في خضم الأحداث والصراعات الساخنة التي يشهدها العالم في مناطق متعددة، لاسيما في أوكرانيا وفلسطين والسودان؛ إلى جانب الأوضاع المتوترة في جنوب شرق آسيا؛ ستشهد هذا العام مجموعة كبرى من الدول انتخابات هامة تحدد نتائجها ملامح السياسات الدولية والإقليمية خلال الأعوام الأربعة، أو الخمسة التالية على الأقل. ويُشار في هذا السياق إلى الانتخابات الأمريكية والهندية والأوروبية والأندونسية والمكسيكية وانتخابات جنوب أفريقيا وتايوان؛ بالإضافة إلى الانتخابات المحلية البلدية في تركيا. أما الانتخابات الروسية فنتيجتها مسألة تحصيل حاصل بفعل الإجراءات الصارمة التي اتخذها النظام الروسي، وبوتين شخصياً لتزكية نفسه، وإبعاد المعارضين، وضمان الفوز المبرمج فيها.
ونظراً لحالة التداخل والتأثير المتبادل بين الملفات والمواقف الإقليمية بصورة عامة، والدور التركي اللافت في الملف السوري؛ إلى جانب تأثير التطورات الجارية في سوريا لا سيما في منطقة شرق الفرات في السياسة الداخلية التركية، وتمظهراتها على الصعيد الإقليمي، يستحق هذا الموضوع المزيد من الوقت والتركيز من جانب السوريين، لأنه سيؤثر من دون شك في واقعهم اليومي، خاصة في البلديات التي يتواجد فيها السوريون بكثرة، ومنها بلدية اسطنبول، وغازي عنتاب ومرسين وماردين وأورفة/ شانلي أورفا؛ هذا إلى جانب تأثير الانتخابات البلدية التركية في الواقع الداخلي السوري ضمن المناطق المتاخمة للحدود الخاضعة للنفوذ التركي المباشر سواء في عفرين، أم إدلب مرواً بالباب واعزاز جرابلس وصولاً إلي تل أبيض ورأس العين/ سري كانيي.
فالمعارضة ممثلة في حزب الشعب الجمهوري انتزعت العديد من البلديات الكبرى التي كانت تعتبر من قلاع الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، بل كان الرئيس التركي اردوغان شخصياً، يحسبها من حاضناته المحصنة. ولكن مع إعلان نتائج الانتخابات المحلية المنصرمة، تبين أن الخسارة كانت كبيرة جداً بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، ومريرة ومدوية، خاصة في اسطنبول التي تعد أكبر بلدية على مستوى البلاد؛ هذا إلى جانب مكانة ورمزية اسطنبول في التاريخ التركي والإقليمي والعالمي. وهناك قناعة عامة تتشارك فيها كل الأحزاب التركية والأوساط الشعبية التركية، تلخصها عبارة: من يحكم اسطنبول يحكم تركيا، وهي عبارة تجسد الواقع الفعلي إلى حد كبير. لذلك فالحزب الحاكم يشعر أن انتصاره غير مكتمل، رغم حصول ائتلافه على غالبية مقاعد البرلمان، وفوزه بموقع الرئاسة للمرة الثانية.
فما دامت البلديات الكبرى، اسطنبول، أنقرة، إزمير، وحتى مرسين وأنطاليا لحساسية موقعهما الجغرافي، وتركيبتهما المجتمعية، خاضعة للمعارضة إلى جانب العديد من البلديات الأخرى، فهذا معناه أن أكثر من نصف عدد المواطنين في تركيا قد صوتوا لصالح المعارضة، وليس لصالح الحزب الحاكم ورئيسه اردوغان الذي من الواضح أنه يريد أن يدخل التاريخ التركي من بابه الواسع عبر ترك بصماته على الأوضاع التركية الراهنة والمستقبلية؛ والحصول على الأسبقية غير المعهودة في جملة ميادين، خاصة من جهة طول مدة الحكم، والقدرة على المناورة، واعتماد السياسات البراغماتية في التعامل مع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي.
هناك جملة عوامل داخلية تتحكّم بمزاج الناخب التركي، وتدفع به للتصويت لصالح هذا الحزب أو ذاك، وذلك بناء على البرنامج الذي يقدمه، والشعارات التي يرفعها، شرط أن يتلمّس صدقية وواقعية وامكانية تحقيق ما يطرح من قبل هذا الحزب أوذك.
ومن أبرز العوامل المؤثرة في هذا المجال الوضع الاقتصادي الذي يحدد توجهات سائر الناخبين في عموم أنحاء تركيا. فأمام ارتفاع نسبة التضخم والفائدة المصرفية، وفي مواجهة غلاء أسعار المواد الأساسية والغذائية والاستهلاكية، وصولاً إلى قطاعات الفنادق والمطاعم، يعيش المواطنون، من ذوي الدخل المحدود على وجه التحديد، أوضاعأ معيشية في غاية الصعوبة، وكل ذلك يؤدي إلى نتائج أخرى تؤدي إلى ضعف الدخل، وارتفاع نسبة البطالة، وتفاقم حجم وعدد الكوابح. أما سبب هذا التراجع فهو ربما يتشخص في السياسات المالية الخاطئة التي اعتمدت. هذا مع عدم تجاهل دور انتشار الفساد الذي عادة ما يلتهم الطاقات والموارد، ولا يساهم بأي تقدم أو تطوير على صعيد الإنتاج والتسويق.
أما العامل الثاني، فهو يتمثل في عدم الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا التي هي واحدة من القضايا الكبرى المستعصية التي تستوجب الحل. فالحجم الكردي، رغم عدم وجود إحصائيات رسمية دقيقة لأسباب سياسية معروفة، يبلغ ما بين 20-25% من مجموع السكان. وهؤلاء يعانون الكثير من التهميش والحرمان، وتعتبر مناطقهم من المناطق المهملة الخاضعة لأنظمة إدارية أشبه بنظام الطوارئ؛ يعانون الحرمان من أبسط حقوقهم القومية الطبيعية؛ هذا رغم التحسن الملحوظ الذي طرأ على أوضاع الكرد ومناطقهم خلال النصف الأول من حكم حزب العدالة والتنمية المستمر منذ عام 2002، لا سيما في مرحلة العملية السلمية التي كانت بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وهي العملية التي توقفت لاحقاً نتيجة عدم جدية الطرفين، وعلى الأرجح نتيجة الضغوط الخارجية، لا سيما من الجانب الإيراني على حزب العمال الكردستاني الذي لم تكن قيادته في قنديل تريد حلاً.
واليوم لو تم التوصل إلى حل عادل لهذه القضية؛ أو لو اتخذت خطوات جادة على طريق الحل؛ فإن ذلك سيؤثر في مزاج الناخب الكردي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر بصورة مباشرة في المدن الكبرى التي فيها حضور كردي كبير، سواء في اسطنبول، أم في إزمير ومرسين، وحتى أنطاليا وأنقرة. ولبلوغ ذلك يمكن التفاهم مع الأحزاب والقوى الكردية بعد طرح برنامج من قبل الحزب الحاكم يتضمن وجهة نظره حول القضية الكردية في تركيا وتصوره للحل الذي يراه للقضية المعنية حتى يكون مادة للنقاش، وذلك بغية الوصول إلى تفاهمات. ورغم قصر المدة المتبقية للانتخابات المعنية (من المقرر أن تجرى في 31 آذار/مارس المقبل)؛ إلا أن خطوات من هذا القبيل ستكون مؤثرة بغض النظر عن موافقة أو عدم موافقة حزب العمال عليها. فهو إن وافق وانضم إلى الحوارات والتفاهمات، فهو يوفر بذلك الكثير من الوقت والجهد. ولكن إذا أصر على أسلوبه القديم الجديد في ميدان الرغبة في المحافظة على وضعية التوتر التي يستفيد منها في ماكينته الإعلامية، فهو سيُبقي نفسه خارج دائرة التأثير الإيجابي المنتج.
الحل الأمثل للقضية الكردية في تركيا هو الحل السلمي الذي من شأنه أن يفتح الآفاق أمام الاستقرار الداخلي، والتوازن الإقليمي، وذلك باعتبار ان هذه القضية تؤثر بصورة مباشرة على الأوضاع في كل من إيران وسوريا والعراق؛ إلا أن التأثير الأكبر سيكون في سوريا من جهة الاستقرار المستقبلي، وإمكانية عودة اللاجئين في حال حدوث تغيير سياسي حقيقي.
أما تأجيل معالجة هذه القضية، أو التعامل معها وكأنها غير موجودة، فإن ذلك لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة مرجوة؛ وإنما على النقيض من ذلك، سيكون هذا الأمر في صالح حزب العمال نفسه، لا سيما في ظل عدم وجود طرح واضح معقول يلخص وجهة نظر الحكومة التركية لحل القضية المعنية، بعد عملية متابعة ومناقشة لجملة الآراء والمواقف الخاصة بالقوى الكردية التي يمثل حزب العمال قوة منها وليس القوة الوحيدة، رغم حجمه الكبير، فالقوى الكردية، خارج نطاق حزب العمال، الأخرى هي قوى وازنة؛ ولها تاريخ وأوساط شعبية معروفة ناضجة، معتدلة، ومستقرة.
وتبقى مسألة الحقوق الديمقراطية التي جسدت انعطافا إيجابياً كبيراً في المرحلة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية؛ ولكنها تراجعت إلى حد كبير، وهو الأمر الذي أثار قلق أوساط واسعة ضمن المجتمع التركي، ومن المتابعين للأوضاع التركية، على مستوى الأفراد والمنظمات والدول. وتراجعت نتيجة ذلك جاذبية النموذج التركي الذي كان يُقدم من باب وجود امكانية احترام قواعد وشروط العملية الديمقراطية من قبل حزب ذي توجهات دينية ضمن إطار نظام علماني يحافظ على الحدود بين ما لقيصر وما لله.
إلى جانب هذه العوامل، هناك عوامل أخرى لها علاقة بموقع تركيا وحجمها ومكانتها على صعيد الإقليم، ودورها في المعادلات الدولية الخاصة بالمنطقة. فاليوم، ورغم كل العمل المشترك الذي كان بينها وبين إيران ضمن مسار أستانا برعاية روسيا، ورغم المصالح الاقتصادية المشتركة بينهما، نتلمّس مظاهر واضحة لصيغة من التنافس الإقليمي تهيمن على العلاقة بينهما؛ خاصة في العراق وسوريا، وفي آسيا الوسطى. وهي حالة مرشحة للمزيد من التصعيد والتوسع، ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات بين الطرفين حول دور كل دولة في الإقليم، وذلك ضمن إطار تفاعل المعادلات الإقليمية الدولية التي تسير بموجبها المنطقة؛ وهي معادلات في طريقها إلى التغيير، خاصة في ضوء ما حصل، ويحصل، في غزة؛ وطبيعة الحل الذي سيكون، والمآلات التي ستكون في العراق ولبنان، ومستقبل الموقف العربي المنتظر الغائب راهناً في الدول المعنية.