اللعبة من حول غزة تزداد تعقيداً من حيث التصور أنها مضبوطة، وكل طرف يلعب الدور الذي يُعطى له على أساس أنه دوره الطبيعي، و”المايسترو” الإيراني يوزع الأدوار ويحرك الفصائل المرتبطة بالحرس الثوري في “مشاغلة” إسرائيل وأميركا، وهو يلعب تحت الطاولة مع واشنطن في عُمان وأماكن أخرى لترتيب صفقة ترفع عنه العقوبات وتريحه جيوسياسياً، وهم ينزفون دماً ويخسرون على المتاريس وهو يربح في الكواليس.
واللعبة الأخطر يقوم بها الحوثيون في اليمن، لا لأنهم يساعدون “حماس” عبر منع السفن الإسرائيلية وغير الإسرائيلية المتوجهة إلى الدولة العبرية من المرور في باب المندب والبحر الأحمر، بل لأنهم اصطدموا بمصالح العالم عندما تخوفت شركات النقل البحري وامتنعت من المرور في البحر الأحمر وسلكت طريق رأس الرجاء الصالح الطويل بدل طريق قناة السويس القصير.
حتى دولة كبرى لا تستطيع أن تغلق بحراً وتستمر في ذلك من دون مواجهة العالم، فروسيا المنخرطة في حرب على أوكرانيا لم تستطع الاستمرار في منع كييف من تصدير القمح والشعير إلى العالم عبر البحر الأسود، وحين طلب الرئيس جمال عبدالناصر من الأمم المتحدة سحب القوات الدولية من المضائق وقرر منع السفن الإسرائيلية من العبور، فإن الخطوة قادت إلى “حرب 1967” مع إسرائيل التي احتلت سيناء وغزة والجولان والضفة الغربية وأوقعت أكبر هزيمة بالعرب، ذلك أن 15 في المئة من التجارة العالمية تمر في البحر الأحمر، ثمانية في المئة من الغاز المسال و12 في المئة من النفط، وإغلاق البحر الأحمر عملياً أضر بمصالح الدول المشاطئة له مثل مصر والسودان والصومال وجيبوتي والسعودية وإرتيريا والأردن وإسرائيل، كما أضر بمصالح الدول المتأثرة بسلاسل الإمداد بين آسيا وأوروبا، وكان من الوهم التصور أن العالم يكتفي بالمراقبة خصوصاً بعد أن سخر الحوثيون من قرار مجلس الأمن الدولي الذي “يدين الهجمات ويطالب الحوثيين بأن يضعوا فوراً حداً لعرقلة التجارة الدولية وتقويض حقوق الملاحة البحرية وحرياتها وتهديد الأمن والسلم في المنطقة”.
أميركا التي اتهمت إيران بأنها تقدم السلاح والمعلومات للحوثيين تجنبت في البدء توجيه ضربة للمعرقلين لأنها لا تريد حرباً مع طهران ولا إغلاق الباب أمام صفقة معها، ولا عرقلة التفاهم على “خريطة السلام” التي يتم إعدادها بين الرياض وصنعاء، وهي راهنت كما تقول “إيكونوميست” البريطانية على دور صيني مع إيران للتأثير في قرار الحوثيين، وما كانت عُمان خارج الاتكال على دور لها وهي تقليدياً قوة وساطات ومكان محادثات بين أعداء أو خصوم، لكن ازدياد النشاط الحوثي أدى إلى ضربة أميركية – بريطانية تقول واشنطن إنها دمرت ثلث قدرة الحوثيين على استخدام القوة ضد السفن العابرة في البحر الأحمر.
وليست الضربة العسكرية أقل خطراً من لعبة الحوثيين، فلا شيء يوحي أن الحوثيين الذين لديهم نحو 200 ألف مقاتل سيتراجعون عن منع السفن من العبور وقصف السفن العابرة، فهم يدركون أن ورقة فلسطين تزيد شعبيتهم في اليمن، كما أنهم مصرون على إرضاء طهران، والتهديد بقصف السفن الحربية واعتبار المصالح الأميركية والبريطانية في المنطقة “أهدافاً مشروعة” وصفة لضربات أميركية مستمرة، وهذا التصعيد يدفع كل شركات النقل البحري إلى الامتناع من عبور البحر الأحمر وبالتالي يغلق البحر عملياً، وحتى السفن التي تغامر بالعبور محروسة بسفن حربية تابعة لبلدانها فإنها ستتعرض للقصف الذي يؤدي بدوره إلى الرد.
والمفارقة أن قرار الرئيس جو بايدن واجه انتقادات في أميركا من اتجاهين متعاكسين، فخبراء وديمقراطيون قالوا إن الأفضل هو البحث عن حل دبلوماسي مع الاستمرار في إسقاط الصواريخ والمسيرات الحوثية بدل مهاجمة القواعد في اليمن، وجمهوريون قالوا للرئيس “لماذا تأخرت شهراً في ضرب الحوثيين؟”، أما الدول المشاطئة للبحر الأحمر فإنها دعت إلى “ضبط النفس” وطالبت بتنفيذ القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن، ولا أحد يعرف كيف تنتهي اللعبة الخطرة من طرفين ما دامت حرب غزة مستمرة، والسؤال هو متى يدرك الحوثيون أنهم لم يصبحوا قوة عظمى؟