من الظواهر اللافتة التي تحتاج للبحث والتفسير والاستيعاب هو ما تنبأت به مؤسسات الاستخبارات والأمن ومراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية قبل أكثر من عقد من الزمن عن صعود دور وتأثير ونفوذ «الفاعلون من غير الدول»(Non-State-Actors) في النظام العالمي. حتى أنني أشرفت على أول أطروحة ماجستير في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت عن الموضوع نفسه قبل عدة سنوات.
برز دور وتأثير «الفاعلون من غير الدول» بنفوذ جماعات الضغط واللولبيات في خمسينيات القرن الماضي في النظام السياسي الأمريكي يسمح لتلك المؤسسات بالعمل ضمن النظام السياسي والانتخابي الأمريكي تمثلت بما عرف بالشقيقات السبعة (شركات النفط العملاقة) والمجمع الصناعي العسكري (لكبرى شركات تصنيع السلاح) الأمريكية. شكلت بينهما قوة تأثير تدعم وتدفع بمرشحين لمناصب نواب وأعضاء مجلس الشيوخ في الكونغرس الأمريكي وحتى في الرئاسة الأمريكية ـ بدعم وتمويل المشرعين والمرشحين لتلك المناصب للنجاح والوصول الى مراكز صنع القرار ـ لإصدار تشريعات صديقة وداعمة لمصالح تلك المؤسسات المتنفذة في النظام السياسي الأمريكي، لذلك أصدر أحدهم كتابا ناقدا وساخرا بعنوان: «أفضل ديمقراطية تُشترى بالمال»!!
ثم تعزز وتمدد دور تلك الظاهرة بتوسع أنشطة الشركات العابرة للقارات لتشكل نفوذاً كبيراً على المستوى الدولي بما تملكه من قدرات وعلاقات مع صنّاع القرار في عدة دول، واستمرت شركات النفط والسلاح بالتمتع بنفوذ وقدرة كبيرة على الانتشار.
حتى وصلنا للثورة المعلوماتية والتكنولوجية، وصعد نجم الشركات العملاقة مثل مايكروسوفت وغوغل وشركات الصناعة وتكنولوجيا الهواتف الذكية مثل أبل وسامسونغ وهواوي التي ذاع صيتها وانتشرت منتجاتها وأحدثت ثورة ونقلة نوعية غير مسبوقة في عالم التواصل الاجتماعي التي غزت البشرية وسهلت انتقال المعلومة والتعامل مع بنك المعلومات لتفجر ثورة جديدة بتطبيقات «الذكاء الاصطناعي» – الذي تستغني به الشركات عن الموظفين – ما يهدد مئات ملايين الوظائف حول العالم!
وصارت أسهم تلك الشركات العملاقة تشترى وتباع وذاع صيتها وحقق المستثمرون مكاسب. حتى صناديق الثروات السيادية للدول تتعامل بأسهم تلك الشركات العملاقة العابرة للقارات. ووصلت القيمة السوقية لشركات، مثل أبل ومايكروسوفت والفابيت المالكة لغوغل ويوتيوب وميتا المالكة لـ«فيسبوك» و«واتساب» و«انستغرام» تقدر القيمة السوقية لكل واحدة من تلك الشركات بما لا يقل عن تريليون دولار أو أكثر. ووصلت القيمة السوقية لشركة أبل تريليوني دولار وكذلك لشركة مايكروسوفت. وهذا يعني أن قيمتها السوقية أكثر من صناديق الثروات السيادية لعشرات الدول!! وحولت مؤسسيها ومالكي أكبر كمية من الأسهم في تلك الشركات الى أغنى رجال العالم مثل الون ماسك وبيل غيتس وجيف بيزوس وغيرهم!
ساهم ظهور «تنظيم الدولة» بإصدار المرجع الشيعي في العراق على السيستاني فتوى بإنشاء «الحشد الشعبي» لمقاتلة ذلك التنظيم، واستمر حضور الحشد الشعبي ونفوذه ودمجه في القوات المسلحة العراقية حتى بعد تراجع تهديد «داعش»!
برز التحول اللافت في دور ونفوذ «الفاعلون من غير الدول» في التنظيمات المسلحة المدعوم بعضها من بلدان لتحقيق أهداف سياسية تصنفها دول حول العالم بتنظيمات إرهابية دون تعريف واضح للإرهاب! أبرزها تنظيم «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن وعملية «غزوة مانهاتن» في 11 أيلول/سبتمبر 2001 بتفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك واستهداف مبنى البنتاغون، وزارة الدفاع الأمريكية خارج العاصمة الأمريكية واشنطن، بطائرات مختطفة. في أول عملية نوعية تضرب الدولة الأقوى في العالم في عقر دارها وفي عز قوتها، وبرغم استفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة وتزعم النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحول النظام العالمي لنظام أحادي القطب! وبرزت قبل القاعدة تنظيمات خرجت من رحم الدولة ولكنها تمكنت من اكتساب نفوذ وقوة فاقت قوة ونفوذ الدولة نفسها وخاصة الدول الهشة والفاشلة. فبرز حزب الله في لبنان عام 1982 وبدعم وتدريب من إيران لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبرزت حركة حماس عام 1987 في غزة لمقاومة البطش والاحتلال الإسرائيلي، ومعها حركة الجهاد الإسلامي، وبرز تنظيم القاعدة في التسعينيات لمقاومة ورفض النفوذ والحضور الأمريكي في المنطقة.
والمفارقة أن أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة كان متعاونا مع الاستخبارات الأمريكية في الثمانينيات بدعم وتمويل الاستخبارات الأمريكية والباكستانية وحتى بدعم سعودي – عندما قاد جماعة «المجاهدون العرب» في دعم قتال «المجاهدين»- حسب وصف الرئيس ريغان وإدارته وتسليحهم لقتال الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، ومن رحمهم خرجت حركة طالبان، وصولاً لظهور تنظيم «الدولة» في العراق والشام «داعش» عام 2014. وقاد الرئيس أوباما تحالفا دوليا من 70 دولة لمقاتلتهم بعملية «العزيمة الدائمة» بعدما سيطروا على أجزاء واسعة من العراق والشام وألغوا حدود الدول حتى تراجع نفوذهم دون هزيمتهم.
ساهم ظهور «تنظيم الدولة» بإصدار المرجع الشيعي في العراق على السيستاني فتوى بإنشاء «الحشد الشعبي» لمقاتلة ذلك التنظيم، واستمر حضور الحشد الشعبي ونفوذه ودمجه في القوات المسلحة العراقية حتى بعد تراجع تهديد «داعش»!
ما يجمع بين تلك الجماعات المسلحة العقائدية هو علاقتهم بإيران ودعمها وخدمة مشروعها لتعزيز نفوذها في مواجهة الإمبريالية الأمريكية والغرب وإسرائيل بمساندة «محور المقاومة» ومواجهة الصهيونية والإمبريالية! كما نشهد اليوم دور هذا المحور في تصدي حماس والجهاد الإسلامي لجرائم إبادة الصهاينة في غزة وفلسطين عبر حرب إبادة دموية، وفي مواجهة حزب الله لإسرائيل في تصعيد متبادل من جنوب لبنان، وفي تصعيد الحوثيين ضد إسرائيل دعماً لمقاومة حماس باستهداف السفن وناقلات النفط في البحر الأحمر وتشكيل أمريكا تحالف «حارس الازدهار» وصولاً لاشتباك أمريكا وبريطانيا وبدعم حلفائها بشن غارات جوية على محافظات اليمن ومهاجمة الحوثيين، واستهداف «المقاومة الإسلامية» في العراق للقواعد الأمريكية في العراق وسوريا وقصف مواقع إسرائيلية. والرد الأمريكي بقصف مواقع، واغتيال قيادات لتلك التنظيمات المتحالفة مع إيران في العراق وسوريا ما يكسب إيران معركة العقول والقلوب. لذلك فشلت الدول الكبيرة وتراجع نفوذها في التأثير على الأحداث!
حمّلت في مقالي الأخير في «القدس العربي» مسؤولية إدارة بايدن لوصولنا لحافة الهاوية في المنطقة. وأكرر أن تناقض وغياب استراتيجية الإدارات الأمريكية المتعاقبة يفاقم ويشعل أزمات المنطقة، ويهدد أمن واستقرار حلفائها ويسمح للفاعلين من غير الدول بدفع المنطقة لحافة الهاوية!