صعود قوى اليمين المرن في إسرائيل
لطالما واجه المراقبون الأجانب صعوبة في فهم السياسة الإسرائيلية المعقدة ومتابعة التقلبات والمنعطفات في السياسة الخارجية للدولة اليهودية، ولكن ما من شيء في التاريخ السياسي الإسرائيلي أثار الدهشة مثل صعود بنيامين نتنياهو، الذي تفوق بشكل غير متوقع على شيمون بيريز زعيم حزب العمل في انتخابات عام 1996. وعلى رغم هامش الفوز الضئيل الذي حققه نتنياهو، والأخطاء الدبلوماسية المتكررة، وانحراف عملية السلام التي تحظى بدعم كبير من الإسرائيليين –نحو 60 في المئة منهم يؤيدون اتفاقات أوسلو وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجراها معهد تامي شتاينماتز للسلام بجامعة تل أبيب– فإن من المتوقع أن يفوز رئيس وزراء حزب الليكود الشاب بولاية ثانية. ولا شك في أن استمرار شعبية نتنياهو تمثل المفارقة الكبرى في السياسة الإسرائيلية اليوم.
إن المفتاح لحل لغز نتنياهو هو التكوين الجديد للقوى الداخلية التي سمحت له بحكم البلاد بشكل مريح وارتكاب أخطاء في السياسة الخارجية مع الإفلات من العقاب الانتخابي. ويعتمد نتنياهو اليوم على تحالف محافظ يضم ثلاث قوى رئيسة: اليمين القومي الإسرائيلي، ويمينها المتطرف، ويمينها المرن. تشكل المجموعتان الأوليان منذ فترة طويلة جزءاً من المشهد السياسي في إسرائيل. أما الجديد فهو اليمين المرن، وهو مزيج غريب من اليهود الأرثوذكس المتشددين والمهاجرين العلمانيين من الاتحاد السوفياتي السابق، الذي يسمح نفوذه الجديد لنتنياهو بتحدي قوانين السياسة.
الحال التي كنا عليها
منذ عام 1977، عندما خسر حزب العمل الانتخابات للمرة الأولى على الإطلاق أمام حزب الليكود، انقسمت الخريطة السياسية الإسرائيلية إلى معسكرين أيديولوجيين كبيرين وشبه متساويين، بينهما استقطاب حول مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي حين كان حزب العمل، بقيادة إسحق رابين وشيمون بيريز، يدعو إلى الاعتدال والتسوية الإقليمية، اتبع حزب الليكود بقيادة مناحيم بيغن وإسحق شامير أجندة متشددة، وحثوا على الاستيطان وضم الأراضي المحتلة في نهاية المطاف. وفي الوسط كان هناك معسكر أصغر حجماً من اليهود الأرثوذكس المتشددين الذين لا يهتمون كثيراً بالأراضي أو بالفلسطينيين بقدر ما يهتمون بسخاء الحكومة. تقول الحكمة السياسية التقليدية إن الحزب الذي سيفوز في الانتخابات سيحصل تلقائياً على دعم اليهود المتشددين، مما يمنحه الأصوات لتشكيل ائتلاف. وفي حين سيطر حزب الليكود والأحزاب التابعة له في أقصى اليمين على السياسة الوطنية منذ عام 1977، فإن جاذبية رابين باعتباره رجلاً عملياً ذا عقلية أمنية أدت إلى عودة حزب العمل إلى السلطة في عام 1992. وقد أتاحت هذه العودة إبرام اتفاقات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك معاهدة سلام رسمية مع الأردن.
وقد حفزت حرب الأيام الستة عام 1967 اليمين الإسرائيلي، حيث استولت إسرائيل على الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن، وقطاع غزة وسيناء من مصر، ومرتفعات الجولان من سوريا. ومنذ ذلك الحين، ما انفك اليمين الإسرائيلي يتألف من قسمين رئيسين: اليمين القومي العلماني، الذي يتجسد في حزب الليكود بزعامة بيغن وشامير، واليمين المتطرف، الذي يقوده المستوطنون في الأراضي المحتلة. لقد مثل حزب الليكود تقليدياً السياسة البراغماتية والبرلمانية للمتطرفين في شأن توسيع الأراضي الإسرائيلية. ولا شك في أن أحزاباً مثل موليدت وتسوميت والحزب الديني الوطني، فضلاً عن غوش إيمونيم، الذراع الرئيسة للمستوطنين، وحركة كاخ المناهضة للعرب تعبر عن هؤلاء المتطرفين بشكل واضح. فاليمين المتطرف أكثر تشدداً بكثير من حزب الليكود، ويميل إلى السياسات خارج البرلمان والعمل خارج نطاق القانون، بما في ذلك بناء المستوطنات غير القانونية والعنف.
على مدى سنوات عديدة، كان الجدل الكبير الدائر بين اليمين واليسار في شأن الأراضي غير ذي صلة كبيرة بالمعسكر الثالث في السياسة الإسرائيلية، وبالأحزاب الأرثوذكسية المتشددة مثل أغودات يسرائيل، وديغيل هاتوراه، وحزب شاس الأكثر واقعية. لم يقبل الأرثوذكس المتشددون بالأيديولوجية الصهيونية العلمانية المؤسسة لإسرائيل قط، على عكس الصهاينة الأرثوذكس مثل الحزب الديني القومي، لأنهم يعتقدون أن السيادة اليهودية يجب أن تنتظر حتى مجيء المسيح [اليهود ما زالوا ينتظرون مجيء المسيح الأول]. وبدلاً من ذلك، فإن هؤلاء الأرثوذكس المتشددين، الذين لا يخدمون في الجيش الإسرائيلي، لديهم موقف حاسم تجاه الدولة -فهم يقبلون أموالها ولكن ليس شرعيتها– ولديهم عدم اكتراث واضح بالقضايا الوطنية الأساسية مثل الحرب والسلام والأراضي والفلسطينيين. واقتناعاً منهم بأن كل هذه المشكلات “البسيطة” سيتم حلها في العصر المسيحاني [حيت يأتي المسيح المخلص]، ركز الأرثوذكس المتشددون بشكل حصري على رفاهية ناخبيهم وازدهار المدارس الدينية أو اليشيفا. ومن خلال اللعب بدهاء مع حزبي العمل والليكود على مبدأ أنهم فئة “صعبة المنال”، تخصص الأرثوذكس المتشددون -سواء من الأشكناز ذوي الأصول الأوروبية الشرقية أو السفارديم، وهم اليهود من الشرق الأوسط- منذ فترة طويلة في دفع التشريعات التي تكرس احتكارهم للشؤون الدينية والحصول على إعانات حكومية كبيرة لمجتمعاتهم ومدارسهم الدينية.
دخول اليمين المرن
ومع ذلك، فقد شهدت السياسة الإسرائيلية بهدوء تحولاً كبيراً. وكما بيَّنت انتخابات عام 1996، فإن المعسكر الأرثوذكسي المتشدد تحرك بشكل حاسم نحو اليمين، ويقدم الآن دعماً تلقائياً واضحاً وبشكل حصري لمرشح حزب الليكود لمنصب رئيس الوزراء. ويمكن وصف هذا المعسكر الجديد بدقة بأنه “يمين ناعم أو معتدل” لأن الأرثوذكس المتشددين لديهم موقف يميني خاص أكثر استسلاماً بكثير من موقف يمين الليكود التقليدي. فاليمين المرن عبارة عن ائتلاف فضفاض يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة: الأشكناز الأرثوذكس المتشددون والسفارديم الأرثوذكس المتشددون والمهاجرون العلمانيون من الاتحاد السوفياتي السابق. وتسيطر أحزاب اليمين المرن مجتمعة على 21 مقعداً من أصل 120 مقعداً في الكنيست، البرلمان الإسرائيلي.
ولم يكن تحول الأرثوذكس المتشددين باتجاه اليمين أيديولوجياً ولا لاهوتياً. ولم يغير أي من حاخامات اليهود المتشددين موقفه من الأصول الهرطوقية لدولة إسرائيل أو عبادة المستوطنين لأرض إسرائيل أو حلم وصول المسيح. ويرى الحكماء، كما كانوا دائماً، أن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية لا معنى لها. إنهم يتناولون مسألة ما إذا كان ينبغي الاحتفاظ بالأراضي أو التفاوض على عودتها فقط من خلال مبدأ “بيكواخ نيفيش”، وهو المبدأ في الشريعة اليهودية الذي ينص على أن إنقاذ الأرواح هو الالتزام الأسمى على عاتق المرء، من ثم قد يكونون على استعداد لدعم تسوية حول الأراضي من شأنها أن تؤدي إلى تجنب إراقة الدماء. لقد كانت حركة اليهود الأرثوذكس المتشددين تجاه اليمين القومي واليمين المتطرف عاطفية في المقام الأول، وكانت مبنية على العداء المتبادل تجاه العرب واليسار الإسرائيلي الملحد. وإذا كان اليمين التقليدي قد اعتمد في الأغلب على موضوعات إيجابية مثل السيطرة على “أرض إسرائيل الكبرى”، وبناء المستوطنات، وتوسيع حدود إسرائيل، فإن موضوعات اليمين المرن هي في الأغلب سلبية. ويتمثل رصيدهم من ذلك في تبادل في انعدام الثقة الشديد والعداء تجاه العرب، وعلى نفس القدر من السوء تجاه “المتعاونين” اليهود العلمانيين في اليسار الإسرائيلي.
اقرأ المزيد
بايدن ينهي مكالمة مع نتنياهو ولم يتصل به منذ 20 يوما
الأمم المتحدة تندد بحرب “تلطخ الإنسانية” في غزة ونتنياهو: لا أحد سيوقفنا
هل أصبح نتنياهو عقبة أمام حلفائه الغربيين؟
نتنياهو و”حماس” يتصوران اليوم التالي للجحيم
ويتمثل العنصر الأكثر عدوانية داخل اليمين المرن بالناشطين السياسيين، وهم مئات الشباب الذين يدعمون نتنياهو بحماس جامح. وهذا الجيل من الناشطين، الذي أصبح الآن في أواخر العشرينيات أو الثلاثينيات من عمره، بات يهيمن تدريجاً على الأجندة السياسية لحركاته، واجتذب دعماً شعبياً متزايداً، بل ومن المدهش أنهم جعلوا حاخاماتهم المسنين يتبعون قيادتهم السياسية. ومع انتقال النشطاء من الوسط إلى اليمين، تبعهم عدد كبير من الناخبين المتشددين والمحافظين. ويستطيع نشطاء اليمين المرن الوصول إلى ما بين 15 و20 في المئة من الناخبين الإسرائيليين، على رغم أنهم لا يسيطرون عليهم بأي حال من الأحوال. تشمل المجموعات المرتبطة باليمين الديني المرن جيل الشباب من أغودات يسرائيل وديغيل هاتوراه وحركة حباد لوبافيتش وشاس (الحزب الأرثوذكسي المتشدد السفاردي)، وعديداً من الحاخامات السفارديم المنخرطين في حركة “بالي تشوفا” (المتدينين حديثاً أو اليهود “المولودين من جديد”).
توليد الحركة
يعد اليمين المرن نتاجاً لعديد من العمليات السياسية والثقافية التي حدثت على مدى العقدين الماضيين. ونظراً إلى أن هذه الديناميكيات تطورت على هامش المجتمع الإسرائيلي، فقد غابت أهميتها الكاملة عن انتباه المراقبين السياسيين والباحثين إلى حد كبير. وفي ما يلي، باختصار، العناصر الأساسية وراء صعود اليمين المرن.
التفاعل بين غوش إيمونيم والمدارس الدينية الأرثوذكسية المتشددة
منذ أوائل الثمانينيات، كان هناك تبادل مثير للاهتمام بين المدارس الدينية الصهيونية الدينية في غوش إيمونيم، وهي المجموعة الاستيطانية الرئيسة، والمعلمين الأرثوذكس المتشددين المناهضين للصهيونية، الذين قامت المدارس الدينية بتجنيدهم لتعليم الهالاخاه أو الشريعة اليهودية. وعلى رغم من أن عدداً قليلاً من الأفراد المعنيين غيروا معتقداتهم الأساسية، فقد اكتشف الجانبان قاسماً مشتركاً: نظرتهما إلى العرب واليسار باعتبارهما عدوين لدودين. وقد اجتذب هذا التشابه مزيداً من النشطاء الأرثوذكس المتطرفين إلى السياسة اليمينية.
جر الطلاب الأرثوذكس المتشددين إلى “الكاهانية”
منذ عام 1977، وهو العام الذي فاز فيه الليكود بالسلطة لأول مرة، نمت المدارس الدينية الأرثوذكسية المتشددة بصورة كبيرة بسبب العدد المتزايد من الطلاب المعفيين من الخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي لأنهم يرغبون في تكريس حياتهم لدراسة الشريعة اليهودية. أنتج معدل الالتحاق المرتفع عديداً من الطلاب الهامشيين الذين لم يكونوا مستعدين لدراسات الهالاخاه الصارمة. لقد جرى استهداف هؤلاء الشباب المتدينين المضطربين وذوي الطاقات الكبيرة بذكاء من قبل الفاشيين من أتباع الحاخام الراحل مائير كاهانا، وهو المتطرف من بروكلين الذي حرَّض على العنف ضد العرب. انجذب عديد من هؤلاء الطلاب الهامشيين إلى الثقافة الكاهانية المنبثقة من مبدأ العنف “باسم الله” وسياسات اليمين المتطرف العدوانية.
تسييس حركة حباد
كانت إحدى شرائح الأرثوذكسية الإسرائيلية المتطرفة – حباد، وهم أتباع الحاخام الراحل مناحيم مندل شنيرسون في نيويورك من الحسيديين – قريبة منذ فترة طويلة من اليمين الإسرائيلي. منذ أن استولت إسرائيل على الضفة الغربية عام 1967، أصر الزعيم الروحي الموقر لحباد مراراً وتكراراً على قدسية أرض إسرائيل بأكملها، بما في ذلك الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها حديثاً. ومع ذلك، شددت حباد لسنوات عديدة على مهمتها التعليمية غير الحزبية. لكن اشتداد الصراع الأيديولوجي الإسرائيلي على المناطق أدى إلى جر الحركة تدريجاً إلى السياسة، مع انحياز يميني ملحوظ ومتزايد. وقد بلغ هذا التسييس ذروته عام 1996، عندما تدفقت أموال حباد على حملة نتنياهو، التي عززها مئات الناشطين المتحمسين. وقد أوضح أحد ملصقات حباد سيئة السمعة عداء الحركة المناهض للعرب واليسار من خلال إعلان “نتنياهو: جيد لليهود”.
صعود حزب شاس
منذ تأسيسها عام 1984، كانت الحركة الدينية السفاردية المعروفة باسم شاس هي الحزب الأكثر ديناميكية في السياسة الإسرائيلية. إن شاس عبارة عن مزيج فريد من التقوى الأرثوذكسية المتشددة والبراغماتية الدنيوية، وحتى الفساد في كثير من الأحيان. واستلهاماً من الشعور طويل الأمد بالتمييز ضد السفارديم على أيدي النخب الأشكنازية المؤسسة لإسرائيل، وتأثراً بهيبة عديد من الحاخامات السفارديم الشباب، والكاريزما التي يتمتع بها مؤسس الحركة، الحاخام الأكبر السابق للسفارديم عوفاديا يوسف، قام الحزب باستمرار بسحب أصوات السفارديم بعيداً من الليكود، محط امتعاض السفارديم الرئيس حتى ذلك الوقت. ومن المعروف عن حاخامات شاس موقفهم الحمائمي تجاه عملية السلام، التي يقولون إنها ستنقذ الأرواح، ولكن بما أن أرض إسرائيل لم تكن على قائمة أولويات شاس، فقد سمح حاخامات الحزب لعديد من الناشطين بدعم اليمين علناً. وتزايد تقارب شاس مع الليكود وحلفائه اليمينيين فقط بسبب المواقف المناهضة لرجال الدين من جانب عديد من الليبراليين الإسرائيليين، وبخاصة من حزب ميريتس ذي الميول اليسارية. إن توجيه الاتهام لعدد من قادة شاس الفاسدين، أخيراً، من قبل نظام العدالة العلماني في إسرائيل -ناهيك بالمشكلات القانونية الطويلة الأمد التي يواجهها أرييه درعي، زعيم الحزب- لم يؤدِ إلا إلى تعزيز شعور الحزب بالاضطهاد والمشاعر المناهضة لليسار.
نمو حركة “المولود من جديد” السفاردية
وهناك جانب آخر من ردود الفعل العنيفة ضد الأشكناز، الذي يتوازى مع صعود حزب شاس، وهو الانجذاب المتزايد لليهود السفارديم إلى الأرثوذكسية. تشكل حركة التشوفا (التوبة) التي انتشرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي على يد مجموعة من الحاخامات الشباب ذوي الشخصية الكاريزمية، اتجاهاً ثقافياً مهماً في مناطق التطوير والأحياء الفقيرة الحضرية في إسرائيل، زاعمة وجود عشرات الآلاف من المهتدين كلياً أو جزئياً. وعلى رغم أنها ليست سياسية بشكل واضح، فقد أعربت حركة “المولود من جديد” عن مواقف سياسية قوية، بما في ذلك الهجمات العدوانية على المحكمة العليا الليبرالية في إسرائيل وتصوير الفلسطينيين -سكان الأراضي المحتلة والمواطنين العرب في إسرائيل على حد سواء- على أنهم ألد أعداء الأمة. ووصف الليبراليين الإسرائيليين، من الأشكناز في المقام الأول، بأنهم متآمرون مع العرب.
وبدافع من كل هذه العوامل، نما اليمين المرن ببطء على مدار ما يقارب عقدين من الزمن. لكن حكومة حزب العمل-ميريتس في الفترة 1992-1996، مع ما بدا وكأنه أجندة سياسية وتشريعية مناهضة لرجال الدين، أيقظت هذه القوة الكامنة. وأدت الحملة اللاذعة التي شنها اليمين المتطرف ضد اتفاقات أوسلو إلى تأجيج الوضع. ومن خلال التركيز بذكاء على “التحالف غير المقدس” بين رابين وبيريز وعرب إسرائيل -“الشركاء السريين” المزعومين لياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية- نجح اليمين المتطرف الإسرائيلي في تعبئة اليمين المرن. وكان لموجة الإرهاب الانتحاري التي ارتكبها إسلاميو “حماس” تأثير مدمر على النفسية الإسرائيلية، حيث عززت هذا التحالف العاطفي ومهدت الطريق لانتصار نتنياهو.
الجناح اليميني الروسي
ولولا الدعم الساحق من يهود الاتحاد السوفياتي السابق الذين هاجروا إلى إسرائيل منذ عام 1990، لم يكن نتنياهو ليحلم بفوزه بالانتخابات. وأصبح اليهود الروس، الذين يشكلون أكثر من 10 في المئة من الناخبين الإسرائيليين، عاملاً رئيساً في سياسة البلاد، وقد صوَّت 65 في المئة منهم لصالح نتنياهو عام 1996. وعلى رغم علمانيتهم المنتشرة وعدائهم تجاه الأرثوذكسية المتشددة، فإن الروس يتشاركون المشاعر اليمينية مع بقية قوى اليمين المرن. لا يستطيع معظم الإسرائيليين الروس التسامح مع خطاب اليسار بسبب ذكرياتهم المؤلمة عن الاتحاد السوفياتي. وبعد تعرضهم لمعاداة السامية الشديدة، فإن عديداً من هؤلاء المهاجرين غير الآمنين يشتركون مع الأرثوذكس المتشددين على نطاق واسع في عدم الثقة بالعرب. وفي حين أن الروس، على عكس اليهود الأرثوذكس المتشددين، ليس لديهم مستوى من الناشطين الشباب الذين يملون أجندتهم السياسية، فإن توجهاتهم اليمينية تتغذى باستمرار من خلال عديد من الصحف اليومية المحافظة المطبوعة بلغتهم الأم. والواقع أن الصحافة الروسية في إسرائيل تشكل العنصر الموحد لمجموعة شديدة التنوع.
ومع علمانيتهم، وعدم تجانسهم، والعدد الكبير لبلدانهم الأصلية، فإن يهود الاتحاد السوفياتي السابق يشكلون الجزء الأكثر ليونة من اليمين المرن. من الممكن أن يكون السلوك الانتخابي الروسي عملياً إلى حد كبير. إن دعمهم لحزب العمل عام 1992 ثم تحولهم بالجملة إلى دعم الليكود عام 1996 يشير إلى مرونة لا تتوافق مع النزعة العقائدية المحافظة. ويسلط صعود حزب “يسرائيل بعليا”، الحزب الجديد الناجح الذي أسسه ناتان شارانسكي، المنشق السوفياتي السابق، الضوء على المزيج الروسي الذي يجمع بين الميول اليمينية والواقعية السياسية. شارانسكي، الرافض السابق الشهير [مصطلح غير رسمي للأفراد، الذين كانوا عادة ولكن ليس حصرياً من اليهود السوفيات، من الذين جرى رفض منحهم الإذن بالهجرة للخارج من جانب السلطات السوفياتية] الذي يشارك نتنياهو في فلسفته السياسية، بالكاد تناول القضايا الوطنية الكبرى –أوسلو والفلسطينيين– في حملته الانتخابية عام 1996، ومع ذلك فاز بسبعة مقاعد. كان مشروع “يسرائيل بعليا” عملاً تجارياً بحتاً، حيث دعا الناخبين الروس إلى انتخاب أعضاء الكنيست الخاصين بهم للحصول على حصة أكبر من الإنفاق الاجتماعي في إسرائيل. وعلى رغم أن خطابهم يظل محافظاً، فإن الروس ليسوا في جيب أحد. وسيتعين على نتنياهو أن يعمل بجد للحفاظ على ولائهم.
نتنياهو والسياسة الجديدة
كان اليمين المرن ليتحول إلى عنصر حيوي في السياسة الإسرائيلية حتى من دون الإصلاحات الانتخابية الدراماتيكية التي جرت عام 1996، والتي نصت على الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء. وعلى نحو مماثل، ربما كان نتنياهو ليتمكن من هزيمة بيريز حتى في ظل النظام الانتخابي القديم، الذي كان الكنيست بموجبه ينتخب رئيس الوزراء. ومع ذلك، فقد عززت إصلاحات عام 1996 اليمين بصورة عامة واليمين المرن بشكل خاص.
والأمر الأكثر أهمية هو أن النظام الانتخابي الجديد عزز اليمين المرن من خلال إرغام الحاخامات الأرثوذكس المتشددين المناهضين للصهيونية على الاختيار بين اثنين من المرشحين الصهاينة لمنصب رئيس الوزراء، وهو قرار لم يكن من الممكن تصوره في السابق. قبل عقد من الزمن، ربما كان الحكماء منقسمين بين حزبي العمل والليكود، ولكن من المدهش أنهم لم يترددوا كثيراً عام 1996. إن التهديد بتشكيل حكومة أخرى مناهضة لرجال الدين من حزبي العمل وميريتس، والجاذبية المتزايدة لليمين بين نشطائهم الشباب، جعل نتنياهو المرشح بلا منازع لجميع الحاخامات الأرثوذكس المتطرفين. ومن المفارقة أن انتصار نتنياهو ـ انتخاب رئيس وزراء غير ملتزم دينياً وممارس للزنا باعترافه. أصبح، على نحو متناقض، انتصارهم. وبمباركة حاخاماتهم الذين يحظون بالاحترام، أصبح نشطاء اليمين المرن الورقة الرابحة لحزب الليكود. من خلال القيام بحملات ليل نهار في كل حي يهودي متطرف، حقق قادة اليمين المرن الشباب نتائج كانت ستثير إعجاب قادة جمعية تاماني هول [ذراع سياسية للحزب الديمقراطي الأميركي]. ومن بين الأشكناز الأرثوذكس المتشددين الذين صوتوا في عام 1996، أدلى 95 في المئة بأصواتهم لصالح نتنياهو.
وكان رئيس الوزراء الجديد ممتناً لليمين المرن الذي أعطاه أصواته، لكنه سارع إلى إدراك الثمن المنخفض لدعمه المستمر. ويعرف نتنياهو، الذي يتمتع بمهارات تواصل ممتازة، أن هذه الدائرة الانتخابية العاطفية مفتونة بالخطاب الشوفيني والهجمات على الإرهاب العربي. وعندما تندلع أزمة مع الفلسطينيين أو “حزب الله” أو إدارة كلينتون أو “المتعاطفين العرب” المزعومين في أي مكان، يهرع نتنياهو المحارب نحو الكاميرات. وكان النجاح المذهل لهذه الاستراتيجية الإعلامية واضحاً بعد أن فشل الموساد في محاولة اغتيال أحد قادة “حماس” في عمان بالأردن العام الماضي. تحت انتقادات حزب العمل والولايات المتحدة والملك حسين الغاضب، قال نتنياهو لليمين المرن بالضبط ما يرغبون في سماعه: إنه، بغض النظر عن الأخطار السياسية، سيواصل مطاردة الإرهابيين أينما كانوا وإن أمن الإسرائيليين سيبقى همه الوحيد. وفي مناسبة أخرى، في اجتماع مع حاخام قبالي سفاردي مسن، استدرج نتنياهو مرة أخرى مشاعر اليمين المرن. وفي لحظة لم يدرك فيها أن الصحافيين كان بإمكانهم سماعه، همس رئيس الوزراء بأن اليساريين الإسرائيليين نسوا كيف يكونون يهوداً ولا يمكن أن يعهد إليهم بأمن البلاد لأنهم على استعداد لقبول العرب الإسرائيليين كشركاء في الحكومة. وعلى رغم الانتقادات المتزايدة في الصحافة، ظل دعم نتنياهو قوياً في استطلاعات الرأي.
كما أصبح اليمين المرن بمثابة حزام الأمان لنتنياهو ضد منتقديه في حزب الليكود. منذ انتخابه، نجح رئيس الوزراء في تنفير عدد مثير للقلق من زملائه في حزب الليكود. ويرجع ذلك جزئياً إلى النجاح غير المسبوق الذي حققه رجل أصغر سناً في الاستيلاء على مقاليد الحزب من السياسيين المخضرمين مثل آرييل شارون، وديفيد ليفي، وإيهود أولمرت، ودان مريدور، وجزئياً بسبب أخطائه السياسية المتكررة، فقد أصبح نتنياهو هدفاً لمشاعر العداء الشديد من حزب الليكود. وكان الرحيل الصريح لمريدور وليفي وبنيامين زئيف بيغن -نجل مناحيم بيغن، مؤسس الليكود- من حكومة نتنياهو سبباً في تقويض سلطته. علاوة على ذلك، فشل نتنياهو في كسب احترام اليمين المتطرف والمستوطنين. وبينما يستفيدون من كراهية حكومة نتنياهو لأوسلو، فإن عديداً من المستوطنين يعتبرون رئيسها انتهازياً غير أمين. وبدعم من اليمين المرن، الذي إما يتجاهل مثل هذه الانتقادات صراحة أو ينظر إليها على أنها مجرد “اقتتال داخلي بين الأشكناز”، يتمكن نتنياهو من الحفاظ على دعم شعبي قوي وإقناع منتقديه من اليمين بأنه لا يزال أفضل لاعب على الإطلاق. وفي عصر التلفزيون والسياسة الافتراضية، يشكل اليمين المرن رصيداً عظيماً لزعيم من طراز نتنياهو.
ولكنه مرن
إن السؤال السياسي الأكثر أهمية حول اليمين المرن ليس ما إذا كان نموه سيستمر -بل سيستمر- ولكن ما إذا كان هذا التوسع سيضمن فوز نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة وانحراف عملية السلام بقيادة الليكود من دون انقطاع. ومن الأهمية بمكان أن اليمين المرن ليس يمينياً فحسب، بل هو مرن أيضاً. وهذا يعني ضمناً التزاماً ضعيفاً بالقيم الأساسية لليمين التقليدي: سلامة أرض إسرائيل بأكملها والتزام “الصهاينة التجديديين” ببناء المستوطنات. ومن هنا فإن اليمين المرن سيبقى موالياً لليكوديين ما دام ثمن ذلك ليس باهظاً. والدعم الروسي لحزب الليكود هش بشكل خاص. فإذا ارتفعت فاتورة دعم الليكود أكثر مما ينبغي، فإن غالبية اليمين المرن لن تتردد في دعم مرشح حزب العمل الذي يتمتع بمؤهلات أمنية على غرار رابين، مثل زعيم الحزب الحالي، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك.
ما الذي قد يجعل اليمين المرن يبدِّل ولاءه؟ السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار تدهور عملية السلام، الذي ينتهي بمواجهة دامية مع الفلسطينيين أو السوريين. من المؤكد أن المتشددين والروس يكرهون العرب ولا يثقون باليسار العلماني، لكنهم ليسوا على استعداد لخوض الحرب بسبب هذه المشاعر. وخلافاً للنواة الصلبة في اليمين الإسرائيلي، المستعدة للقتال من أجل أرض إسرائيل وقبول التضحيات المصاحبة لذلك، فإن معظم الإسرائيليين يعارضون إراقة الدماء من أجل الاحتفاظ بالضفة الغربية أو الحفاظ على مستوطنات غوش إيمونيم. واليمين المرن ينتمي إلى هذه الغالبية. من المرجح بشكل خاص أن تشعر العائلات الأرثوذكسية المتشددة والروسية في الخدمة الفعلية وجنود الاحتياط بالاستياء من أي حكومة تقود الأمة إلى مواجهة عسكرية مكلفة.
ومع ذلك، فإن الدعم الموقت لمرشح حزب العمل ليس هو الخيار الوحيد المتاح لليمين المرن في وقت الأزمات. وهناك اقتراح أكثر جاذبية يتمثل في دعم رئيس وزراء من حزب الليكود – إما نتنياهو أو شخصية أقل تلوثاً مثل أولمرت عمدة القدس الطموح- الذي سيستبق الكارثة المقبلة من خلال قبول التسوية الإقليمية وإقامة سلام معقول. وقد يصبح اليمين المرن جسراً بين المؤيدين العمليين لرئيس الوزراء من الجناح المرن في حزب الليكود ومؤيدي السلام في اليسار. وقد يكون مثل هذا الموقف أفضل لحظات اليمين المرن.