مع دخول الحرب على قطاع غزة مرحلتها الثالثة من العمليات الشاملة، لإقرار استراتيجية الأمن المطلق، مما يشير إلى أن الحرب ستظل مستمرة حتى إشعار آخر بصرف النظر عما يدور في شأن الدخول في هدنة إنسانية جديدة يجري التعامل معها، وفي إشارة إلى أن القوات الإسرائيلية ستظل تعمل في نطاق من الحسابات الإسرائيلية الحذرة، وعدم إسقاط أي خيار، بما في ذلك التعامل مع ما يطرح من خيارات مهمة يمكن أن تعلن نفسها في التوقيت الراهن.
معطيات حاكمة
يمكن الإشارة إلى جملة من المعطيات الراهنة التي تحكم استمرار المواجهات، وتصميم إسرائيل على المضي في سياق ما يجري، واستمرار الحرب على القطاع، خصوصاً أن الصراع داخل الحكومة الإسرائيلية يشمل أكثر من توجه أو تيار.
يبرز تيار عسكري، يضم بعض قيادات أجهزة المعلومات، بخاصة الشاباك، والاستخبارات العسكرية “أمان”، يرى أن تخفيف العمليات وانتقاءها أمر ضروري، للمضي في إطار الحرب على قطاع غزة، وعدم التعجل في إنهاء الحرب، وهذا الأمر مرتبط ببعض الرؤى داخل المؤسسة العسكرية.
وترى المؤسسة العسكرية أنه من الضروري الانتقال إلى العمل العسكري النوعي، وحسم الأمر عبر ترتيبات أمنية محددة ومهمة في إطار ما يجري من خيارات، بل والتعجيل بإنشاء منطقة عازلة على طول منطقة الحدود، والعمل على فرض الترتيبات الأمنية من أعلى ومن دون تنسيق مع أي طرف، سواء أكان أميركياً أو فلسطينياً.
التيار العسكري ذاك يمثل مركز القوة في الحكومة الإسرائيلية، ويعمل في مواجهة تيار آخر يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يعمل في اتجاه آخر، ويسعى إلى إطالة أمد الحرب على القطاع، لحسابات شخصية، والتخوف بالفعل مما سيجري من أحداث بدأت تتبلور صورها في المدى القصير من خلال استمرار محاكمة نتنياهو، واستدعائه إلى التحقيق في الاتهامات الموجهة إليه، كما أن هناك مخاوف من استمرار توجيه الاتهامات بالتقصير نتاج عدم تطوير بنية الجيش بالصورة المطلوبة، وفشله في الضغط على الكنيست، لتوفير متطلبات الإمداد والتطوير للقوات الإسرائيلية، بخاصة البرية.
مواقف متجاذبة
على رغم أن الجيش الإسرائيلي ما زال في مرحلة بناء قدراته الجديدة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ما زال يعمل في الواجهة رافضاً أي خيارات وسط، بل ويحرض على الاستمرار في العمل العسكري، ومواجهة وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي، بل وقيادات الجنوب وبعض التشكيلات.
ولهذا خرجت التباينات في الرؤى والمواقف إلى العلن، وبات حديث الميديا الإسرائيلي، التي ترى أن نتنياهو كرئيس حكومة إسرائيل بات عبئاً على الدولة والحكومة، وهناك تحفظات حقيقية على أدائه، كما برز أنه رجل ضد أمن إسرائيل، وأن بقاءه سيؤدي إلى مزيد من الخسائر، لأنه ليس عسكرياً، ولا يملك رؤية ومقاربة استراتيجية، بل وسياسية مما يتطلب تنحيته.
في هذا الإطار يجري الحديث المعلن عن موقف إدارة الرئيس جو بايدن، التي طرحت ضرورة تغيير مكونات الائتلاف الراهن واستبداله، خصوصاً أن الحرب على غزة فرضت آليات تعامل بين الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
أما اليوم فإن مساحة التباين تزيد، بخاصة أن الإدارة الأميركية فتحت أخيراً قنوات تواصل مع وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي، وعدد من الوزراء من نوعية وزير التقديرات الاستراتيجية رون ديرمر، الذي أجرى أخيراً سلسلة من الاتصالات في واشنطن، استكمالاً لما دار في تل أبيب، التي كانت محور نقاشات بين وزيري دفاع البلدين.
وما سبق يعطي دلالات بأن الصراع بين رئيس الوزراء نتنياهو والرئيس جو بايدن مستمر، وامتد بالفعل إلى داخل الحكومة الإسرائيلية، بخاصة أن الاستمرار في الحرب سيكون مكلفاً بصورة كبيرة للدولة العبرية بأكملها، وليس فقط الحكومة الراهنة، التي قد تواجه تغييراً بالفعل، مما يعني تدخل المعارضة الإسرائيلية على الخط، واحتمال أن تكون حكومة وحدة وطنية قائمة في ظل التغييرات المتوقع حدوثها في إسرائيل خلال الفترة المقبلة.
صدامات حقيقية
إزاء ما يجري من صدامات مكتومة بين رئيس الوزراء نتنياهو والقيادات العسكرية سواء المؤيدة لاستمرار الحرب في قطاع غزة، وبين بعض مراكز التأثير في الحكومة الراهنة (تضم من داخل مجلس الحرب عدداً كبيراً من القيادات العسكرية)، ومن خارجها من نوعية العسكريين السابقين، وبعضهم شارك في حرب غزة، فإنه من الواضح أن سلوك وتوجه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مرتبط فعلياً بأمور عدة:
أولاً: خطورة عودة حركة “حماس” للداخل في قطاع غزة، والتخوف من إعادة بناء قدراتها العسكرية مجدداً خلال سنوات محددة، وهو ما يدفعه إلى نفي أي أمور متعلقة بوقف الحرب، أو العمل على وقف الحرب في الوقت الراهن.
ثانياً: الاستثمار في ما يجري من تطورات سيخدم على أولوياته الشخصية، وإعادة تقديم نفسه للجمهور الإسرائيلي من جديد بأنه صانع النصر، وأنه رجل المهمات الكبرى، الذي نجح بالفعل في مواجهة أخطار الدولة، وأنه حقق ما لم يحققه أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، بل بالعكس حقق أمن إسرائيل، وأمن المواطن الدولة والفرد، وأنه سيعيد بناء مستوطنات للمستوطنين في قلب القطاع، وسيعيد تسكين المستوطنين في مواقعهم مرة أخرى.
ثالثاً أن نتنياهو يستهدف العمل على مسارات، بمعنى ربط الضفة بالقطاع، وعدم فصل الجانبين، على رغم أن استراتيجية الفصل بين القطاع والضفة كانت وظلت لسنوات هدفاً كبيراً لإسرائيل، مما يشير إلى أن نتنياهو في تقديره إعادة بناء السلطة المنحازة مع عودة التنسيق الأمني، ومن ثم سيحظى موضوع خلافة الرئيس محمود عباس بأولوية مهمة في هذا السياق مع رغبة الحكومة الإسرائيلية في العمل بإجراءات انفرادية من دون أية تشاورات مع أي طرف، إذ يعمل الجيش الإسرائيلي على إخفاء المحاور المعرضة للنيران المباشرة في 14 قطاعاً في غلاف غزة، جنباً إلى جنب بث معلومات ملونة في شأن الجيش الإسرائيلي، حيث عودة السكان إلى شمال قطاع غزة، باعتباره أنه يمكن أن يؤدي إلى تخفيف كثافة السكان العالية جداً في جنوب القطاع، التي تعوق العمليات العسكرية في مناطق خان يونس، ومع تركيز الجيش الإسرائيلي بالعمل في شمال، وجنوب قطاع غزة، واستهداف قادة “حماس” في الجنوب.
عبء حقيقي
في هذا السياق يمكن تفهم طبيعة ما يجري ليس على مستوى الداخل وخلافات رئيس الوزراء نتنياهو فقط، بل أيضاً في إطار الدول الغربية، بل والولايات المتحدة، فالظاهر أن الولايات المتحدة داعمة لأمن إسرائيل، ووفرت لها أخيراً صفقة سلاح ثانية من وراء الكونغرس ارتكاناً إلى ظروف الطوارئ، التي تعمل في يد وزيري الدفاع والخارجية عند الضرورة، وهو ما جرى أخيراً.
لكن هذا الدعم يكون أحد محاور الخلافات داخل الكونغرس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وستزكي من حدة الصراع السياسي والاستراتيجي، وقد تدمر شعبية الرئيس جو بايدن بالفعل قبل بدء العملية الانتخابية، وفي ظل تدهور شعبية الرئيس جو بايدن.
ومن ثم فإن الأمر في حال تجاذب، بخاصة أن خلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة حول موعد الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب، واشنطن تريد الانتقال الآن وتل أبيب ترغب في أسبوعين آخرين، كما أن الخلافات حدثت خلال مكالمة بين وزير الجيش الإسرائيلي ونظيره الأميركي.
كما أن الدول الغربية ترى أن استمرار الحرب على قطاع غزة سيمس جوهر النموذج الغربي، وسيحدث ارتدادات عديدة على الأمن الأوروبي في حال العمل على ترحيل الفلسطينيين إلى أوروبا أو كندا أو أستراليا من خلال قبرص، وفي ظل مخاوف من أن تمتد الصراعات إلى التحالفات الغربية – العربية، وتأكيد أن النموذج الليبرالي قد يتأثر، وأن استمرار دعم دول الاتحاد الأوروبي سيمس منظومة العلاقات العربية والإسلامية، وسيحرض على احتمالات حدوث أعمال إرهابية جديدة في إطار موجة ربما تكون أكثر خطورة مما كان يجري.
ومن ثم فإن استمرار الحرب في قطاع غزة سيكون مكلفاً للدول الأوروبية، وسيحتاج الأمر في محصلته إلى الضغط على الحكومة الإسرائيلية، بخاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي بات عبئاً على أوروبا والولايات المتحدة باستمرار مخططه في الحرب على غزة مما يتطلب موقفاً حقيقياً لوقفهما يجري، ومحاولة استثمار ما يجري في داخل إسرائيل من خلافات تعلن نفسها، وتؤدي إلى المساس بأمن النطاقات الأوروبي العربية.
توجد سيناريوهات متعددة مرتبطة بالفعل بأمن المنظومتين الإقليمية والدولية في حال تمدد الصراع الراهن ودخوله مرحلة أخرى في المواجهات وتطوير آليات المواجهة أو من خلال العمل على توسيع نطاق الحرب، وتتعلق على سبيل المثال بالملاحة الدولية وخطوط الغاز والنفط، وبالوجود العسكري الغربي في الشرق الأوسط.
الأمر الذي يعطي الأهمية في حال استمرار الحرب أو التماهي مع طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في تطوير العمليات الحالية، وانتقال المواجهات إلى مرحلة ربما أكثر حسماً لارتباطها بما سيجري من ترتيبات أمنية واستراتيجية ستقدم عليها إسرائيل في الفترة المقبلة، ومن ثم فإن بقاء نتنياهو في موقعه قد يمثل في مرحلة معينة عبئاً حقيقياً على الدول الأوروبية، بل وعلى الولايات المتحدة بصرف النظر عن الدعم المفتوح والمباشر لإسرائيل.
الخلاصات الأخيرة
سيظل بقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عبئاً حقيقياً على الجانبين الأميركي والأوروبي، خصوصاً أن استمرار الحرب سيعني مزيداً من المواجهات في الشرق الأوسط، وقد يحيي من جديد فكر العنف في ظل تربص التنظيمات الإرهابية بما يجري، وقد يكون له تبعاته على المصالح العليا للنطاقات الأوروبية والأميركية، ويعطي الفرصة لمزيد من حال عدم الاستقرار التي قد تفجر الأوضاع بارتداداتها الداخل الأوروبي، وسيكون لها ارتدادات كبرى على الانتخابات الأميركية المقبلة أياً كانت تطوراتها الراهنة والمحتملة.
وفي كل الأحوال سيظل بقاء نتنياهو إشكالاً حقيقياً ليس فقط في داخل إسرائيل وبقائه على رئاسة الائتلاف الراهن، بل على مستوى الحلفاء والشركاء الأوروبيين، بل وعلى الولايات المتحدة التي لا تزال داعماً لأمن لإسرائيل بصرف النظر عن حال التجاذب الحالية في دوائر الكونغرس.
وعلى رغم الاتفاق على أن إسرائيل ستظل شأناً أميركياً داخلياً ليس فيه أي مجال لخلافات أو تجاذبات كبرى، كما لا يمكن استبعاد ما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في خطابه السياسي والإعلامي من أنه يواجه ضغوطاً دولية، فإن إسرائيل تمضي في تحقيق أهدافها في غزة مع تقدير الموقف الأميركي في تقديم مزيد من السلاح لإسرائيل وفي مجلس الأمن.