تصاعد التوترات الداخلية بين قادة “حماس”

تصاعد التوترات الداخلية بين قادة “حماس”

بعد أن أُخفيت الجوانب الرئيسية المتعلقة بهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر عن قادة “حماس” المتواجدين في الخارج، يتنافس هؤلاء حالياً على السلطة في ترتيبات ما بعد الحرب، والتي قد لا يكون لديهم ما يكفي من النفوذ للتأثير عليها.

مع تقدم الحرب بين “حماس” وإسرائيل، ظهرت توترات جديدة وقديمة بين قادة الحركة في غزة وأولئك المقيمين في الخارج. ففي داخل القطاع، لا يزال يحيى السنوار هو زعيم “حماس” بلا منازع ويحتفظ بولاء مجموعة ضيقة من القادة العسكريين المحيطين به. ويركز بشدة على مواصلة القتال، معتقداً أن “حماس” إذا تمكنت من تحمّل الضربة العقابية التي توجهها إسرائيل دون أن يتم تدميرها بالكامل، فإنها قد تتمكن في النهاية من إعلان “النصر الإلهي”، مثلما ادّعى “حزب الله” في عام 2006. غير أن قادة “حماس” في قطر ولبنان وتركيا بدأوا يتطلعون بالفعل إلى اليوم التالي للحرب ويحاولون الاستحواذ على حيز خاص لجماعتهم في أي هيكل سياسي سيحكم غزة. وبما أن التوترات الناتجة تعكس الخلافات التي تورطت فيها الحركة لسنوات، فإن مقارنة الانشقاقات الماضية والحالية أمر مفيد.

المنافسة على السيطرة قبل الحرب

منذ انقلاب “حماس” ضد “السلطة الفلسطينية” برئاسة حركة “فتح” في غزة عام 2007، لم ينفك قادة الحركة داخل الأراضي الفلسطينية يكتسبون السيطرة والنفوذ بشكل ثابت على حساب قياداتها المتواجدة في الخارج. وبقي القادة الخارجيون، الذين كان مقرهم في دمشق آنذاك مهيمنين لفترة من الوقت، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنهم ما زالوا يسيطرون على أموال الحركة ويشرفون على العلاقات مع “حزب الله” وإيران والجهات الفاعلة الأخرى. ومع ذلك، كان قادة “حماس” على الأرض هم الذين يصدرون القرارات اليومية المتعلقة بإدارة القطاع، وفي نهاية المطاف طوّروا أنظمة الضرائب والابتزاز التي قللت من اعتمادهم على التمويل من الخارج.

وفي آب/أغسطس 2008، فاز كادر من أعضاء “حماس” الشباب، الذين تربطهم صلات مع القادة في “كتائب عز الدين القسام”، بمقاعد في المكتب السياسي في غزة. وبحلول عام 2009، أصبحت الانقسامات في القيادة والتصريحات المتناقضة واضحة حول قضايا مختلفة، من بينها ما إذا كان ينبغي لـ “حماس” أن تستمر في وقف إطلاق النار الذي أنهى صراعها الأخير مع إسرائيل. وفي العام نفسه، أسفرت عملية انتخابية استمرت شهوراً لانتخاب الهيئة القيادية العليا لأسرى “حماس” داخل السجون الإسرائيلية عن تعيين السنوار رئيساً.

وفي عام 2010، حاول القائد العام لـ”حماس”، خالد مشعل، تقريب الحركة من الأنظمة العربية السنّية في الشرق الأوسط وجعلها أقل اعتماداً على إيران. ومع ذلك، عارض السنوار وإسماعيل هنية، زعيم الحركة في غزة، هذا التحوّل ومنعاه من الحدوث، وبادرا إلى ما سيصبح شراكة مصلحة بين الرجلين. وفي عام 2011، أطلقت إسرائيل سراح السنوار بموجب صفقة لتبادل الأسرى تم خلالها إطلاق سراح الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، مما مهد الطريق دون قصد لوصوله إلى السلطة.

وفي شباط/فبراير 2017، اختير السنوار رئيساً للمكتب السياسي لـ”حماس” في غزة في انتخابات سرية. وفي البداية، ساعد هنية ونائبه صالح العاروري السنوار على نقل مركز ثقل الحركة إلى غزة. ولكن على مدى السنوات القليلة التالية، أدى أسلوب حكم السنوار وشخصيته القاسية إلى مغادرة هنية وغيره من كبار المسؤولين إلى قطر وتركيا، مما تسبب بشرخ واضح بين القيادات الداخلية والخارجية للحركة. ورغم أن هنية ظل رئيساً للمكتب السياسي، إلا أن سيطرة السنوار على أرض الواقع منحته قيادة فعلية لما فعلته الحركة في غزة.

توترات في صفوف القيادة حول هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر

على مدى سنوات قبل اندلاع الحرب الحالية، خدع السنوار فعلياً القادة الإسرائيليين ودفعهم إلى معاملته كشخص عملي يمنح الأولوية لمشروع “حماس” السياسي في غزة. لكن خلفية السنوار كانت تحمل دلالات مهمة، إذ بدأ مسيرته كأحد منفذي قرارات “حماس”، الذين قاموا بالتحقيق مع الفلسطينيين المشتبه في تعاونهم مع إسرائيل وقتلهم. وكما أوضح هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، انطوت أولويته الحقيقية على قيادة هجوم ضد إسرائيل كان يأمل في أن يحفز المسلمين في جميع أنحاء المنطقة للانضمام إلى القتال.

ويبدو أن هذه الحسابات والتفاصيل المحددة للهجوم شكلت مفاجأة تامة لهنية وبقية القيادات الخارجية. فقد كانوا على علم بخطط السنوار لتنفيذ هجوم واسع النطاق ضد إسرائيل في مرحلة ما ووافقوا عليها، كما شاركوا في الكثير من المداولات حول هذا الهجوم مع مسؤولين من “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني و”حزب الله”. ولكن لم يتم إبلاغهم بحجم الخطة، أو توقيتها الذي يبدو أنه تغيّر مرتين على الأقل. (ملاحظة: هذه التفاصيل والنقاط التالية مبنية على محادثات خاصة مكثفة أجراها المؤلفان مع مصادر عديدة في المنطقة.)

وفي الواقع، لم يكن هناك سوى مجموعة أساسية من القادة مسؤولة عن التخطيط المفصل للعملية، شملت السنوار وشقيقه محمد والقائد العسكري الفعلي لـ”حماس” مروان عيسى. وعلى الرغم من أن وحدات “حماس” أجْرت تدريبات هجومية لعدة أشهر حظيت بتغطية إعلامية واسعة، إلّا أنه لم يتم تزويد قادة كتائبها الإقليمية الخمس وفصائلها الأربعة والعشرين بالخطة المحددة، أي اختراق السياج الحدودي، واقتحام المواقع العسكرية الإسرائيلية، وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، وأسر الرهائن، وتدمير بلدات إسرائيلية، إلّا قبل ساعات قليلة من العملية. وصدرت أيضاً تعليمات لبعض القادة بإرسال مقاتلين إلى الضفة الغربية والتواصل مع أتباع “حماس” في الخليل، مع أن ذلك لم يحدث بتاتاً. وطُلب من آخرين الحفاظ على وجودهم داخل إسرائيل لأسابيع إن أمكن. ولم تكن هذه التفاصيل معروفة للقيادة الخارجية، التي تحاول الآن تفادي الهزيمة الكاملة في غزة والحفاظ على دور لـ”حماس” في أي هيكل سياسي ينشأ بعد الحرب.

وفي أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر مباشرة، أثار نطاق الهجوم ووحشيته انتقادات من القادة الخارجيين ودفع الكثيرين إلى محاولة السيطرة على الأضرار. فأنكروا في العلن أن يكون رجال السنوار قد قاموا بذبح النساء والأطفال، وألقوا باللوم على الجيش الإسرائيلي في مقتل المدنيين. غير أنهم أعربوا في وقت لاحق عن تحفظاتهم بشأن أخذ النساء والأطفال كرهائن. وفي محادثات خاصة مع محاورين عرب وفلسطينيين، أدان بعض قادة “حماس” بشدة “جنون العظمة” لدى السنوار.

وعلى وجه الخصوص، يلومونه على سوء فهم الرسائل الصادرة ما قبل الحرب من إيران و”حزب الله”، والتعامل مع تعهدات الدعم الغامضة على أنها التزام حازم بفتح جبهات إضافية ضد إسرائيل وإنقاذ “حماس” من الدمار. ودفعت هذه الضمانات الخاطئة بالسنوار إلى شن هجوم واسع النطاق، وهو على خير يقين بأنه لن يكون أمام إسرائيل خيار سوى الرد بالمثل. وقد أبلغ قادة “حماس” في الخارج الدبلوماسيين الأجانب أنه كان ينبغي على السنوار أن يكتفي بعملية إرهابية محدودة جداً لاحتجاز الرهائن وتمهيد الطريق لتبادل الأسرى. وذهب وزير الاتصالات السابق يوسف المنسي، وهو شخصية أخرى من “حماس”، إلى أبعد من ذلك، حيث أخبر المحققين الإسرائيليين أن السنوار قد أعاد غزة “200 عام إلى الوراء” ودعا فعلياً إلى الإطاحة به.

“حماس” تناقش خطواتها التالية

في وقت سابق من هذا الشهر، بدأ هنية والعاروري ونائب آخر، هو خليل الحية، بالاجتماع مع ممثلين عن “منظمة التحرير الفلسطينية” وفصائل المعارضة في حركة “فتح” (واللافت للنظر أن العاروري هو خصم قديم للسنوار منذ أيامهما في السجن، وإن كان قد عمل معه في بعض الأحيان بعد إطلاق سراحهما). وكان من بين المشاركين شخصيات مثل وزير الخارجية السابق “للسلطة الفلسطينية” ناصر القدوة، وسمير مشهراوي نائب محمد دحلان في “التيار الديمقراطي الإصلاحي” المدعوم من الإمارات العربية المتحدة. وتمحورت نقاشاتهم حول احتمال دمج “حماس” في “منظمة التحرير الفلسطينية” بعد انتهاء الحرب، من بين أفكار أخرى حول ترتيبات “الصباح التالي” في غزة. وعندما وصلت تقارير عن هذه المحادثات إلى السنوار، قال لهنية إنه يعتبر هذا السلوك “مشيناً”، وطالب بوقف جميع الاتصالات مع “منظمة التحرير الفلسطينية” وفصائل “فتح” المنشقة، وأصر على عدم إجراء أي مشاورات أو إعطاء تصريحات حول “صباح اليوم التالي” إلى حين التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.

ومع ذلك، تجاهلت القيادة الخارجية توجيهات السنوار. ففي خطاب متلفز ألقاه هنية في 13 كانون الأول/ديسمبر بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لتأسيس “حماس”، أشار إلى استعداده للمشاركة في نقاشات حول توحيد القيادة الفلسطينية. وعلى نحو مماثل، عندما أجرى المسؤول الرفيع المستوى موسى أبو مرزوق مقابلة لمدة ساعة مع “المونيتور” في 11 كانون الأول/ديسمبر، ناقش تصوّر “حماس” لليوم التالي بعد الحرب، وتطرق إلى إمكانية انضمام الحركة إلى “منظمة التحرير الفلسطينية”، حتى أنه ألمح إلى إمكانية الاعتراف بإسرائيل: “عليكم اتباع الموقف الرسمي. الموقف الرسمي هو أن [“منظمة التحرير الفلسطينية”] اعترفت بدولة إسرائيل”. (وسرعان ما تراجع عن التصريح حالما اكتسب زخماً على وسائل التواصل الاجتماعي).

ورداً على هذا التواصل، أمر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عضوَي «اللجنة التنفيذية» لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” جبريل الرجوب وعزام الأحمد، اللذين حافظا على تواصلهما مع “حماس” لسنوات، بالبدء في مفاوضات مع هنية وزملائه. وركزت هذه المحادثات على صياغة الخطوط العريضة للمصالحة بين الحركتين على أساس اعتماد سياسة مشتركة وتشكيل هيكل قيادي جامع. وتتمثل العقبات الرئيسية في رفض “حماس” الالتزام بـ”اتفاقيات أوسلو” أو التخلي عن أسلحتها، كما تصر الحركة على إجراء انتخابات عامة “في غضون عام”.

ولكن طالما أن السنوار على قيد الحياة، فلن ينجح أي اتفاق يتم التفاوض حوله في الخارج ما لم يوقّع عليه شخصياً. ومن وجهة نظره، تعكس المحادثات الحالية مَيْل القيادة الخارجية إلى تقويض هدفه بالحفاظ على سيطرة “حماس” على غزة والتشكيك فيه (وهذا يعكس خلافات تعود إلى عام 2004 عندما وزّع مسؤول في “حماس” مذكرة داخلية تقترح أن تتخلى الحركة عن “أجهزتها السرية تحت الأرض”، إلا أن كادر القيادة في غزة أسكته وأنّبه على اقتراح التخلي عن تلك الأجهزة). والجدير بالذكر أن مبعوث السنوار الموثوق إلى القيادة الخارجية، غازي حمد، التزم الصمت في الأسابيع القليلة الماضية، على الرغم من إرساله إلى بيروت قبل شهرين من 7 تشرين الأول/أكتوبر، وعقده مؤتمرات صحفية يومية في الأيام الأولى للحرب. وبالمثل، يتجاهل كبار القادة في “كتائب القسام” بشكل متزايد النصائح المقدمة لهم، في حين أصبحت الاتصالات أقل تواتراً بشكل كبير بين مخبأ السنوار السري تحت الأرض (من المفترض أنه متواجد في نفق أسفل خان يونس) وأعضاء المكتب السياسي الخارجي المقيمين في الدوحة وبيروت واسطنبول.

ويشار إلى أن السنوار تواصل مع هنية في 21 كانون الأول/ديسمبر، ولكن فقط لتحذيره بصراحة من أنه يجب عليه وقف جهوده للتوسط في صفقة رهائن جديدة في القاهرة، لأنه لم يتم تلبية الشرط المسبق الذي أعلنه السنوار بوقف إطلاق النار الكامل من جانب إسرائيل. وترافقت رسالته مع وابل من خمسة وثلاثين صاروخاً أُطلقت باتجاه تل أبيب، وتهديدات مبطنة ضد الرهائن الإسرائيليين المتبقين المحتجزين في غزة، وفقاً لـ “القناة 12” التلفزيونية الإسرائيلية.

الخاتمة

في نهاية المطاف، ستُحدد الطريقة التي تتقدم بها الحرب ما إذا كان السنوار وغيره من شخصيات “حماس” في المعسكر الأكثر تشدداً قادرين على إملاء المسار المستقبلي للحركة. ولكن يجب تجنب نتيجة واحدة بأي ثمن، وهي نشوء وضع مشابه لنموذج “حزب الله” يتولى فيه أعضاء “حماس” أدواراً تنفيذية وتشريعية في الحكومة الفلسطينية، حتى مع بقاء الحركة كياناً مستقلاً يحتفظ بأسلحته ومصادر تمويله. وقد حظيت الأشكال المختلفة من هذا السيناريو بدعم من كافة الأطياف داخل قيادة “حماس”، بدءً من السنوار وغيره من قادة غزة وإلى شخصيات خارجية مثل هنية والعاروري. ومثل هذا النظام، الذي تستفيد فيه “حماس” من مشاركتها في الحكم وعدم خضوعها للمساءلة أمام أحد وبقائها ملتزمة بتدمير إسرائيل، سيكون كارثياً للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.