هل يمكن القول إنه وبناء على التطورات التي تشهدها الساحة الإقليمية جراء الحرب القائمة بين إسرائيل وحركة “حماس” في قطاع غزة وامتدادها إلى الجبهة اللبنانية بعد دخول “حزب الله” اللبناني وإشعاله للحدود الجنوبية، إنه بات بالإمكان الحديث عن مستقبل سلاح الحزب في لبنان؟، سؤال لا شك في أنه يشكل هاجساً لدى جميع الأطراف، ليس فقط اللبنانيين، بل الأطراف الإقليمية والدولية، بخاصة الجانب الأميركي، وهو سؤال فرضته وتفرضه حال الاشتباك الدائرة على الحدود الجنوبية بين عناصر الحزب ومنظومته العسكرية والجيش الإسرائيلي والمستمرة لأكثر من 100 يوم حتى الآن، والمرشحة للاستمرار أكثر في حال لم تستطِع الضغوط الإقليمية والدولية فرض وقف لإطلاق النار في الحرب الدائرة في قطاع غزة بين إسرائيل و”حماس”.
شرعية السؤال، وعلى رغم أنه لا ينسجم مع ذائقة “حزب الله” السياسية، تتأتى من محاولة تلمّس ما ستكون عليه الأمور بعد الحرب في غزة، وبذلك من الطبيعي أن تكون هذه الإشكالية على جدول أو أجندة الحلول المستقبلية، خصوصاً بعد كلام الأمين العام للحزب حسن نصرالله حول الفرصة التاريخية التي وفرتها هذه الحرب للوصول إلى تفاهم حول ترسيم الحدود اللبنانية – الفلسطينية وإنهاء النزاع حول النقاط المختلف عليها ومزارع شبعا وما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة.
إن انهاء هذا النزاع يعني في بعد من أبعاده الأساسية، وضع مسألة الحديث عن مصير الترسانة العسكرية والسلاح الصاروخي الذي يمتلكه الحزب على طاولة البحث على مختلف المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. لذا، لا بد من أن تكون قيادة هذا الحزب ومعها الحليف الإيراني الذي تولى مهمة رفد هذه الترسانة وتضخيمها، أن تكون منفتحة وعلى استعداد للنقاش والحوار حول مستقبل هذا السلاح على طاولة التفاوض، في الأقل على المستوى الخاص بالداخل اللبناني، وأيضاً أن تكون مدركة لأبعاد والتزامات الدخول في مثل هذا الحل والمشروع.
ولعل الحل الأمثل والذي ربما تحبذه وتسعى إليه قيادة الحزب عند جلوسها إلى طاولة التفاوض والحوار حول ما بات يعرف في الأدبيات السياسية اللبنانية بـ”الاستراتيجية الدفاعية”، أن تقود القوى والأطراف اللبنانية إلى القبول أو الموافقة على إنشاء منظومة عسكرية إلى جانب المنظومة الرسمية المتمثلة في الجيش اللبناني، أي تشكيل عسكري يشبه منظومة “حرس الثورة الإسلامية” في إيران أو هيئة “الحشد الشعبي” في العراق أو “قوات الدفاع الوطني” في سوريا أو “أنصار الله” في اليمن، بحيث يكتمل عقد المنظومة العسكرية الإقليمية للمحور الإيراني في مناطق نفوذه، تسمح له بامتلاك قوة عسكرية متعددة الجنسيات تتمتع بالشرعية القانونية في البلاد التي تنتمي إليها.
وقد يكون هذا المشروع أو الطموح دونه عقبات وصعوبات كثيرة ومعقدة، أولاً لطبيعة التركيبة اللبنانية المتعددة والمتشعبة في موافقها ورؤيتها للبنان ومستقبل السلطة والسيادة وحصرية السلاح في يد المؤسسة الرسمية للدولة، وتملك أوراق قوة تستند إليها مثل الشرعية العربية والدولية التي اتخذت موقفاً واضحاً من هذا السلاح واعتبرته خارجاً على الدولة والسيادة اللبنانية وعززت موقفها هذا بعدد من القرارات الرسمية الصادرة عن المنظومات السياسية العربية (الجامعة العربية ومجلس تعاون الدول الخليجية)، إضافة إلى قرارات مجلس الأمن الدولي وأبرزها القراران 1559 و1701.
في المقابل، فإن إمكان الذهاب إلى صيغة مختلفة، تفتح الطريق أو الباب أمام “حزب الله” لتسويق رؤيته لمستقبل سلاحه ضمن الاستراتيجية الدفاعية التي يسعى إلى إقرارها أو جلب الأطراف اللبنانية الأخرى للموافقة عليها والقبول بها، والمدخل إلى هذه الصيغة أو المعادلة يأتي من خلال الطرح الذي قدمه سابقاً الحزب حول رؤيته للبنان والنظام التي دعا فيها إلى إعادة النظر في الصيغة اللبنانية، وبذلك إعادة إنتاج النظام اللبناني على أسس ومعطيات جديدة تعيد توزيع السلطة بين المكونات الأساسية وتسمح للمكون الشيعي بأن يكون جزءاً من القرار، خصوصاً أن هذا المكون يعتقد بأنه بقي على هامش القرار منذ تشكيل لبنان الجديد.
إعادة النظر في العقد الاجتماعي والسياسي الذي يسعى إليه الحزب في النظام اللبناني، قد لا تمر بسهولة وأن يحصل على موافقة جميع الأطراف، بخاصة أن إعادة هيكلة المواقع القيادية في التركيبة اللبنانية قد تؤدي إلى إعادة توزيع السلطات والقرارات، وهذا لن يكون إلا على حساب سلطات ونفوذ هذه الأطراف، لا سيما أن من بين ما يطرح في هذه الرؤية مسألة استحداث موقع جديد تحت مسمى “نائب رئيس الجمهورية” لجهة أن موقع الرئاسة يعتبر القائد الأعلى للقوات المسلحة وأن يكون لشخص من المكون الشيعي، إضافة إلى استحداث موقع آخر في المؤسسة العسكرية بعنوان “نائب قائد الجيش” من المكون الشيعي أيضاً، مما يمهّد لعملية دمج قوات “حزب الله” العسكرية في المؤسسة العسكرية على أن تكون الأمرة على هذه القوات محددة فقط في صلاحيات نائب رئيس الجمهورية ونائب قائد الجيش.
وإذا ما كان الوسط السياسي والطائفي اللبناني غير مستعد أو غير مؤهل للسير أو القبول بهذه الصيغة أو الرؤية، لما فيها من تحول جذري لا يقتصر على تركيبة الصيغة اللبنانية للنظام، بل يطاول أيضاً جوهر العقيدة السياسية للنظام وقد ينقله من مكان إلى آخر في تحالفاته ومواقفه، أو في الأقل يفرض عليه حالاً من التوازن بين المعسكرات السياسية الدولية والإقليمية.
في المقابل، لا يبدو أن الحزب، بخاصة مع هذه التطورات الأخيرة في حرب غزة وما بعدها، قادر على الانتقال السهل من موقعه الأساسي في المحور الذي تقوده إيران في الإقليم لمصلحة تعزيز طبيعته اللبنانية أو “لبننة الحزب”، وأن يدخل في الحياة السياسية كجزء من التركيبة اللبنانية متخلياً أو متخففاً من التزامات انتماءاته الأيديولوجية والإقليمية، مما يجعل الطريق للوصول إلى هذه النقطة طويلاً وقد يترافق مع كثير من التطورات والسجالات.
وبانتظار أن تتوصل القوى المعنية بما يجري في قطاع غزة إلى تسويات تعيد وضع المنطقة على خط التهدئة والحلول الحقيقية، فإن ما قد تنتهي إليه الأمور في لبنان لن يكون بعيداً مما يجري على خط التسويات التي تقودها إيران مع المجتمع الدولي، تحديداً الولايات المتحدة حول مستقبل دورها وموقعها ونفوذها وحصتها في الإقليم، والتي من المفترض أن تكون منسجمة مع مصالحها الاستراتيجية والقومية وحتى الاقتصادية.