نتساءل اليوم ونحن نرى ذلك الكم من الدمار الذي لحق بغزة، وذلك التقتيل الهمجي الذي يتخطى أحياناً 500 قتيل في اليوم الواحد دون أن يرف جفن الأمم المتحدة أو الدول «الحرة» المدافعة عن «الحق» الإنساني، نتساءل إذا ما كان الفاعلون القتلة بشراً أو «هْوايَش»، لا علاقة لهم بالإنسان مطلقاً. قصف أعمى يحمل كماً ثقيلاً من الحقد، ليس فقط ضد الغزاوي ومقاومته الجبارة والباسلة، وليس ضد الفلسطيني فحسب، ولكن ضد كل ما يرمز إلى الحياة.
لم تشهد البشرية شكلاً شبيهاً لهذا التقتيل اليومي والعنيف. حتى القصف الذي دمر لندن في الحرب العالمية الثانية لم يكن بهذا الحجم، مع أن الحرب هناك كانت ضد دولة ولم تكن ضد مقاطعة. ولم تكن حمولة القنابل النازية بكل الثقل الذي يلقى على غزة اليوم. هناك قنابل استعملت تزن أكثر من 500 كيلوغرام قادرة على تدمير منطقة بكاملها. هناك حس إنساني تخطى حاجز «عقدة» الهولوكوست ومعاداة السامية، التي لا علاقة لها بمشهدية الجريمة التي تقع في غزة، وتعدى «دولة فوق الكل». حتى إن بعض البلدان راجعت علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع إسرائيل. لكن إسرائيل، المحمية الأمريكية، تقع خارج أي نظام بشري؛ فقد أعطت لنفسها الحق في التدمير، منتهجة الطريق الذي سبق أن اختطه بوش، وحلفاؤه الأوروبيون، في صراعه ضد صدام حسين: «سأعيد العراق إلى العصر البدائي». وهو ما سار عليه بعد أن دمر الطيران العراقي على الأرض ومنعه أصلاً من الطيران بعد أن شل الرادارات وأعماها. فهو المالك المطلق للتكنولوجيا وللنظم الحديثة التي تفطنت لها الصين وروسيا وقامت بتغييرها. وتم تدمير العراق الحديث من خلال أهداف منتقاة، وهي الممارسة العسكرية التي سبق تجريبها في ويوغوسلافيا سابقاً قبل الإجهاز عليها وتفكيكها. التدمير الكلي بالطيران دون توريط الجيش وخسران العتاد والأفراد. والمقولة العسكرية التي أصبحت اليوم دارجة: «دون سماء محمية، حروبك اليوم كلها خاسرة».
ها هي إسرائيل، التلميذ الوفي لأمريكا، يطبق ذلك ميدانياً بشكل مستدام بعد أن جربها في حروب محدودة في غزة. هذه المرة تورطت إسرائيل عسكرياً في حرب برية أفقدتها أية شرعية دولية. منذ شهرين تقريباً لم تظهر الأهداف الإسرائيلية ميدانياً سوى التقتيل والتدمير الكلي في زمن، لو دولة غير إسرائيل فعلت ذلك، لتم تدميرها في الساعات التي تلي الاعتداءات، ولتحالفت ضدها كل شعوب الأرض. لكنها إسرائيل. L’Etat voyou «الدولة الزعرانة» التي تقع خارج أي قانون.
لا أحد يسأل عنها أو يمنعها أو يقف فعلياً في طريقها، حتى الموقف الأمريكي المرتبك بين التخفيف من القصف والحوار ووقف الحرب وغيرها، انتهى إلى طبيعته التاريخية «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؟» والفلسطيني الذي يقتل يومياً؟ أليس له حق الدفاع عن نفسه أمام مؤسسة عسكرية بنت مشرعها الكلي على القوة وعلى الخرافات الدينية التي تعطيها الحق في التوسع، مع أن حل الدولتين مهما كان ظالماً فقد منح فرصاً كبيرة لحل مبتور، لكنه حلّ. من رماه في المزبلة وراح يتوسع في الضفة الغربية والقدس؟ لهذا، فالذين يتوهمون أن غزة ستُمنح لهم على طبق من ذهب، لتسييرها، لا يعرفون العقل المتغطرس لنتنياهو (المطلوب قضائياً والمتورط حتى الأذنين في حرب برية لا يرى لها نهاية على الرغم من المسح الكلي للأرض وللبشر) وجماعته من المتطرفين الدينيين وتوجهاتهم الخرافية. لهذا يجب أن تخرج نظرتنا لحرب غزة من دائرة المكان الضيق وتتسع أكثر. ما يحدث اليوم هو البدء في تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، بعقلية توسعية أظهرها نتنياهو في خرائط الشرق الجديد أو الشرق القادم. الحرب هذه هي حلقة صغيرة من هذا المشروع، وبعد الانتهاء من غزة عسكرياً، ستضم إلى إسرائيل الكبرى.
لا يوجد في ذلك أي شك، والخطاب الأمريكي سينصاع في النهاية للإرادة الإسرائيلية. هناك حرب معلنة في غزة، وأخرى صامتة ولكنها مدمرة في البؤر الحية في الضفة الغربية؛ جنين على وجه التحديد. هذا جزء من الاستراتيجية النهائية للعمل العسكري الإسرائيلي. عمل خطير تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية يوفر لها التمدد وقت ما تشاء مع صمت كلي من المؤسسة الحاكمة في فلسطين. حتى فلسطينيو 48 يواجهون دوامة قوانين جبارة وخطيرة يتم التلويح بها لكل من ينتفض ضد الجرائم الإسرائيلية، من بينها السجن ونزع الجنسية الإسرائيلية عنهم وتحويلهم إلى أباتريد؛ أي بلا أرض.
لن تعود هناك لا ضفة غربية ولا قطاع غزة، ولكن دولة إسرائيل التي على الفلسطيني أن يتأقلم مع قوانينها أو يطرد خارجها. وهذا يتم تحقيقه اليوم ميدانياً لولا المقاومة الفلسطينية، لكن لهذه المقاومة حدودها، إذا لم ترفد بتأييد عربي ودولي حقيقيين، تضع إسرائيل أمام جرائمها. المرحلة الأولى يتم تنفيذها على خلفية دينية صرح بها نتنياهو العديد من المرات، آخرها رسالته بمناسبة أعياد الميلاد: نحن نتقدم بسرعة نحو تحقيق النبوءة (ليحلّ السلام على الأرض) التوراتية، أو على جزء من الأرض على الأقل». كل المنطقة العربية مهددة في ظل هذه الاختلال العسكري. يحتاج العرب إلى إعادة بناء أنفسهم عسكرياً واستعادة العراق على الأقل لدوره الكبير في المنطقة، لكن الكماشة الأمريكية والإسرائيلية هنا لمنع أية حركة بهذا الاتجاه. لهذا، لا يجب فصل ما يحدث في غزة عن المشروع التوسعي الإسرائيلي الخطير الذي يتمدّد بشكل سرطاني. ما يحدث اليوم من تدمير كلي في غزة، وتشريد أكثر من مليونين من ساكنة غزة، فضلاً عن كونهما جريمة ضد الإنسانية تتطلب محاكمة حقيقية لمن كان راءها وما يزال يمارسها ببشاعة وكأنها بطولة خارقة أمام شعب أعزل من الأطفال والنساء، وتفعيل دور الأمم المتحدة بشكل حقيقي. العرب اليوم عراة؛ لا أرض ولا سماء لهم، ولا يوجد لهم أي حليف عسكري حقيقي. أمريكا حليفة إسرائيل، ما عداها من البلدان الأخرى ومنها العربية، هي مصالح مشتركة محكومة بالبراغماتية الأمريكية. الحليف هو من يسندك معنوياً وعسكرياً لحظة الأزمة. لو افترضنا حرباً ضد إسرائيل يشنها غداً العرب، فأمريكا لن تتردد ثانية واحدة في الوقوف مع إسرائيل.
والعكس غير صحيح؛ فضرب غزة وتدميرها على مرأى من القنوات العالمية وكأنها في لعب إلكترونية، وننسى أن تحت كتل البنايات المنهارة ناساً يموتون في عز النوم. هو درس يتخطى فلسطين، موجه بشكل مباشر وواضح للعرب «شوفوا وتعلموا. مصير غزة سيلحق بكل من يحاول أن يرفع رأسه». لا يحتاج الأمر إلى اجتهاد؛ فقد صرح به نتنياهو وهو يتحدث عن «حزب الله» وقصفه: «إذا استمرت الاعتداءات علينا وتوسعت، سأجعل من بيروت غزة ثانية».
لا أدري إذا سمع العرب هذا الجنون، لكن الرجل يعني ما يقول، فهو يرى في نفسه منفذ النبوءة التوراتية.