كذلك ذهبت مسألة إسقاط الطيران التركي الطائرة الروسية إلى اتجاهات تصعيدية، في سياق الصراعات المتفجرة على الأراضي السورية، لأهداف المصالح الخاصة بكل طرف، وكشفت، من ضمن ما كشفت عنه، أن طبيعة تلك الصراعات ليست محكومة لوقائع المعاندة السياسية فحسب، بل هي أكثر احتكاماً في الجوهر لوقائع المعاندة الاقتصادية، وللطبيعة الجيو سياسية، تلك التي لم تعد تخفى على أحد. وقد كان لافتاً ما أشار إليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين أكد، في باريس، أن القرار التركي إسقاط المقاتلة الروسية “يندرج في إطار إرادة تركية لحماية واردات نفطية تنطلق من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم (داعش) في اتجاه الأراضي التركية. حتى إن ما يمكن تسميته “النفط الداعشي”، بات “يوحّد” أطرافاً عدة، للاستفادة من وجود التنظيم ودوره التدميري والتخريبي من جهة، على الرغم من الضربات الجوية التي لم تساعد على الحد من آثاره المدمرة، طالما أن هناك من يستفيد من سعر النفط الرخيص الذي يتداول به في الأسواق السوداء، بدءاً من النظام السوري نفسه، وبعض النظام التركي وحتى إسرائيل، ولمَ لا روسيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وكأن “فوضى النفط” يمكن لها أن تنشئ رأس جسر للعبور نحو ما يتوهم أنه التسوية السياسية التي بدأت تتباعد رويداً رويداً، حتى باتت أبعد مما كانت عليه في السابق، على الرغم من المساعي المكثفة في هذا الاتجاه.
في خضم التعقيدات المستجدة وبعد التدخل العسكري الروسي، بدأ يلاحظ اتجاه إيراني “مزايد” لإيجاد نوع مع المنافسة مع روسيا، في بدء الكشف عن أعداد الضحايا الإيرانيين الذين يسقطون في المعارك، مع ذكر مناصبهم، وكأن طهران تريد إفهام موسكو أن الإيرانيين لا يقلون منافحة عن رأس النظام، بل هم ماضون في حربهم للحفاظ على الأسد في السلطة، وعلى مصالحهم في المنطقة، على الرغم مما يقال عن صفقة أميركية – روسية لحل سياسي من مراحل عدة، ينبغي أن تنتهي باستبعاد الأسد.
وفي سابقة لم تشهدها الصحافة الإيرانية، انتقدت صحيفة “بهار” تمسك القيادة الإيرانية ببشار الأسد، والتبريرات التي تسوقها للحفاظ عليه وعلى نظامه. ونددت، بحسب ما نقلت عنها صحيفة العرب القطرية، بوضع النظام الإيراني خطوطا حمراء للحفاظ على بشار الأسد. وكتبت: “وضع خطوط حمراء للأزمة السورية من شأنها أن تسد الطريق لإيجاد أي حل سياسي، وهذا يجعل الأزمة السورية أكثر تعقيدا”.
وفي سياق انتقادها، تطرقت الصحيفة إلى ارتفاع أعداد القتلى الإيرانيين في سورية، وكتبت: “إن الجهات الرسمية قالت إن الوجود العسكري الايراني هو لتقديم الاستشارات، لكننا نرى أن أغلب الذين قتلوا من القيادات الإيرانية في سورية سقطوا في وسط جبهات القتال الحامية في مدينة حلب”.
وقبل اجتماع فيينا وبعده، يلاحظ على الحركة الدبلوماسية، كما الوقائع الميدانية، أنها وإذ تتسارع؛ فلأنها تهدف إلى إعادة صياغة المنطقة ومعطياتها الجيو – سياسية، تمهيداً للبحث في صلب المسألة السورية، المؤجل البحث فيها، ريثما تنضج ظروف مستجدة، يكون في الوسع في أثنائها إشهار إعلان التخلي عن رأس النظام، من حلفائه القدامى والجدد، وصولا إلى الولايات المتحدة التي لم تعد في عجلة من أمرها، لبلورة استراتيجيتها الجديدة في المنطقة، في ما بدا أنه توكيل لموسكو للقيام بمهام استراتيجية غير بعيدة، في سورية تحديداً.
على الرغم من ذلك، لا تبدو واشنطن في حاجة لبلورة سياسة أكثر وضوحاً، تجاه رأس النظام، وهي التي عمدت، وعملت طوال أكثر من ثلاث سنوات، للحفاظ على سياسة أكثر غموضاً، وقد زادها التدخل العسكري الروسي إيغالاً في الغموض والاضطراب، على الرغم من التفاهمات البينية مع موسكو، والتفاهمات التي حصلت بين موسكو وحكومة نتنياهو في إسرائيل التي تبدو أكثر انحيازاً لمسألة بقاء رأس النظام أطول فترة ممكنة، لا خشية من قوى التطرف الإرهابي، بقدر ما تخطط وتسعى إلى إدامة وضع الصراع والتفجير العسكري، رهين وحبيس الأطر الإقليمية في المنطقة، وما يحمله من استنزاف طاقاتٍ وإمكانيات المليشيات المحسوبة على النظام الإيراني، ومنها استنزاف حزب الله تحديدا، وضعضعة قواه البشرية وخزّانه الأهلي.
وفي تأكيد على غياب استراتيجية أميركية واضحة، ذهب مرشحون جمهوريون للرئاسة الأميركية إلى اتهام الرئيس باراك أوباما بإظهار ضعف في السياسة الأميركية في سورية، مشككين في أن يؤدي إرسال عدد صغير من قوات العمليات الخاصة إلى فرق كبير، من دون وجود استراتيجية متماسكة أوسع.
هكذا في خلفية التردد الأميركي وعدم الحسم تجاه النظام، جاء التدخل العسكري الروسي، واندفاعة موسكو في اتجاه محاولة إيجاد حل سياسي؛ ولو في مستقبل يقرب أو يبعد، ليظهر فشل جبهة حلفاء النظام في حسم أي اتجاه ممكن؛ سياسياً أو عسكريا؛ على الرغم من إشراك طهران في المفاوضات الدولية التي انعقدت في فيينا، وعدم إشراك المعارضة السورية، ولا حتى النظام نفسه في البداية، ما يؤكد أن من يريد أن يفرض التسوية السياسية الممكنة، ولو بعد حين، هي هذه القوى الاقليمية والدولية مجتمعة، على الرغم من تبايناتٍ باتت أكثر وضوحاً في مواقفها غير المنسجمة أصلاً، بعيدا عن رأي النظام أو المعارضة، وكأن المسألة باتت تتجه نحو محاولة إيجاد حل أو تسوية إقليمية للمنطقة برمتها، لا في إطارها السوري فقط، ما يعني ركن كل شيء على الرف، في انتظار بلورة مستجدات أخرى، قابلة للانشغال بها، ولو بعد حين.
ما يعيق هذه المسألة هو طبيعة الخلاف الأميركي – الروسي المضمر حول سورية، ومصير النظام ورأسه، حيث بدا، ويبدو، أن فجوة هذا الخلاف قد جرى تضييقها أخيراً، في أعقاب التدخل الروسي، في محاولة تقرير مصير رأس النظام، والتنسيق والتفاهم الأميركي – الروسي من جهة، والروسي – الإسرائيلي من جهة ثانية على عدم الصدام في الجو، ولو لم يكن هناك انسجام سياسي على الأرض، حتى إنه يقال إن التصريحات الدبلوماسية الأميركية عن “ضرورة رحيل الأسد”، متفق عليها مع الروس، بعد أن بدت وتبدو المفاوضات القائمة في فيينا وغيرها من العواصم، على أنها مقاربة أو محاولة أميركية، لا روسية، لتطويع المواقف الإقليمية.
هكذا بدا أن دخول الإيرانيين طرفا في المفاوضات، هو التمثل المضمر لترويض موقفهم ودورهم وتوظيفهما، إلى جانب ما يفترض أنها الصفقة الروسيّة ـ الأميركية، التي تحاول إيجاد مسارب قابلة للحياة، والتي قد تشكل عاملاً محرّكاً في اتجاه تقديم مقترحاتٍ، تساهم في إيجاد إطار مناسب وممكن لتسوية شاملة في المنطقة، إلا أن أوان تسوية كهذه، في ظل التراجعات الأميركية والإيرانية وعدم الوضوح السياسي، لا يبدو أنه قابل للحياة، في هذه الفترة الأكثر إحراجا لإدارة أوباما وسياساتها، ليس في سورية فحسب، بل وفي كامل النطاق الإقليمي الذي يعج بمزيد من التناقضات والخلافات، والصراعات واحتدام الفتن المذهبية والفئوية والجهوية السيارة والمتنقلة، في غياب المرجعيات الحاسمة والاستراتيجيات القابلة للتنفيذ، في ظل تعدد الأقطاب الذي بات أمراً واقعاً بفعل غياب الاستراتيجيات الواضحة، وضعف كاريزما القطب الأوحد الذي مثلته الولايات المتحدة ردحاً طويلاً من الزمن، في أعقاب انتهاء حقبة الحرب الباردة، وها نحن بالفعل في مواجهة استراتيجيات وكيلة، يمثل “النأي بالنفس” أميركياً صواعق لتفجيرات أكثر اشتعالا، وأكثر احتمالاً لتسويات تبتعد في سورية، كما في عموم المنطقة، لتحل محلها تفجيرات قابلة لتداعيات أخطر، من قبيل التدخل العسكري التركي في العراق، والصراع المتمادي بين موسكو وأنقرة أخيراً.