قامت الجهات الفاعلة في العراق، ولبنان، ومنطقة البحر الأحمر، بتصعيد الأمور في المنطقة، مما أدى إلى تفاقم المخاوف بشأن نشوب صراع إقليمي أوسع نطاقاً وتأثيرات اقتصادية أكثر خطورة.
جلب العام الجديد معه خطراً لم يسبق له مثيل يتمثل في توسيع نطاق الحرب في غزة. فمن بغداد إلى بيروت إلى البحر الأحمر، تكثفت التهديدات التي كانت محدودة سابقاً من قبل الميليشيات التابعة لإيران.
ومنذ اندلاع الحرب بين إسرائيل و”حماس”، سعت واشنطن في المقام الأول من خلال عمليات الانتشار البحري القوية إلى ردع هؤلاء الوكلاء عن المشاركة في الصراع. ومع ذلك، بعد ثلاثة أشهر من القتال في غزة، أدت العمليات الجريئة المتزايدة من قبل الميليشيات وإسرائيل إلى زيادة حدةالتوترات الإقليمية.
وفي الفترة من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الثاني/يناير، مارست إدارة بايدن قدراً كبيراً من ضبط النفس في مواجهة استفزازات الميليشيات. وعلى الرغم من تهديد هذه الميليشيات المدعومة من إيران في لبنان والعراق، إلا أنها توخت الحذر أيضاً.
ورغم تكبُّد “حزب الله” خسائر فادحة، إلّا أنه ركز هجماته على شمال إسرائيل، بهدف تجنب اندلاع حرب واسعة النطاق. وفي غضون ذلك، استهدفت “قوات الحشد الشعبي” في العراق، كعادتها، أفراد أمريكيين، ولكن بطريقة مصممة على ما يبدو لتقليل الخسائر الأمريكية. وقامت إسرائيل أيضاً بتخفيف ردودها على الهجمات غير المبررة لـ “حزب الله” على طول الحدود اللبنانية، حتى مع استمرارها في عملياتها الجوية المعتادة الآن في سوريا.
وكان الحوثيون في اليمن هم الاستثناء الوحيد من بين الوكلاء، حيث أطلقوا عشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل. كما استهدفوا عشرات من سفن الحاويات في المياه الدولية، مما أدى إلى تعطيل التجارة العالمية.
وفي هذه الحالة أيضاً كان رد الفعل الأمريكي منضبطاً نسبياً. فبدلاً من الرد بشكل مباشر ضد ميليشيا الحوثي، اختارت الولايات المتحدة استراتيجية دفاعية، ونشرت قوات بحرية لإسقاط المقذوفات الموجهة نحو إسرائيل وتشكيل تحالف “حارس الازدهار” الذي يضم أكثر من 20 دولة لتأمين ممرات الشحن.
وربما تكون المقاربة التي اتبعتها الولايات المتحدة قد ساعدت على احتواء الحرب لبضعة أشهر. ولكن في الأسابيع الأخيرة، ربما كان من المحتم أن ترتفع حدة الوضع في العراق ولبنان والبحر الأحمر. وفي حين أن الحرب ليست مؤكدة، إلا أنه يبدو الآن على الأرجح حدوث المزيد من النشاط العسكري في المنطقة خارج غزة.
منذ تشرين الأول/أكتوبر، جرى استهداف الأفراد العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين في العراق بأكثر من 120 هجوماً من قبل “الحشد الشعبي”. ولم يكن من المستغرب عدم اتخاذ الحكومة العراقية – وهي شريكة في التحالف مع العديد من هذه الميليشيات – أي خطوات لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين أو القوات العسكرية الموجودة في العراق كجزء من التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” بدعوة من الحكومة. وحتى وقت قريب، وفي محاولة لتهدئة التصعيد، قامت الولايات المتحدة عموماً بالانتقام من هذه الميليشيات في سوريا بدلاً من العراق.
وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر وأوائل كانون الأول/ديسمبر، في أعقاب سلسلة من الهجمات، رفعت واشنطن الرهان واستهدفت “قوات الحشد الشعبي” في بلدة “جرف الصخر” العراقية. ثم، في 4 كانون الثاني/يناير، قتلت الولايات المتحدة قائداً كبيراً في “حركة النجباء”، وهي ميليشيا “الحشد الشعبي” الأكثر نشاطاً المناهضة للولايات المتحدة والمدعومة من إيران. ومنذ بدء الحرب في غزة، كانت الحركة مسؤولة عن ما يقرب من 70٪ من جميع الهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا.
وكان القتل المستهدف لمسؤول “حركة النجباء” في وسط بغداد هو الإجراء الأمريكي الأكثر حزماً في العراق منذ مقتل القائد في “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني عام 2020. وتوعدت الحركة بالانتقام.
كما أن الصراع الراهن متوسط الشدة على طول الحدود بين إسرائيل ولبنان قد يتصاعد قريباً أيضاً. وفي أعقاب هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وعد المسؤولون الإسرائيليون علناً بـ “ملاحقة” كل عضو مسؤول عن ذلك الهجوم. وبعد ثلاثة أشهر من الحرب في غزة، لم تنجح قوات “الجيش الإسرائيلي” بعد في القبض على أي من كبار قادة “حماس” أو قتلهم.
ومع ذلك، في 2 كانون الثاني/يناير، اغتالت إسرائيل نائب زعيم “حماس” صالح العاروري. وتجاوزت عملية القتل، التي نفذتها طائرة مسيّرة في بيروت، الخط الأحمر الذي عبّر عنه زعيم الحزب حسن نصر الله، وهو استهداف قيادات “المقاومة” في لبنان
ولا شك أن الاغتيال، الذي وقع بينما كان العاروري تحت حماية “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت – وهي منطقة يسيطر عليها الحزب عن كثب – كان مصدر إحراج لنصر الله. ففي خطاب ألقاه في 3 كانون الثاني/يناير، وصف الأمين العام للحزب العملية بأنها “جريمة خطيرة”. وفي حين أشار نصر الله إلى أن الضربة الإسرائيلية لن تغير بالضرورة نهج “حزب الله” وتؤدي إلى حرب شاملة، إلا أنه وعد بالرد عليها. ومن المحتمل أن تمثل طبيعة هذا الرد درجة أخرى من درجات سلم التصعيد.
ومما زاد الطين بلة أنه في اليوم التالي، في 3 كانون الثاني/يناير، أدت الغارات الإسرائيلية إلى مقتل تسعة من أعضاء “حزب الله” في جنوب لبنان. ومن بين القتلى قائد محلي في الناقورة أصيب في مقر قيادة الحزب في المنطقة.
وأخيراً، قد يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو التطورات في البحر الأحمر، حيث تضر مضايقات الحوثيين للشحن البحري بالاقتصاد العالمي. وحتى الآن، هاجم الحوثيون 25 سفينة حاويات في البحر الأحمر، مما دفع 18 شركة شحن إلى تغيير مسارها حول رأس الرجاء الصالح.
وبالإضافة إلى الارتفاع الكبير في أجور النقل في الحاويات وإبطاء تسليم البضائع وعرقلة سفن الشحن المتجهة إلى ميناء إيلات جنوب إسرائيل – والذي شهد انخفاضاً في النشاط بنسبة 85 في المائة في الأيام الأخيرة – أدى التعطيل إلى انخفاض بنسبة 28 في المائة من إيرادات قناة السويس لمصر، حليفة الولايات المتحدة، التي تواجه بالفعل أزمة اقتصادية حادة.
إن بناء إدارة بايدن لتحالف أمني بحري وإسقاطها المتكرر للطائرات المسيرة والصواريخ، لم يثن الحوثيين عن أنشطتهم. وبسبب إحباط الولايات المتحدة من إصرار الحوثيين، أغرقت القوات البحرية الأمريكية في 31 كانون الأول/ديسمبر ثلاث سفن تابعة للحوثيين وقتلت عشرة من رجال الميليشيات أثناء محاولتهم الصعود على متن سفينة حاويات ترفع علم سنغافورة واختطافها.
وبعد بضعة أيام، في 3 كانون الثاني/يناير، أصدرت الولايات المتحدة واثنا عشرة دولة أخرى إنذاراً مكتوباً للحوثيين، جاء فيه: “سيتحمل الحوثيون مسؤولية العواقب إذا استمروا في تهديد الأرواح والاقتصاد العالمي والتدفق الحر للتجارة في الممرات المائية الحيوية في المنطقة”. إلّا أن ذلك لم يزعج الحوثيين، وفي 4 كانون الثاني/يناير، أفادت بعض التقارير عن انفجار قارب بدون طيار تابعاً للحوثيين محملاً بالمتفجرات في البحر الأحمر.
وكما هو الحال مع “الحشد الشعبي” و”حزب الله”، يبدو أن المسار مع الحوثيين يتحرك في اتجاه خطير. فكيف ينبغي للولايات المتحدة أن تتعاملمع هذا التحدي؟
في الخطاب الذي ألقاه حسن نصر الله في 3 كانون الثاني/يناير بمناسبة الذكرى الرابعة لقيام الولايات المتحدة باغتيال القائد في “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني، وصف هذه الجماعات بأنها “محور المقاومة”. وأشار نصر الله إلى أن سليماني “كان الشخصية المحورية في هذه العلاقة”. وتابع موضحاً أن سليماني حقق هذا الارتباط العملياتي “من خلال تسهيل الاجتماعات والتواصل والتعاون والتنسيق وتبادل الخبرات والآراء، وامتلاك رؤية استراتيجية للمنطقة بأكملها وللصراع في المنطقة”. وأضاف، “كان هذا عمله”.
وفي حين أن الدور التكتيكي اليومي لإيران مع هذه الجماعات لا يزال غامضاً، فليس هناك شك في أن طهران تواصل تقديم الدعم والتوجيه الاستراتيجي لوكلائها لشن حرب الظل هذه. وإذا كانت واشنطن وشركاؤها الإقليميون والدوليون يأملون دائماً في احتواء هذا المحور أو دحره، فسيتعين عليهم التركيز على الراعي وليس فقط على عملائه.
ديفيد شينكر