مع انقضاء عام 2023، هل يمكن القول إن الصين نجحت في تجنّب الصدام مع الولايات المتحدة، والنجاة بمشروعها الذي يستهدف تحويل الصين قوّة عظمى، رغم كل الحشد العسكري والسياسي الذي أدارته واشنطن في مواجهة بكين، والترتيبات الاقتصادية التي قصدت تعطيل التطوّر الصناعي والتكنولوجي للتنين الآسيوي الصاعد؟
مثل هذا التساؤل، وإن بدا منطقياً، غرضه فهم حالة الصراع بين القوتين العالميتين الكبيرتين، إلا أنه ينطلق من “سوء فهم” لما يجري بين الولايات المتحدة والصين منذ قرّرت الأولى التصدّي لطموحات الأخيرة، خصوصاً بعد تولي شي جين بينغ الرئاسة في بكين عام 2013، وانطلاقه لتحويل الصين قوة عظمى، تارّة من خلال مبادرة الحزام والطريق، وأخرى بالحديث عن مجتمع المصير المشترك للبشرية، وثالثة بمشروع “التحديث النمط” الذي يطلق وعوداً بالرفاهية للصين وشركائها، خصوصاً من الدول النامية، فالتساؤل يفترض، من حيث المبدأ، أنه صراع تقليدي كالذي عرفته البشرية عبر تاريخها، وصولاً إلى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومفاده بأن دولة ما تريد أن تقضي على الأخرى، وتدمّرها عسكرياً وتحطّمها اقتصادياً، وهو ما لا ينطبق أبداً على أهداف الولايات المتحدة من صراعها مع الصين، ما يجعل التساؤل عن نجاح الصين في تجنّب الصدام في غير محله، لأن واشنطن لم تبتغ الصدام أصلاً.
أرادت الولايات المتحدة إقناع الصين بالعودة خطوة إلى الوراء، لا تركيعها وإخضاعها وتدميرها
ما أرادته الولايات المتحدة من حيث المبدأ يتمثل في “ردع الصين” عن السعي إلى تغيير شكل النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب الباردة، أي تحويله من نظام أحادي القطبية تتزّعمه الولايات المتحدة إلى نظام متعدّد الأقطاب تتساوى فيه كفتا واشنطن وبكين، ما يعني بقاء الصين عضواً فاعلاً في هذا النظام الأميركي، كما كانت على مدار العقود الفائتة، وأن تواصل نموها الاقتصادي، وتحافظ على وضعها كـ”مصنع للعالم” وأكبر مورّد للبضائع فيه. لقد أرادت الولايات المتحدة إقناع الصين بالعودة خطوة إلى الوراء، لا تركيعها وإخضاعها وتدميرها. لذا، يتحدّد نجاح الصين من عدمه في مدى استمرارها بخطواتها لقلب النظام الدولي، رغم الحشد العسكري الأميركي في محيطها، والضغوط السياسية والعسكرية التي مارستها ضدها. ويتحدّد نجاح الولايات المتحدة من عدمه في مدى تمكّنها من إقناع الصين بالبقاء شريكاً مطيعاً لها، حتى إن حظيت بكين بمكانة دولية أفضل من ذي قبل.
وما يمكن قراءته من حالة الهدوء التي تسود ملف الصدام بين الدولتين الكبيرتين، في أواخر عام 2023، أن الولايات المتحدة حققت نجاحاً كبيراً في دفع الصين لإعادة التفكير بخطواتها المتعلقة بالتأثير على أحادية القطبية الأميركية. والحقيقة أن عدم حديث بكين في العلن عن نياتها للتفوق على الولايات المتحدة ساعدها في التعبير عن خضوعها للضغوط الأميركية من دون أن تبدو كأنها تراجعت عن مواقفها، وهو ما تبدّى في تصريحات الرئيس الصيني لدى لقائه الرئيس جو بايدن في سان فرانسيسكو أواخر نوفمبر/ تشرين الأول الفائت، إذ قال لنظيره الأميركي إن بلاده لا تخطّط لتجاوز الولايات المتحدة أو إزاحتها عن موقعها الدولي، ولا تبحث عن مجالات للنفوذ، ولن تخوض حرباً باردة أو ساخنة مع أحد.
لولا أن الولايات المتحدة ضمنت تراجع الصين عن مساعيها لقلب النظام الدولي، لما سمحت لحلفائها بالانفتاح السياسي على بكين
وما قامت به الصين من نشاطات دبلوماسية مع حلفاء الولايات المتحدة في محطيها؛ اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ثم أخيراً زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني إلى فيتنام، بعد أن كانت قد تقاربت عسكرياً مع الولايات المتحدة في مواجهة طموحات بكين في بحر الصين الجنوبي وقواعدها العسكرية المتزايدة الساعية إلى تكريس السيطرة الصينية على ذلك الممرّ البحري الذي تعبره أكثر من ثلث التجارة العالمية، تلك كلها تعكس النجاح السياسي الأميركي، لا الصيني، فلولا أن الولايات المتحدة ضمنت تراجع الصين عن مساعيها لقلب النظام الدولي، لما سمحت لحلفائها بالانفتاح السياسي على بكين. أي إن الخطوات الدبلوماسية الصينية لا تعني نجاح الصين في اختراق التحالف الذي أقامته واشنطن في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ، بل تعني أن واشنطن استشعرت تراجع بكين، فوافقت على تخفيف الضغوط السياسية في محيطها.
يؤكّد ذلك تراجع الصين عن التصعيد في شأن ملف تايوان، بالتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التي ستجري في تايبيه في الشهر الأول من العام الجديد 2024، وأبرز ملامح ذلك التراجع عدم مضيّها في الضغط على الناخبين عبر مناورات عسكرية كالتي نفّذتها حول الجزيرة خلال الشهور الفائتة، من أجل دفعهم إلى عدم انتخاب مرشّح الحزب الديمقراطي التقدّمي المعادي لبكين، أي إنها من الناحية العملية استسلمت لفكرة فوز حليف واشنطن، وليم لاي، رئيساً جديداً يناهض فكرة ضم جزيرة تايوان للبرّ الصيني.
تجنّبت بكين صداماً عسكرياً وتجارياً كان يمكن أن يقع لو تطوّر التنافس مع واشنطن إلى صراع كبير. هذا صحيح، لكن واشنطن حققت نجاحاً أكبر، حتى الآن، في دفع الصين إلى مراجعة خطواتها المتسارعة لإقامة نظامٍ عالميٍّ جديد، أو تأجيلها سنواتٍ عدّة على أقلّ تقدير.