على مدى يومين نفذت إيران هجمات بالصواريخ والمسيرات (شاهد 136) ضد أهداف في كردستان العراق وإدلب في سوريا إضافة إلى أهداف أخرى في باكستان. أوقعت هذه الهجمات قتلى وتسببت في أزمة دبلوماسية مع العراق التي رفضت التبريرات التي قدمتها إيران وتقدمت بشكوى ضد طهران في مجلس الأمن، كما استنكرت باكستان القصف الإيراني لأهداف داخل أراضيها واعتبرته انتهاكًا لسيادتها.
وعبر بيانات متتالية تحدث الحرس الثوري عن استهداف “مقرات تجسّس للموساد” ومعاقل لمجموعات وصفتها طهران بالإرهابية في كل من سوريا وإقليم كردستان وباكستان.
واعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، الهجوم الصاروخي “يأتي في سياق الدفاع المقتدر عن سيادة البلاد وأمنها ومكافحة الإرهاب، وهو جزء من العقاب العادل من قبل الجمهورية الإسلامية ضد المتطاولين على أمنها”. وتأتي الهجمات الإيرانية بعد فترة قصيرة من هجوم انتحاري وقع في مدينة كرمان، مطلع يناير/كانون الثاني 2024، وسط حشود كانت تحيي الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، وأسفر عن 84 قتيلًا و284 إصابة.
وتحدث كنعاني عن الرسائل التي تحملها هذه الهجمات؛ فهي الأبعد مدى التي نفذتها بلاده حتى اليوم خارج حدودها، وإن مسافة أكثر من 1200 كيلومتر تحمل رسالة واضحة لتل أبيب، مؤكدًا أن العملية تبرهن على القدرة التدميرية الهائلة للصواريخ الإيرانية ودقتها، وأنها تظهر التنسيق الناجح بين الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية في إيران.
وقال بيان للحرس: إن القصف استهدف ودمَّر أحد المقرات الرئيسية لجهاز “الموساد” الإسرائيلي في كردستان العراق، وهو الهجوم الذي قتل بيشروه ديزايى، الذي يعد واحدًا من أبرز رجال الأعمال الأكراد، كما قُتل في الهجوم زوجته وابنته. وفيما تتحدث طهران عن علاقة القتيل بالموسادتنفي بغداد الرواية الإيرانية بصورة قاطعة وتتحدث عن استهداف مبنى مدني.
ردود فعل عراقية وباكستانية
سارعت بغداد إلى تقديم شكوى ضد إيران لدى مجلس الأمن الدولي، على خلفية الهجوم الذي أدى لسقوط قتلى وجرحى مدنيين. وقال بيان الخارجية العراقية: إن الشكوى تتعلق “بالعدوان الصاروخي الإيراني الذي استهدف أربيلوأدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين الأبرياء وإصابة آخرين وتسبب بأضرار في الممتلكات العامة والخاصة”.
وأضافت أنها رفعت شكوى بموجب رسالتين متطابقتين إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن الدولي عبر الممثلية الدائمة للعراق في نيويورك. ووصفت الرسالتان ما حدث بأنه “عدوان وانتهاك صارخ لسيادة العراق وسلامته الإقليمية وأمن الشعب العراقي”.
ورغم النفي العراقي تصر إيران على أن “المقر المستهدف يُعدُّ مركز تطوير عمليات التجسس والتخطيط للعمليات الإرهابية في المنطقة، وخصوصًا ضد إيران”، مبررةً الهجمات بأنها تأتي في” إطار الرد على اغتيال إسرائيل لقادة في الحرس الثوري ومحور المقاومة”. ورغم تسريبات تحدثت عن استهداف “القنصلية الأميركية في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق”، نفى مسؤولون أميركيون استهداف منشآت أميركية في أربيل بالصواريخ، مع تأكيدات بأنه لايوجد خسائر أميركية.
الحرس الثوري ذكر في أحد البيانات الثلاثة أن قصفه “استهدف أماكن تجمع قيادات ومسؤولين إرهابيين في الأراضي السورية”. وأصاب القصف مقرات للحزب الإسلامي التركستاني في جبل السماق ومحيط بلدة حارم.
وعلى غرار الأزمة مع العراق أحدث هجوم بالصواريخ والمسيرات على أهداف في الأراضي الباكستانية أزمة دبلوماسية أخرى مع إسلام أباد أعقبها رد عسكري باكستاني داخل الأراضي الإيرانية. فقد قصفت إيران بالصواريخ والمسيرات مقرين لجماعة مسلحة في باكستان قالت طهران إنها تأتي في إطار “محاسبة من تعرضوا لأمنها القومي”. وأدانت باكستان انتهاك إيران مجالها الجوي مما أدى إلى مقتل طفلين، وحذَّرت إسلام آباد، في بيان أصدره المتحدث باسم وزارة الخارجية، من أن الحادث قد تكون له “عواقب وخيمة” وأنه “غير مقبول على الإطلاق”.
استهدف القصف، وفق الرواية الإيرانية، مقرين رئيسيين لـ”جيش العدل” في إقليم بلوشستان جنوب غربي باكستان، الذي نُسب له تنفيذ هجوم مسلح، منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، على مقر للشرطة الإيرانية بمدينة راسك في محافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرقي إيران، أدى لمقتل 11 شرطيًّا وإصابة آخرين.
وردًّا على ذلك، استدعت باكستان سفيرها في طهران وقالت إنها لن تسمح بعودة السفير الإيراني الذي يمضي إجازة في بلاده وقامت بتعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وجاء ذلك بعد يوم واحد على إجراء مناورة بحرية مشتركة بين جيشي البلدين.
وفي اليوم التالي للهجوم كان قائد الجيش الباكستاني، عاصم منير، يتفقد مواقع في مدينة كويته عاصمة ولاية بلوشستان الباكستانية. وفي صبيحة يوم الخميس، (18 ينابر/كانون الثاني 2024)، قام الطيران الحربي الباكستاني باختراق الأجواء الإيرانية وقصف مواقع في سيستان وبلوشستان، وقال حساب الجيش الباكستاني على منصة “إاكس”: إن باكستان استهدفت “سبعة أهداف لإرهابيين في ثلاث مناطق في إيران” . وأكد أنه لم يستهدف أي مواطن إيراني (مدني أو عسكري) في هذه الهجمات التي أوقعت سبعة من غير الإيرانيين. وقالت الخارجية الباكستانية: إن “باكستان تحترم السيادة الإيرانية وإن الهجمات نفذت بدقة عالية واستهدفت إرهابيين يشكلون خطرًا على أمن باكستان وإنه سبق لإسلام أباد أن ناقشت هذا الملف مع طهران مرات عدة”. ونشرت مواقع إخبارية إيرانية صورًا للمواقع التي استهدفتها الهجمات في قرى شمسر وحق أباد وبم بشت.
وعلق وزير الدفاع الباكستاني السابق، خواجه محمد آصف، على هذه التطورات بالقول: “يجب أن نتذكر أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ساندتنا دائمًا في الظروف الصعبة“.وأضاف محمد آصف وهو يتحدث لقناة “جيو نيوز” الباكستانية حول الهجمات الإيرانية: “الإرهاب يشكل بالتأكيد تحديًا جادُا بالنسبة لإيران وباكستان ويتعين علينا معُا معالجة هذه الأزمة”. ودعا إلى اعتماد الدبلوماسية والحوار بين البلدين لمناقشة التحديات المشتركة”.
ترتكز العلاقات الباكستانية-الإيرانية على مصالح كثيرة، يحاول الطرفان الحفاظ عليها، وتجاوز العقبات والمشاكل التي تعترضها، ومن المؤكد أن العلاقة تتجاوز في جوهرها مقاصد ومنافع كلِّ طرف، وتأتي متأثِّرة بالارتدادات الناتجة عن سياسات عدد من الدول في الإقليم والعالم؛ ومما يُؤَثِّر ويتأثَّر بعلاقات البلدين ملفات عديدة؛ أهمها: العلاقة مع الهند، والعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، والعلاقة مع المملكة العربية السعودية، والجماعات السنية والشيعية المتطرفة.
رسائل داخلية وخارجية
في واحدة من رسائل هذه الهجمات تخاطب إيران مواطنيها، بأنها قادرة على الوصول إلى مصادر التهديد، ولعل هذه الرسالة مهمة مع تصاعد حالات الاستهداف ضد إيران خاصة تلك العمليات التي نُفذت داخل أراضيها وأوقعت ضحايا بين مواطنيها وبعضها أشار إلى خروقات أمنية واضحة.
وفي عملية التبرير، تسوِّق إيران الملف الأمني واحدًا من الملفات التي سبق أن ناقشتها مع العراق وترى أن منطقة كردستان العراق أصبحت مقرًّا ومنطلقًا لعمليات تخريب واغتيال داخل إيران، وأن حكومة بغداد لم تف بالتزاماتها الأمنية على هذا الصعيد، لكن حكومة السوداني ترى في الهجوم الإيراني استخفافًا باستقلال العراق، وهذا الهجوم يوجه ضربة لمساعي هذه الحكومة لبناء علاقة مع إيران تقوم على حسن الجوار والمصالح المشتركة. ومن الملاحظ أن حكومة السوداني تحاول إعادة تعريف العلاقة مع جارتها بما تقتضيه مصالح العراق كدولة، وفي هذا السياق جاءت دعوته لمغادرة القوات الأجنبية العراق حتى لا تبقى أرضه ساحة لتصفية الحسابات.
تعطي هذه الهجمات لطهران إمكانية الحديث عن ” تحقيق إنجازات” ردًّا على مجموعة من العمليات التي استهدفت مصالحها، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن المواجهة الدائرة بين إيران وإسرائيل في المنطقة الرمادية. ومن الواضح أن إيران تتجنب إيقاع ضحايا من الأميركيين رغم الهجمات التي ينفذها حلفاؤها ضد القواعد الأميركية، وذلك يقول بأن إيران تُجري عملية استعراض لقوتها وقدراتها الصاروخية وطائراتها المسيرة ورسالة مبطنة ضد دعوات توجيه ضربة إلى إيران بأن لديها الوسائل والقدرة للرد على التهديدات التي تستهدفها، دون المخاطرة بصورة قد تفضي إلى صراع إقليمي أوسع قد يعني مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
وهذا الاستعراض الواضح للقوة يترافق مع سياسة حذرة من جانب طهران فيما يتعلق بالتصعيد ورفع مستوى المواجهة مع الغرب، لكنه استعراض مكلف دبلوماسيًّا على صعيد علاقاتها مع جوارها؛ إذ تسهم هذه الهجمات في خلق جوار معاد لطهران التي تعاني من عقوبات اقتصادية أدت إلى أزمات داخلية لا يمكن إنكارها.