هل تتجسس الصين على أوروبا اقتصاديا أم عسكريا؟

هل تتجسس الصين على أوروبا اقتصاديا أم عسكريا؟

هل تتجسس الصين بالفعل على أوروبا؟، تساؤل يبدو بديهياً وجوابه يكاد يكون أنه من الطبيعي جداً أن تمارس أي دولة أعمال التجسس على دولة أخرى، فما بالنا بدولة كبرى مرشحة لأن تكون قطباً عالمياً في مقبل الأيام.

ولعل الصين بنوع خاص، عرفت عبر مسيرتها التاريخية، عدداً كبيراً من المنظرين العسكريين، وفي مقدمتهم، صن تزو، صاحب الكتاب العمدة عن “فن الحرب”، والذي رسم فيه الطريق لبني جلدته لاستخدام الجاسوسية، كأحد فنون القتال، ورسم استراتيجيات توضح أهمية معرفة أفكار العدو وآلياته، بل استراتيجياته العسكرية، وصولاً إلى أهدافه.

والشاهد أن أحاديث التجسس الصيني، عادة ما كانت تدور حول عمليات أجهزة الاستخبارات الصينية في الداخل الأميركي، غير أن ما نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية قبل بضعة أيام عن قيام الصين بتجنيد مسؤول بلجيكي عال المقام، ليكون عيناً لهم في قلب بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، طرح علامة استفهام في جهة ثانية عن أهمية أوروبا بالنسبة إلى الصين، وما إذا كانت أهمية مستقلة قائمة بذاتها، أم أن الأمر يتمحور حول إحداث شرخ في العلاقات الأميركية- الأوروبية وبما يفيد الصينيين بنوع خاص.

ما الذي جرى؟، وكيف تمضي سياقات العلاقات الأوروبية– الصينية وبخاصة في ظل الرفض التقليدي من الصينيين للاعتراف بالاتهامات الموجهة لهم من الأوروبيين؟

البلجيكيون يراقبون “مغارة علي بابا”

أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، راجت الأخبار أوروبياً وعالمياً حول قيام أجهزة الاستخبارات البلجيكية بمراقبة المركز اللوجيستي لمجموعة “علي بابا” الصينية القابضة في أوروبا، بسبب مخاوف من تجسس محتمل، وهي الأخبار التي اهتمت بها على نحو خاص “فايننشال تايمز”.

بدت أجهزة الأمن البلجيكية في ترصد الأهداف الصينية التي تدور من حول مخازن وموانئ شحن تستخدمها شركة “علي بابا” بنوع خاص، بحثاً عن “أنشطة تجسس أو تدخل صينية محتملة، سواء كانت ضمن تلك المجموعة أو خارجها”.

اعتبر جهاز الأمن البلجيكي أن وجود “علي بابا” يشكل نقطة اهتمام بالنسبة إلى البلجيكيين، بسبب تشريع أقرته بكين يجبر شركاتها على مشاركة بياناتها مع السلطات وأجهزة الاستخبارات الصينية.

هنا بدا تخوف بروكسل وأجهزتها الاستخباراتية من فكرة “كعب أخيل”، والتي تتمثل في الاستثمارات الصينية على الأراضي البلجيكية، والنظر إليها كمدخل لأوروبا برمتها، والاقتراب من مركز العقل الأوروبي، لا سيما بعد أن وقعت شركة “علي بابا” اتفاقاً مع بلجيكا عام 2018 لفتح مركز في مدينة “لييغ”، والتي يوجد على أراضيها خامس أكبر مطار للشحن في أوروبا، وباستثمارات 100 مليون يورو.

تجاوز المشهد في داخل بلجيكا أجهزة الاستخبارات، ليصل إلى وزير العدل، الذي اعتبر في تصريحات له معنى أن “المفاوضات المبكرة مع علي بابا كانت من قرن سبق وأن زمن السذاجة تغير”.

إذاً فما الذي تخشاه بلجيكا من الصينيين؟ وهل يقع ضمن دائرة التجسس الاقتصادي أم العسكري؟، الإجابة يحملها وزير العدل البلجيكي فنسنت فان كويكنبورن الذي سبق وعبر عن عمق مخاوفه بقوله “من المتوقع أن تنقل المراكز اللوجيستية المعلومات والبيانات في شأن التجارة الأوروبية والخدمات اللوجيستية إلى سلطات بكين، إضافة لمعرفة التغيرات المهمة في أنماط الاستهلاك”.

وزير العدل البلجيكي أوضح أيضاً كيف أن “معرفة السلسلة اللوجيستية أمر ذو قيمة بالنسبة إلى الصين كدولة تحاول الهيمنة على سلاسل التوريد”.

يطرح ذلك سؤالاً مهماً، هل ما يدور تجسساً اقتصادياً؟… بطبيعة الحال هو كذلك، لكنه لا يعني أنه ليس سياسياً وربما عسكرياً في الوقت ذاته، الأمر الذي يمكن أن تكشف عنه المفاجآت التالية.

سيناتور بلجيكي جاسوس

هل استطاعت بكين بالفعل تجنيد مسؤول بلجيكي عالي المستوى للعمل لحسابها وضمن صفوف استخباراتها ليكون عيناً لها في قلب الاتحاد الأوروبي؟

مرة أخرى نعود لـ”الفايننشال تايمز”، والتي نشرت قبل أيام تقريراً قالت فيه إن جواسيس صينيين مولوا سياسياً بلجيكياً يمينياً متطرفاً كأحد الأصول الاستخباراتية لديهم لأكثر من ثلاث سنوات في قضية تظهر كيف أجرت بكين عمليات في أوروبا كمحاولة لتشكيل السياسة الغربية.

تقرير “فايننشال تايمز”، حال ثبوت صدقيته بشكل مطلق، يعتبر وعن حق خطراً للغاية، ذلك لأنه يكشف أبعاد التفكير الصيني تجاه أوروبا وأميركا أول الأمر، والعالم تالياً، ويوضح نفس عقلية السعي إلى الهيمنة والسيطرة على مقدرات الكون، وبما لا يختلف كثيراً عما تقوم به أي قوة إمبراطورية تسعى إلى السيادة.

التقرير يقدم لنا شخص ضابط الاستخبارات الصيني، دانييل وو، التابع لوزارة أمن الدولة الصينية، والذي ينجح في تجنيد، فرانك كريلمان، السيناتور البلجيكي السابق، للتأثير في المناقشات التي تجرى في حواضن الاتحاد الأوروبي في شأن الصين.

اقرأ المزيد

تايوان ترصد نشاطا للجيش الصيني قبل أسابيع من الانتخابات

تأثير التكنولوجيا في التجسس… ثاني أقدم مهنة بالعالم

كوريا الشمالية تبدأ عمليات التجسس عبر قمرها الاصطناعي الجديد

هكذا سقطت منظمة تجسس صهيونية في غزة عام 1917
وتتناول مروحة من الموضوعات تبدأ من قضية الديمقراطية في الداخل الصيني، مروراً بالنقاط الخلافية الأخرى مثل تهديد بكين لتايوان، ثم اضطهاد أقلية الإيغور في شينجيانغ.

ويبدو أن الصينيين لديهم كذلك ما هو أبعد من ذلك، ويتمثل في العمل على إضعاف حلف الناتو أول الأمر، ثم العمل على تفكيكه تالياً.

هنا يبدو للناظر أن بكين تحاول جاهدة وضع العصا في دواليب العلاقات الأوروبية – الأميركية، والمثال على ذلك أنه بينما كان المستشار الألماني أولاف شولتز على وشك زيارة الصين في أواخر عام 2022، طلب وو من كريلمان إقناع اثنين من الأعضاء اليمينيين في البرلمان الأوروبي بالقول علناً إن الولايات المتحدة وبريطانيا تقوضان أمن الطاقة الأوروبي.

حصلت الصحيفة البريطانية الشهيرة على نسخة من رسالة نصية أرسلها ضابط الاستخبارات الصيني وو إلى السيناتور البلجيكي السابق كريلمان وفيها “أن هدفنا هو بث الفرقة في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا”.

فهل كان البلجيكيون فقط من يتتبع مسار “وو- كريلمان”؟، بالقطع لا، ذلك أن اكتشاف الأمر، والحصول على نصوص الرسائل، تم توثيقه وبدا بمثابة مشهد تعاون بين أجهزة استخبارات ألمانيا وفرنسا وبلجيكا معاً، بعد أن أدرك الجميع الهدف الصيني الأعلى من الحصول على معلومات اقتصادية على أهميتها.

يتمحور الهدف في استهداف النقاشات السياسية التي تدور في الداخل الأوروبي، بالضبط كما يحدث مع كندا وبريطانيا وأستراليا، وهو الأمر الذي حذرت منه واشنطن مراراً وتكراراً، لا سيما تحذيرها من أن الصينيين عاقدو العزم على التدخل في مسارات الانتخابات الرئاسية المقبلة، مستلهمين ولا شك روح التجربة الروسية في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016، بين هيلاري كلينتون ودونالد ترمب.

عمليات استخباراتية أم استراتيجيات قطبية

بعد ساعات قليلة من ظهور التقرير، وانتشار ما به عبر وسائل الإعلام الغربية، وتداوله من خلال وسائط التواصل الاجتماعي العالمية، كان من الطبيعي أن تندد الصين بهذه الأنباء وترفضها، معتبرة إياها جزءاً من الرفض الأوروبي المتنامي للصين ورؤاها الدولية حول العالم.

حرب المعلومات قد تطلق صراعات وتسهم في نشوء جيل جديد من الحروب (أن سبلاش).jpg
حرب المعلومات قد تطلق صراعات وتسهم في نشوء جيل جديد من الحروب (أن سبلاش)

غير أن هذا التنديد، كان سبقه رفض آخر سابق جرت به المقادير في أوائل سبتمبر (أيلول) الماضي، وذلك بعدما أوقفت لندن شخصين بشبهة “تزويد الصين بمعلومات استخباراتية”. وقتها صرح الناطق باسم السفارة الصينية في لندن “بأن الأمر برمته هو محض افتراءات”.

أضاف “أن الزعم بالاشتباه بأن الصين تسرق المعلومات الاستخباراتية البريطانية، هو أمر مختلق بالكامل وافتراء خبيث”، موضحاً أن بكين “تعارض ذلك بشدة وتحض السلطات المعنية في المملكة المتحدة على وقف تلاعبها السياسي المناهض للصين وإنهاء هذه المهزلة السياسية”.

هل من أحد بين الأوروبيين يصدق تبريرات ودفوع الصينيين؟

عند المستشار في مؤسسة ماكغراث نيكول مؤلف كتاب “جواسيس وأكاذيب”، أليكس غوسكي، أن “وزارة الأمن القومي الصينية أمضت عقوداً من الزمن في محاولة تشكيل السياسة والخطاب العالمي في شأن البلاد، وجندت الأكاديميين وصانعي السياسات وقادة الأعمال، بل وحتى السياسيين كما تظهر الحقيقة”.

من هذا المنطلق يمكن القطع بأن ما تقوم به الصين يتجاوز بالفعل مسألة العملياتية الجاسوسية، إلى الاستراتيجيات القطبية، ومن بين أدلة كثيرة على ذلك أنه في إحدى المحادثات المرصودة بين وو وكريلمان، أن الأول كلف الثاني بـ”مهاجمة أدريان زينر”، الباحث الذي ساعد في الكشف عن كيفية احتجاز الصين لمئات الآلاف من أقلية الإيغور ذات الغالبية المسلمة في منطقة شينجيانغ في أقصى غرب البلاد.

وفي موقع آخر نجد طلباً من وو يسأل فيه كريلمان أن يعمل على تعطيل مؤتمر حول تايوان، ولعل المدهش هو تفكير الاستخبارات الصينية في اختراق رجالات الدين المسيحيين ذوي التأثير، إذ ناقش الاثنان دفع أموال لوسيط للتأثير في كاردينال كاثوليكي للتحذير من تسييس كورونا، في أوج ما كانت تتعرض لهجمات قاسية من العالم الذي أتهمها بأنها هي من صدرت هذا الفيروس للعالم، لا سيما أنه خرج من ووهان.

هل أوقعت الاستخبارات الصينية بالفعل العديد من المسؤولين الأوروبيين في ما يعرف بـ”مصايد العسل” الصينية؟، الثابت أن هناك تحذيرات عدة من أجهزة استخبارات أوروبية وأميركية، من استخدام الاستخبارات الصينية جاسوسات مدربات يدرسن في أفضل الجامعات، ويتحدثن الإنجليزية ولغات أخرى بطلاقة، بل ويستخدمن بشكل روتيني منصات التواصل الاجتماعي، مثل “لينكد إن” و”فيسبوك” للتواصل مع فرائسهن.

مخططات الاستخبارات الصينية، لا تتوقف عند الحاضر بل تتطلع دوماً للمستقبل، ولهذا تشير تقارير متنوعة لقيام عميلات صينيات بالتواصل ليس فقط مع الشخصيات الكبيرة الظاهرة على سطح الأحداث، بل تركيز الاهتمام كذلك على الأشخاص الذين يبدأ نجمهم في اللمعان، ويتوقع أن يكون لهم مستقبل كبير في بلادهم ودوائر المسؤولية… فماذا يعني ذلك؟

الصين واستهداف الانتلجنسيا الأوروبية

يكاد يؤمن المحلل المحقق والمدقق للجاسوسية الصينية فوق الأراضي الأوروبية، بأن هناك توجهاً ذهنياً ما يسيطر على قيادات أجهزة الأمن الصينية الخارجية، ويتمثل في القول إن “الأراضي الأوروبية ميدان أوسع وأيسر في التحرك الاستخباري من الولايات المتحدة، إذ أعين البصاصين والعسس الأميركيين، بشراً وإلكترونياً يضعون كل ما هو، ومن هو صيني، تحت المجهر صباح مساء كل يوم”.

أحد عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية السابقين، من الذين خدموا في أوروبا وعلى دراية وخبرة بما يجري فيها، اعتبر أن وزارة أمن الدولة الصينية، تميل إلى التركيز على تجديد أو اختيار السياسيين ذوي الرتب الدنيا في القارة الأوروبية “الذين يتعاطفون مع بكين أيديولوجياً، أو الذين يستفيدون من السخاء الصيني المالي”.

لكن لماذا بروكسل بالتحديد هي التي تهتم بها الصين بنوع خاص؟… باختصار غير مخل، لأنها مدينة غنية بالأهداف السياسية الغربية، فهناك المفوضية الأوروبية، وحلف شمال الأطلسي، ولهذا فإن قسم وزارة أمن الدولة الصينية في مقاطعة تشنغيانغ يضم ما يقدر بخمسة آلاف ضابط استخبارات صيني يجتمعون عادة في مدينة سانبا بأقصى جنوب الصين، ما يعني أن بكين مهتمة بالفعل بالحصول على أكبر قدر معلوماتي يتوافر لها في عموم أوروبا وفي بلجيكا بنوع خاص.

من هنا تبدو بلجيكا، مركزاً رئيساً للعمليات الاستخباراتية من قبل مجموعة متنوعة من الدول المعادية، ومنها روسيا لا سيما بعد مواجهات أوكرانيا.

ولهذا السبب عمد الاتحاد الأوروبي ومنذ ثلاث سنوات إلى تكثيف إجراءات مواجهة التجسس الصينية لا سيما الإلكترونية ذات المستويات المثيرة للقلق المرتبطة ببكين والتي تستهدف الصناعة الأوروبية.

يبدو من المدهش حقاً أن نجد التقديرات الأوروبية تقطع بأن التجسس الإلكتروني عليها يحملها أعباء وخسائر مالية تصل إلى 60 مليار يورو.

ولهذا السبب أصدر أكبر اتحاد تجاري في أوروبا بياناً يطالب فيه الاتحاد الأوروبي بوضع استراتيجية لردع الجهات الفاعلة المعادية مثل الصين.

لكن هل تعلن الصين عن نوع من الحرب الاقتصادية على القارة الأوروبية؟، من المؤكد أن المدخل الصيني إلى أوروبا هو اقتصادي، لكن الهدف الأبعد هو إحكام السيطرة لاحقاً على القرار السياسي، وبينهما تبقى هناك أحاديث العسكرة.

هنا ليس سراً إدراك الصينيين أن اعتماد أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عسكرياً على الشراكة مع الولايات المتحدة، وعليه فإنه حين يقدر لبكين أن تفصم العلاقة بين بروكسل وواشنطن اقتصادياً ثم سياسياً، سيكون من اليسير ملاقاة الأوروبيين عسكرياً، وبخاصة في ضوء التوسع السريع الحادث في الترسانة العسكرية الصينية التقليدية من جهة، والعمل الجاري على قدم وساق، لبناء ترسانة نووية تصل إلى 1000 رأس صيني نووي بحدود عام 2030.

عن إيطاليا… ونموذج يزعج بكين

يعن لنا التساؤل ونحن في قلب هذا التحليل، “ما الذي يخيف الصينيين من أوروبا، وما الذي أزعجهم أخيراً بشكل كبير؟، المؤكد أنه وقبل أواخر عام 2019 كانت العلاقات الصينية – الأوروبية بلغت شأناً رفيعاً جداً، ووصل الأمر حد المخاوف من الاختراق الكبير عبر وسائل الردع النقدي لا النووي من جانب الاستثمارات والمستثمرين الصينيين، ولهذا ارتفعت الأصوات التي تنذر وتحذر من الإغراق الأوروبي في الشراكات مع الصين.

وقبل ثلاث سنوات كانت إيطاليا ماضية قدماً في علاقات وثيقة اقتصادياً مع الصين، إلى الحد الذي جعلها تتنكر لشراكات أوروبية تاريخية مع فرنسا أو بريطانيا، وهو ما أثار حنق الأوروبيين في ذلك الوقت.

على أن المشهد الأوروبي – الصيني، يكاد يكون تغير بشكل كبير إن لم يكن كلي بعد انفلات فيروس كورونا المستجد، والذي كشف عن فادحة للنظم الشمولية، وهشاشة مؤسساتها، ما سمح بالتعمية أو التغطية على الكيفية التي تسرب بها الفيروس القاتل من قلب معامل ووهان، ما كلف الأوروبيين الآلاف من الضحايا، والملايين من المصابين، ناهيك بمليارات اليوروهات خسائر.

ما جرى من إيطاليا تحديداً خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ربما يدفع الصينيين بالفعل لتركيز جهودهم الاستخباراتية على دول أوروبا التي تنفرط واحدة تلو الأخرى عن الشراكة معها.

في أوائل سبتمبر الجاري، اعتبر وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاغاني، أن مبادرة “الحزام والطريق الصينية”، التي تسمى أيضاً مبادرة “طريق الحرير الجديد”، لم تحقق الفوائد المتوقعة لثالث اقتصاد في منطقة اليورو، وذلك عشية زيارته لبكين.

كانت إيطاليا في عام 2019 وتحت ظل الديون التي تعانيها، الدولة الوحيدة من مجموعة السبع التي أعلنت انضمامها إلى هذا البرنامج من الاستثمارات الضخمة لبكين، والذي يرسخ لنفوذ الصين حول القارة الأوروبية.

غير أنه وخلال ثلاث سنوات اكتشف الإيطاليون أن الشراكة مع الصين لم تحقق العائد المرجو منها، فقد بلغت صادرات إيطاليا إلى الصين عام 2022، مبلغ 16.2 مليار يورو، في حين بلغت صادراتها إلى فرنسا 23 مليار يورو، وإلى ألمانيا 107 مليارات يورو.

قبل أن تظهر رئيسة الوزارة الإيطالية الحالية، جورجيا ميلوني ، على الساحة، كان سلفها ماريو دراغي، قد جمد الاتفاق واستخدم حق الحكومة في التعطيل في القطاعات التي تعد استراتيجية لمنع أي استثمار عالي المستوى من قبل الشركات الصينية في إيطاليا.

ومع الأسبوع الأول من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، كانت إيطاليا تعلن انسحابها رسمياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومن دون تقديم المزيد من التفاصيل، وإن اكتفى مصدر في الحكومة الإيطالية بالقول إن ذلك تم بطريقة سلسة “لإبقاء قنوات الحوار السياسي مفتوحة مع بكين”.

لم يكن القرار مفاجئاً لمن لديهم علم بتوجهات رئيسة الوزراء ميلوني، فقد سبق أن أعلنت أن قرار الحكومة السابقة بالانضمام في 2019 كان “خطأ فادحاً”.

كيف استقبلت الصين هذا الخبر، وهل كانت عيونها الاستخباراتية في إيطاليا على بينة بالفعل من القرار الآتي لا محالة؟، من الواضح أنها اعترتها حالة من الغضب الشديد، الأمر الذي ظهر في تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ون بين، في مؤتمر صحافي جاء فيه إن “الصين تعارض بحزم تشويه وتقويض التعاون في البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق، كما تعارض التكتلات وخلق خلافات بشكل مصطنع”.

فهل من تفكيك لهذه العبارة؟، بالقطع يومئ المتحدث الصيني إلى تحالفات السبع الكبار، وتشابك الخيوط مع الناتو، ما دفع إيطاليا إلى خارج هذا التجمع الذي تشارك فيه 150 دولة، ما يجعله أحد أكبر منصات التعاون الدولي في العصر الحديث.

ما تخشاه الصين هنا، هو رفض دول جديدة داخل أوروبا، أو خارجها للشراكة في مبادرة الحزام والطريق، وسيكون لمن ينسحب المبرر الكافي بالنظر إلى إيطاليا ذات الاقتصاد الكبير والقوي وإحدى دول السبع، وسوف يتساءل المنسحبون “ماذا سيكون من حالنا نحن الأضعف اقتصادياً من إيطاليا”، وساعتها سيكون قرار الخروج أمراً متوقعاً.

سويسرا والجاسوسية الصينية… لماذا؟

هل تستشعر الصين مخاوف ما بعينها من قلب أوروبا، يمكنها أن تؤثر في مشروعها الهادف إلى إعادة تشكيل العالم، حتى لو لم يصدر عنها شعارات زاعقة، ولم ترفع رايات فاقعة؟

غالب الظن أن الأمر بالفعل يمضي على هذا النحو، ومن هنا يتفهم المرء لماذا نحت وتنحو بكين لجهة خلق مراكز استخباراتية لها في القلب من أوروبا؟

يعني ما تقدم أن هناك بالفعل مواقع ومواضع أوروبية أخرى غير بلجيكا، كانت منذ وقت طويل تمثل مراكز متقدمة للاستخبارات الصينية، ما يؤكد إيمان الصينيين بتعاليم حكيمهم الأهم “كونفوشيوس” عن العمل المتأني والنفس الطويل.

ويؤكد تغلغل رؤى صن تزو في النفسية الصينية، لا سيما حين تكلم عن فكرة زرع العملاء لعقود طوال كنائمين، وتشغيلهم عند الحاجة بعد عقود.

في الستينيات عنونت الصحافة العالمية، “برن مركز تجسس الصين الشيوعية في أوروبا” أو “دبلوماسيون صينيون يتدربون في سويسرا”، لكن هذه المعلومات نفتها السلطات السويسرية منذ فترة طويلة. في عام 1965 قال النائب العام الفيدرالي أن الأمر مجرد أسطورة وليس أكثر، وربما كان المشهد مستوحى من أفلام جيمس بوند في شأن التجسس.

غير أنه وفي مارس (آذار) الماضي، كشفت تقارير تعود إلى الأرشيف الفيدرالي لسويسرا عن حقيقة أخرى تفيد بقيام عملاء صينيون سريون خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي بإنشاء عشرات شبكات التجسس الدولية انطلاقاً من سويسرا، ما يعني أنها تحولت بالفعل إلى بؤرة لأعمال التجسس الصيني في قلب أوروبا.

تبدو أوروبا في مواجهة شراكة روسية – صينية استخباراتية، وبخاصة في ظل غزو أوكرانيا، وهو ما لفتت إليه الاستخبارات السويسرية في تقرير لها صدر في يونيو (حزيران) الماضي.

لكن هل من خلاصة؟

نعم، الصين تعتبر التجسس على الأوروبيين، الخطوة المؤكدة للولوج إلى قلب الأميركيين، ومنعاً لانفلات تحالفها الكبير المقبل تحت عنوان مبادرة الحزام والطريق.