تنتقل العلاقات التركية اليونانية اليوم من سيناريوهات التصعيد والمواجهة إلى الحديث عن التهدئة والانفتاح، بعد أن كثرت الزيارات المتبادلة بين القيادات السياسية في البلدين، وزاد عدد المتحدثين عن مرحلة جديدة إيجابية لا يجوز التفريط بها.
لا يمنع هذا من تمسك الجناح القومي المتشدد في الجانبين بالتفاؤل الحذر، لأنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها التقارب وتبريد الأجواء التي سرعان ما تنتهي وتزول عند أول انتكاسة سياسية أمنية.
حكاية العلاقة بين أنقرة وأثينا قديمة جدا وتعود إلى عقود طويلة سابقة، تحكّم فيها ورسم معالمها أكثر من عامل جغرافي وسياسي وأمني وعقائدي. وكانت أيضا تحت تأثير العامل الخارجي ومصالح الطرفين وعلاقاتهما مع العديد من الدول والمحاور والاصطفافات.
أمريكا في أواخر الأربعينيات كانت الدولة القادرة على التقريب الاستراتيجي بينهما، من خلال إقناعهما بقبول العضوية الأطلسية المتزامنة، والالتحاق بالحلف الغربي في مواجهة روسيا السوفياتية. لوحت واشنطن دائما بجزرة العضوية الأوروبية للبلدين أيضا، لكن اليونان وحدها هي من نجحت في تسجيل هذا الاختراق، فيما لا تزال أنقرة تنتظر منذ 60 عاما.
بالمقابل، هناك حقيقة أخرى تقول إن توتر العلاقات التركية الأمريكية والتركية الأوروبية كان لها تأثير كبير على رسم معالم العلاقات التركية اليونانية. وإن هذه الحالة تنطبق اليوم على تقاربهما وتباعدهما مع روسيا ودول المنطقة، في إطار حسابات الربح والخسارة السياسية والاقتصادية والأمنية أيضا.
تطول لائحة أسباب التأزم المعروفة بين أنقرة وأثينا، بينها: تقاسم بحر إيجه، ومشكلة الجزر اليونانية القريبة من اليابسة التركية، ووضع الكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول، والأقلية التركية في اليونان، وتعقيدات جزيرة قبرص، ليضاف إليها في الأعوام الأخيرة تقاسم النفوذ في شرق المتوسط، واستخراج الطاقة من هناك بعد التقارب التركي مع طرابلس الغرب واتفاقيات ترسيم الحدود البحرية، والذي قابله على الفور التقارب العسكري اليوناني الأمريكي عبر زيادة حجم التسليح العسكري المتطور لأثينا، وبناء قواعد عسكرية أمريكية جديدة على مقربة من الحدود التركية، اعتبرتها أنقرة مصدر تهديد لها قبل أن يكون هدفها موازنة النفوذ الروسي في المنطقة. أضيف إليها مؤخرا مشروع الهند التجاري العابر للقارات والذي يضم اليونان على حساب استبعاد تركيا.
نبرة التحدي المصحوبة بالكثير من التصعيد والاستفزاز لم تتوقف. وحصل أكثر من احتكاك بحري وجوي بين قوات البلدين. لو كان قرار إعلان الحرب بيد أنقرة وأثينا وحدهما لكان حدث ذلك منذ زمن بعيد؛ لأن هناك أكثر من سبب للتفجير. لكن لعبة التوازنات الإقليمية والدولية وارتباطاتهما السياسية والعسكرية والتجارية هي التي تتحكم بهذا القرار -أيضا- وتتطلب الحذر والدقة عند اللجوء إليه.
يزور أردوغان أثينا للمرة الأولى منذ 6 سنوات تلبية لدعوة من قياداتها، ولحضور الاجتماع الخامس لمجلس التعاون التركي اليوناني رفيع المستوى.
صحيح أن الزيارة لم تستغرق سوى بضع ساعات، لكنها شهدت توقيع 15 اتفاقية ثنائية متعددة الجوانب والأهداف، وولادة “بيان أثينا” الذي يهدف لفتح صفحة جديدة من العلاقات، وتوقيع اتفاقية زيارة الأتراك للجزر اليونانية دون تأشيرة.
من وضعية “لم يعد هناك من هو اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة لي. لن أقابله أو أحاوره” في أواخر مايو/أيار 2022. ومن “انتظرونا فنحن قادمون في ليلة دكناء” كما قال أردوغان، إلى خطاب الرئيس التركي أمام كتلته البرلمانية في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قائلا: “كانت لدينا خلافاتنا مع جارتنا اليونان بالأمس، وسوف تكون لدينا خلافات غداً. لكن ذلك لا يمنعنا من الالتقاء فوق أرضية مشتركة كدولتين متجاورتين تشتركان في نفس البحر ونفس المناخ ونفس الجغرافيا لتطوير تعاوننا على أساس الثقة المتبادلة”. وأنقرة التي تردد أن بين أهدافها رفع مستوى التبادل التجاري من 6 إلى 10 مليارات دولار سنويا .
ومن كلام رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس حول أن أثينا جاهزة للمواجهة والرد عند أي تصعيد في بحري إيجه وشرق المتوسط، إلى إعلانه أن لقاء العاصمة اليونانية كان مميزا، وأن تركيا واليونان مجبرتان على العيش معاً.
للعلاقات التركية اليونانية مميزاتها الخاصة بها التي تتعلق بأكثر من عامل تاريخي، وجغرافي وديني وأمني. تسابق نحو التصعيد والتهديد الذي لا بد أن يتوقف عند حد معين، والعودة لمنح التهدئة والحوار فرص الدخول على الخط منعا للانفجار، وحيث تسود مقولة “لا عداوة دائمة في السياسة ولا صداقة دائمة”.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أثينا على رأس وفد وزاري رفيع في محاولة لإقناعها بفوائد تحسين العلاقات التجارية والسياحية، والابتعاد عن الإغراءات والعروض الغربية في المتوسط وإيجه وقبرص ثمنا للتصعيد مع أنقرة. عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة، فلماذا يقبل ميتسوتاكيس بما يقوله أردوغان وهو يحصل على ما يريد من واشنطن وباريس ولندن؟
تفتح أثينا التي كانت تتهم أنقرة بتحريك ورقة الهجرة غير الشرعية واللجوء كورقة ضغط سياسي عليها وعلى الغرب، أبوابها أمام الضيف الزائر أردوغان، الذي يتواجد في العاصمة اليونانية للإعلان أن لا خلاف يدوم إذا ما كان هناك رغبة حقيقية في معالجته عبر الحوار والتفاهم بنوايا طيبة. وللحديث عن فرص وفوائد الطرفين في تجيير الثروات الغازية والطبيعية والموقع الجغرافي إلى أوراق استراتيجية رابحة تحسن في العلاقات وتوسع دائرة التنسيق والتعاون الإقليمي.
يتطرق “بيان أثينا” المعلن بعد زيارة أردوغان الأخيرة للعاصمة اليونانية، إلى ضرورة إطلاق خطوات جديدة على طريق تفعيل بناء الثقة، وأهمها الحوار الثنائي المباشر بدلا من الرهان على خطوات إقليمية ودولية بعيدة المدى، وتحريك الشق القانوني في حل الخلافات إلى جانب التدخل والدعم السياسي والدبلوماسي عند الضرورة، وإلى أهمية تخفيف حالة الاستنفار العسكري، وتسريع تفعيل خطوط التنسيق بين القيادات في الجانبين، وفتح أبواب المناورات العسكرية المشتركة، واللقاءات الدورية بين القيادات السياسية والعسكرية في البلدين. بالمقابل هناك أرقام التسليح العسكري المتزايد في البلدين وسياسة أمريكا الجديدة في شرق المتوسط وقبرص، وطموح أثينا المتزايد في انتزاع حصة من نفوذ أنقرة جسر التواصل بين الشرق والغرب، والذي يقابله التشدد التركي في مواجهة سياسة واشنطن اليونانية، والمزيد من الحشد والتعبئة العسكرية في إيجه وشرق المتوسط، وكلها رسائل متبادلة تقول إن مهمة القيادات السياسية في الطرفين لن تكون سهلة.
يبقى الرهان على “بيان أثينا” وما تضمنه من رغبة ثنائية بتفعيل الحوار السياسي المجمد بعد فشل المحاولات التي أجريت قبل عامين، وعلى مواقف أردوغان الذي فاز هو وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل 7 أشهر، بقيادة البلاد لمدة 5 سنوات أخرى، وعلى ما سيفعله رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس الذي انتصر في الانتخابات البرلمانية التي مكنته من البقاء على رأس الحكومة الجديدة، وتصريحاته التي تعكس وجود رغبة حقيقية في تبني نهج مغاير لرسم معالم خارطة العلاقات، وقناعات تركية يونانية متزايدة بفوائد إنهاء أسباب الخلاف وعلى الدور الذي سيلعبه شغتاي أرجياس سفير تركيا الجديد في أثينا والخبير في القانون الدولي ومسائل النزاعات البحرية.
بعض الوقت ونعرف إذا ما كانت زيارة أردوغان للعاصمة اليونانية ستكون كافية لتحريك الجمود وإبعاد البلدين عن سياسات ومواقف حافة الهاوية، وما إذا كانت هناك رغبة يونانية حقيقية في فتح صفحة جديدة من العلاقات.