافأة والعقاب، ولعل أبرز تلك السياسات سياسة الاستيطان المثيرة للجدل.
تعد اللجنة الأميركية – الإسرائيلية للشؤون العامة (الأيباك)، أو ما يعرف باسم اللوبي الإسرائيلي، إحدى أبرز جماعات المصالح في الولايات المتحدة، وتمثل المصالح الإسرائيلية لدى الكونغرس الأميركي منذ إنشائها في خمسينات القرن العشرين.
وبالرغم من وجود منظمات مركزية أخرى تسعى إلى تحقيق الأهداف الإسرائيلية، فإنها ليست بنفس قوة وهيمنة اللوبي الإسرائيلي في تأثيره على صانع القرار خاصة الكونغرس الأميركي.
وتسعى دراسة للباحثة د. إنجي المهدي مدرسة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، إلى تقديم رؤية عن أهمية الدور الذي يلعبه اللوبي الإسرائيلي، ومدى تأثير الأيباك على الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ممثلة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، خاصة قضية الاستيطان.
لكن الأهمية العلمية للدراسة تتمثل في الاستفادة من آليات الأيباك للضغط على السياسة الخارجية الأميركية، والعمل على وضع آليات موازية لها في الجانب العربي للتأثير على السياسة الخارجية الأميركية من خلال تكوين لوبي عربي.
نفوذ قوي
ينشط في الأيباك مئة ألف عضو فعال، مهمتهم الأساسية التأكيد على أمن إسرائيل والحفاظ على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط والعالم، ويظهر جليا من خلال موقعها الإلكتروني أن الغرض الرئيسي من إنشائها هو تعزيز الروابط الأميركية – الإسرائيلية، بما يمكن الطرفين من التواصل والتقارب عن كثب.
وسعت الأيباك منذ بدايات نشأتها -كمعظم اللوبيات- إلى توطيد علاقاتها مع كبار المسؤولين الأميركيين من نواب ووزراء ومستشارين وغيرهم، وتوجيههم إلى ما يخدم مصلحة إسرائيل داخل الولايات المتحدة وخارجها، إذ تسعى الأيباك إلى السيطرة على مراكز مهمة في مؤسسات صنع القرار الأميركية وتجنيدها لخدمة مصالحها ومصالح اليهود داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وتشمل العضوية داخل اللجنة الأكاديميين والعسكريين السابقين، فهي تضم الخبراء في كافة المجالات والتخصصات اللازمة لممارسة الضغط بفاعلية، وهي لا تضم فقط اليهود الأميركيين وإنما أيضا المسيحيين البروتستانت والذين كانوا في معظمهم أعضاء سابقين في مراكز مهمة في الولايات المتحدة كالسلطة التشريعية، كما تضم أكثر من مئة ألف مواطن من الخمسين ولاية في أميركا، ولديها شبكة من عشرة مكاتب إقليمية وسبعة مكاتب للأقمار الصناعية، التي تساعد الناشطين المؤيدين لإسرائيل في تعليمهم أن مستقبل وأمن إسرائيل يكمنان في توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة.
وترى الكاتبة أن الأيباك تضغط من خلال استخدام أداة المعاقبة والمكافأة؛ تعاقب أعضاء الكونغرس الذين يرفضون سياستها من خلال عدم تقديم الدعم المادي والتصويتي لهم في حملاتهم الانتخابية، وشن حملات تشهير ضدهم في الصحف كي لا يستطيعوا الوصول إلى الكونغرس مرة أخرى، وتكافئ الآخرين من خلال دعمهم ودعم حملاتهم.
كما أنها تقوم بإعداد العديد من التقارير ولكن أهمها وأكثرها شهرة هو تقرير الشرق الأدنى الذي يصدر كل أسبوعين ويرسل إلى أعضاء الأيباك والبيت الأبيض وأهمهم أعضاء الكونغرس، والذي يحتوي على كيفية التصويت لصالح إسرائيل من خلال توضيح أهدافها التشريعية في القوانين التي يشرعها الكونغرس أو المقترحة عليه وعرض ما يجب أن يتخذ فيه، وتتضمن تلك التشريعات في ما يخص القضية الفلسطينية مثلا نقل السفارة الإسرائيلية من تل أبيب إلى القدس، وغير ذلك كثير.
ويعد هذا التقرير إحدى أهم أدواتها في التأثير على الكونغرس. وكمثال على مدى التأثير تم تمرير مئة تشريع لصالح إسرائيل على مدار مئتي جلسة للكونغرس بسبب تأثير الأيباك. إضافة إلى ذلك تساعد الأيباك الكونغرس في تحضير الخطب الرسمية وتنفيذ الأبحاث حيث يطلب منها أعضاء الكونغرس ذلك، وهذا قبل طلبها من الخبراء الإداريين أو مكتبة الكونغرس أو خدمة الأبحاث في الكونغرس.
وتكشف المهدي عن أن الأيباك تعلم أعضاءها أساليب جمع التبرعات وكيفية إدارة الحملات الانتخابية من خلال إعطائهم دورات تدريبية. وتختار الأكثر ولاء لإسرائيل من خلال الطلب من المرشحين للكونغرس أن يبدوا آراءهم تجاه قضايا الشرق الأوسط، كما تستخدم سيطرتها على الصحافة والإذاعة والتلفزيون كأدوات لمكافأة أو معاقبة المرشحين في الكونغرس من خلال توجيه الأقلام لصالح المرشحين الذين يقفون بجانب مصلحة إسرائيل.
وإلى جانب احتوائها على العديد من المنظمات التي تتعامل على المستويين الحكومي والشعبي تعمل على قلب الرأي العام لدعم إسرائيل عن طريق تصويرها بأنها حليف موال للولايات المتحدة، بينما تفعل العكس ناحية العرب فتظهرهم بصورة سلبية.
تؤكد الباحثة على عدم وجود لوبي عربي يوازي نفوذ اللوبي الصهيوني، وأن اللوبيات العربية منقسمة ومتنافسة وغير موحدة، وتشير إلى أنه على الرغم من أن حجم اليهود الأميركيين في الولايات المتحدة لا يتجاوز 3 في المئة إلا أن تأثيرهم أكبر بكثير بسبب تفكيرهم الإستراتيجي وآلياتهم لجذب السياسة الخارجية الأميركية لصالحهم، فمثلا عملت الحكومة الإسرائيلية وحليفها اللوبي الإسرائيلي على تأسيس مراكز أبحاث تعمل على فهم السياسة الخارجية الأميركية، بينما لم يدرك الجانب العربي أهمية هذه الخطوة وجهل بها.
كما أهمل العرب جانب الدعاية من إعلام وصحف مثل ما يفعل اللوبي المؤيد لإسرائيل، فلم يقيموا أي علاقات وطيدة مع المجتمع المدني الأميركي ولا مع السلطات الأميركية، تاركين المساحة للوبي المؤيد لإسرائيل.
لذلك فإن نتائج اللوبيات العربية في الأخير تكون ضعيفة ولا تصل إلى قوة اللوبي الصهيوني، والذي رغم الاختلاف في الحدة بينه وبين اللوبي اليهودي تجاه القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك لا يؤثر على تماسكهما وهدفهما الرئيسي وهو حماية مصالح إسرائيل كأولوية.
الاستيطان أمر واقع
تشدد المهدي على أن الكونغرس يقع تحت تأثير كامل للأيباك في كل القرارات المتعلقة بالمصلحة الإسرائيلية منذ الإدارة الأميركية للرئيس هاري ترومان، ويعد كشيء ثابت في السياسة الخارجية الأميركية، وتم تمرير العديد من التشريعات في سبيل ذلك، ومن هذه التشريعات ما يتعلق بالمستوطنات.
ففي أغسطس 2009، إبان عهد باراك أوباما، اعتبر أعضاء في الكونغرس من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي بناء المستوطنات في فلسطين أمرا مشروعا، وهاجموا أوباما لطلبه وقف الاستيطان، ومارسوا ضغوطا عليه من أجل تعديل موقفه، وهو ما تم بالفعل.
وفي يونيو 2011 قامت الأيباك بالضغط على المجالس التشريعية لتمرير تشريع في مختلف مناطق الولايات المتحدة آخرها ولاية نيومكسيكو، والذي يحاول تقنين الحق الإسرائيلي في السيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن إسرائيل ليست دولة محتلة، وأن هذا حق معطى لها بحكم النبوءة الدينية والتاريخية، وأن السلام لن يتحقق إلا من خلال إسرائيل موحدة.
وفي 2013 تقدم الكونغرس بقانون نص على قطع المساعدات الفلسطينية إذا لم تحقق بعض الشروط والمتمثلة في التالي: التوقف عن أية مقاطعة لإسرائيل، والاعتراف بحقها في الوجود كدولة يهودية، والعمل معها على تطبيق خارطة الطريق لحل النزاع بينهما.
كما نص على حظر أي من النفقات كمساهمات من الولايات المتحدة إلى منظمة الأمم المتحدة بما فيها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في حال اعترافها بدولة فلسطين كعضو في الأمم المتحدة قبل تنفيذ السلطة الفلسطينية كل ما يطلب منها من شروط. وبهذا فإن تأييد الكونغرس الأميركي لأي من القرارات المتعلقة بقضية المستوطنات أو الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بصورة عامة، كان دائما يصب في صالح الجانب الإسرائيلي، وهذا بسبب الضغوط التي يمارسها اللوبي الإسرائيلي وخاصة الأيباك.
وتقول المهدي إن هناك مؤشرا مهما يوثق الدعم المستمر من قبل الإدارة الأميركية لإسرائيل، وهو الاستخدام الدائم لحق الفيتو من الولايات المتحدة داخل الأمم المتحدة في صالح إسرائيل في أي من الأمور التي تعرقل حركتها واحتلالها وإقامتها للمستوطنات في الدولة الفلسطينية.
وبدأت الولايات المتحدة في استخدام هذا الحق عام 1970 أثناء إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، وقد استخدمته منذ ذلك الوقت 39 مرة في كل القرارات التي كان من شأنها أن تكون ضد المصلحة الإسرائيلية في الفترة ما بين 1972 و2011، وفي الفترة من 2000 إلى 2011 استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو تسع مرات في صالح الجانب الإسرائيلي.
كمثال على مدى التأثير الكبير للأيباك تم تمرير مئة تشريع لصالح إسرائيل على مدار مئتي جلسة للكونغرس
ومما خلصت إليه المهدي في دراستها أن فاعلية الأيباك على مستوى السياسة الخارجية الأميركية لم تتأثر بالمستجدات الإقليمية والدولية؛ ففي ظل انشغال المجتمع العربي بالثورات ومشاكله الداخلية والتوتر والقلاقل التي أصابت المنطقة، مما جعل القضية الفلسطينية على الهامش، استغلت إسرائيل هذه القلاقل لصالحها وسارعت إلى إنشاء المستوطنات.
وإن الاستيطان الإسرائيلي الذي بدأ خلال إدارة أوباما من 2009 إلى 2017 لم يقل، بل بالعكس زاد بطريقة مطردة، حيث كان يتم بناء المستوطنات في أكثر المناطق جدلية وحساسية في الأراضي الفلسطينية، وتم استخدام الجدار العازل لمحاصرة جميع الحدود داخل الدولة الفلسطينية لحماية هذه المستوطنات، وهو ما أدى إلى تداعيات فادحة على الأراضي والشعب الفلسطيني حيث قطع أوصال الشعب وحرمه من ممارسة تجارته، كما استولى على أكبر المناطق المسؤولة عن تدفق المياه، ومنع أي آمال لإقامة الدولة الفلسطينية.
كل ذلك تم تحت ضغط من الأيباك على الكونغرس الأميركي، من أجل تجاهل كافة الانتهاكات التي تتم على الأراضي الفلسطينية من قبل الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، كما ضغطت من أجل إفشال أي محاولة من شأنها عرقلة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
العرب