التاريخ يظهر أن إسرائيل لن تكسب أبدا “حرب احتلال” ‏

التاريخ يظهر أن إسرائيل لن تكسب أبدا “حرب احتلال” ‏

ردًا على ‏‏هجوم حماس (الوحشي) على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)‏‏، ‏‏اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة‏‏ بهدف معلن هو ‏‏تدمير الجماعة‏‏ (الإرهابية). وعلى هذا النحو، يخوض الجيش الإسرائيلي ما يسميه الكثيرون “حرب مكافحة التمرد”. وفي المقابل ليس لدى حماس “جيش” بأي معنى مقبول للكلمة.

وبدلاً من ذلك، يتكون الذراع العسكري لـ”حماس” من اتحاد كونفدرالي جيد التنظيم (وجيد التمويل) لمقاتلي حرب عصابات.

 وهدف الجيش الإسرائيلي هو قتل مقاتلي “حماس” أو شل حركتهم، وبقدر الإمكان، ترك المدنيين وشأنهم.‏

‏لكن الجيش الإسرائيلي لا يخوض في الحقيقة حرب مكافحة تمرد في غزة. وسوف يُفهم قتاله بشكل أفضل إذا ما نُظر إليه على أنه “حرب احتلال”.

وكان‏ الإسرائيليون قد غادروا غزة في العام 2005‏‏، والآن عادوا إليها كمحتلين بحكم الأمر الواقع. وهذا التوصيف لا يعني أن الجيش الإسرائيلي سيبقى في غزة على المدى الطويل.

 

ربما يفعل، وقد لا يفعل. لكنه مع ذلك وصف مناسب للوضع العسكري الصعب والخطير الذي يواجهه جيش الدفاع الإسرائيلي كما هو حاله اليوم.

ما هو الفرق بين حرب مكافحة التمرد وحرب الاحتلال، وهل يفيد إدراك الفرق في فهم الحرب في غزة؟‏
‏في حرب مكافحة التمرد -على الأقل كما يفهمها السياسيون والمنظرون الذين يصرون على أن مثل هذه الحرب تخاض حقًا- هناك متمردون ومدنيون. والمتمردون هم أشخاص ذوو دوافع سياسية، مسلحون جيدا ومُميتون.

 

أما المدنيون فيكونون، ببساطة، “في الطريق”. إنهم يكونون محايدين سياسيًا إن لم يكونوا داعمين تمامًا للقوات المرسَلة “لمساعدتهم”.

 

وحسب فهم خبراء مكافحة التمرد، فإن معظم المدنيين في هذا النوع من القتال يريدون فقط إنهاء الحرب حتى يتمكنوا من مواصلة حياتهم.

 

وتقدم عمليات ألمانيا الغربية ضد “فصيل الجيش الأحمر” مثالاً على حرب مكافحة التمرد، كما ربما يفعل الجهد الأميركي ضد تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.

في هذه الحالات، كان من الصعب تحديد هوية المتمردين، ولكنهم لم يكونوا يتمتعون عموما بدعم السكان المحليين. وهو وضع جعل العمليات العسكرية أكثر سهولة. ‏

‏لكن هناك في حرب الاحتلال متمردون ومدنيون معادون. والمتمردون، كما هو الحال دائما في حرب مكافحة التمرد، مسلحون ومميتون. لكن المدنيين -وهذا هو الفرق الحاسم- ينطوون بالتأكيد على عاطفة غير صديقة لقوات الاحتلال.

 

ومهما كانت ميولهم السياسية، يعتقد الخاضعون للاحتلال أن القوات الأجنبية يجب أن تخرج من مناطقهم وأن تعود إلى ديارها.

 

وقد لا يكون المدنيون مقاتلين نشطين، لكنّ من المرجح أنهم سيقدمون المساعدة للمتمردين -ببساطة لأسباب قومية.

‏وهكذا، فإن حروب الاحتلال -التي غالبًا ما تسميها القوى المحتلة، على سبيل الدعاية، “حروب مكافحة تمرد”- كانت شائعة، ومميتة، في العصر الحديث.

 

ولا يحتاج المرء أكثر من تذكُّر البريطانيين في ماليزيا، والأميركيين في فيتنام، والفرنسيين في فيتنام والجزائر، والسوفيات في أفغانستان، والأميركيين في العراق وأفغانستان.

 

وفي كل هذه الحالات، كان من الصعب تحديد هوية المتمردين، لكنّ الكثيرين من السكان المحليين كانوا معادين بالتأكيد -وبشكل ملحوظ جدًا- لقوات الاحتلال. وقد جعل هذا الوضع من تنفيذ العمليات العسكرية أكثر صعوبة.‏

ربما ‏المثال المعروف أكثر ما يكون لحرب الاحتلال هو حرب فيتنام، التي توضح مدى صعوبة خوض مثل هذا النوع من الحرب -ناهيك عن الفوز بها.

 

منذ البداية، قالت الولايات المتحدة أنها تخوض حربا لمكافحة التمرد في جنوب فيتنام، وهي “‏‏نوع مختلف من الحرب‏‏” كما وصفها البنتاغون والإدارات الرئاسية المتعاقبة.

 

وكما قالوا، لم تقم الولايات المتحدة بغزو فيتنام الشمالية وقالت أنها لم تقم بغزو فيتنام الجنوبية أيضًا. لكن الغزو كان هو ما فعلته.

 

وقد أرسلت الولايات المتحدة 2.6 مليون عسكري إلى جنوب فيتنام على مدار زمن الحرب. وفي ذروة العمليات، كان لديها ‏‏أكثر من نصف مليون رجل هناك‏‏.

 

وقد احتلت الولايات المتحدة، بشكل أساسي، جزءًا كبيرًا من فيتنام الجنوبية.‏

أحد الأماكن التي احتلتها الولايات المتحدة كان “مقاطعة كوانغ نجاي” الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي لفيتنام الجنوبية.

 

كان هذا، بشكل واضح، هو المكان الذي وقعت فيه “مذبحة ماي لاي”. وقامت القوات البرية الأميركية في كوانغ نجاي بمطاردة -وأحيانا اشتبكت مع- ثوار الفيتكونغ، “متمردي” نظرية مكافحة التمرد المفترضين.

 

لكنها واجهت أيضًا سكانًا من الفيتناميين الجنوبيين الذين كانوا معادين بشدة للأميركيين.

 

وقام السكان المحليون بقنصهم، ووضعوا لهم الشراك الخداعية والألغام، وساعدوا الفيتكونغ، وانخرطوا بشكل عام في المقاومة المناهضة لأميركا.‏

‏‏أدركت القوات الأميركية عداء السكان الفيتناميين في كوانغ نجاي، وهم السكان الذين كانوا يدافعون عن الإقليم اسميًا.

 

وفي أعقاب “مذبحة ماي لاي”، أجرى الجيش الأميركي تحقيقًا لمعرفة الخطأ الذي حدث في استراتيجيته لمكافحة التمرد. وسأل المحققون الجناة عن سبب قتلهم المدنيين.

 

وكثيرًا ما رد الجنود بالقول إنهم لم يكونوا يعرفون أنهم “مدنيون”. كان الفيتناميون في كوانغ نجاي، كما ادَّعت القوات الأميركية، جميعهم “متعاطفين مع الفيتكنونغ”، وبالتالي خطرين.

 

ومن المهم أن ندرك أن الجنود الأميركيين لم يقولوا إنه (كما يقول المجاز الشائع) “من الصعب التمييز بين المقاتلين والمدنيين”. كانوا يقولون أن جميع المدنيين يشكلون تهديدًا محتملاً.

‏في غزة، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه في وضع مماثل لوضع الجيش الأميركي في مقاطعة كوانغ نجاي. فالإسرائيليون موجودون هناك اسميًا في مهمة لمكافحة تمرد.

 

لكنهم في الواقع احتلوا غزة. و”حماس” لا تريدهم هناك، ولكن كذلك أيضا يفعل معظم سكان غزة الذين يعانون تحت وطأة هجوم الجيش الإسرائيلي. هل من المبالغة قول أن معظم سكان غزة يكرهون الجيش الإسرائيلي؟ ربما لا.

 

قد يقول النقاد أن العديد من سكان غزة كانوا يكرهون الجيش الإسرائيلي قبل الغزو الإسرائيلي. ومرة أخرى، ربما يكون هذا صحيحًا. لكن الغزو والاحتلال لم يؤديا بالتأكيد إلى تحسين الوضع.

 

وفي استطلاع حديث للرأي أجراه ‏”‏المركز الفلسطيني لاستطلاع السياسات والبحوث‏‏، قال 57 في المائة من سكان غزة أن “حماس” كانت “محقة” في مهاجمة إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

 

وقال جميع الذين شملهم الاستطلاع تقريبًا –97 في المائة– أن الإسرائيليين يرتكبون “جرائم حرب” في غزة. ‏

‏هذه الحقيقة -السكان المعادون بشكل موحد تقريبًا- تجعل العمليات العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي في قطاع غزة صعبة للغاية. يجب على القوات الإسرائيلية محاربة “حماس”، لكنَّ عليها أيضًا أن تقلق بشأن المدنيين الفلسطينيين المعادين الذين يعيشون تحت ما يعتبره الفلسطينيون احتلالاً إسرائيليًا. ومخاطر القيام بعمليات عسكرية في مثل هذا السياق عديدة، لكنَّ أهمها –على الأقل من حيث حماية المدنيين– هو أن الجيش الإسرائيلي سينظر إلى سكان غزة المعادين على أنهم “متعاطفون مع حماس”، بما يترتب على ذلك من نتائج مأساوية.‏

‏وقد تجلت المخاطر الكامنة في حرب الاحتلال بوضوح في 15 كانون الأول (ديسمبر) عندما ‏‏قتل الجيش الإسرائيلي ثلاثة رهائن إسرائيليين في مدينة غزة‏‏.

 

ووفقًا للجيش الإسرائيلي، فإن القوات الإسرائيلية “حددت عن طريق الخطأ ثلاثة رهائن إسرائيليين على أنهم يشكلون تهديدًا” على الرغم من أنهم كانوا غير مسلحين وكانوا يلوحون بعلم أبيض.

 

ومضى الجيش الإسرائيلي إلى توضيح أن عمليات القتل من هذا النوع تنتهك قواعد الاشتباك الإسرائيلية.

 

وهي تفعل بكل تأكيد، لكن هذا يغفل الفكرة: من وجهة نظر القوات البرية الإسرائيلية، يُنظر إلى جميع سكان غزة، بغض النظر عن مدى براءتهم، على أنهم يشكلون تهديدًا.

 

وينطبق هذا بشكل خاص على الذكور في سن الخدمة العسكرية، وكان ‏‏جميع الرهائن الإسرائيليين الثلاثة الذين قُتلوا‏‏ من الذكور في سن الخدمة العسكرية. ‏

‏في العصر الحديث، لم تنته حروب الاحتلال بشكل جيد بالنسبة للخاضعين للاحتلال ولا للذين يقومون بالاحتلال. وعادة ما يختبر المدنيون المعادون للاحتلال -الذين تعتبرهم قوة الاحتلال “متعاطفين”- معاناة هائلة بينما تغادر قوة الاحتلال وهي مهزومة.

كان هذا هو الحال في الجزائر، وفيتنام (مرتين)، وأفغانستان (مرتين). ويعرف جيش الدفاع الإسرائيلي هذه الحقيقة جيدًا بعد أن خاض حرب احتلال في جنوب لبنان وخسرها بشكل متقطع من العام 1982 إلى العام 2000. ويبقى أن نرى ما إذا كان الإسرائيليون قد تعلموا ذلك الدرس حقًا. ‏