أحداث غزة وانعكاسها على العلاقات الروسية الإيرانية.

أحداث غزة وانعكاسها على العلاقات الروسية الإيرانية.

تتسم السياسة الإيرانية بدوافع ميدانية وأفاق مستقبلية وتعمل جاهدة على إبقاء عملية التواصل في العلاقات مع دول العالم عبر الحفاظ على المصالح والمنافع والأهداف والغايات المشتركة وتعزيز هذه المواقف باستباق للأحداث وإيجاد عوامل مهمة تساهم في تعزيز أواصر العلاقة الدولية والإقليمية بما يحفظ لإيران مكانتها ورغبتها في التعامل معها من قبل الآخرين كدولة ذلت أهمية بالغة في منطقة الشرق الأوسط ولديها القدرة على التأثير في مجمل الأزمات التي تعصف بالمنطقة وامكانياتها في التدخل لحلها او ان تكون جزءاً من مواكبة الأحداث فيها، وعمد النظام الإيراني على اتباع سياسة التهدئة واستباق الحدث عندما قرر الاتجاه نحو الشرق وتدعيم علاقته السياسية والعسكرية والإقتصادية وفي جميع المجالات والأطر الثنائية مع روسيا والصين بعد العقوبات الأمريكية التي فرضت عليه بخروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني بسبب عدم تمسك طهران بأوليات بنود الإتفاق والسعي لتطوير أدوات وفعالية الأسلحة الذرية وبرامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة.
وأمام هذه التحديات والمتغيرات دأب النظام الإيراني لإيجاد حلول سريعة في محاولة منه للتغلب على العقوبات الإقتصادية والتي كان من أولوياتها البحث عن منافذ أخرى تساهم في دعم المنظومة الإقتصادية والاجتماعية لمواجهة الأزمات التي انتابت المجتمع الإيراني وزيادة حدة المشاكل وتعاظم الاحتجاجات الشعبية الرافضة للسلوك السياسي الذي يتبعه النظام في تعامله مع معظم الأحداث الدولية والإقليمية وسعيه لتنفيذ مشروعه السياسي في التمدد والنفوذ ودعم الفصائل المسلحة ووكلائه وشركائه في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
فكانت أولى المحطات الرئيسية التي ساهمت في تدعيم العلاقات الروسية الإيرانية بدأ المواجهة العسكرية بين أوكرانيا وروسيا في شباط 2022 حيث شهدت العلاقات بين البلدين ازدهاراً واضحاً وتبادلاً في كافة المجلات وعلى جميع الأصعدة واشترك البلدان في كونهما تحت طائلة العقوبات الغربية وهذا ما عزز التقارب بينهما، فكانت الزيارات الرسمية المتبادلة والتي تمخضت بالإعلان عن اتفاقية جديدة للتعاون الإستراتيجي بين البلدين أمدها عشرون عاماً وهي التي تشمل جميع القطاعات العسكرية والتجارية والطاقة في وقت يوجه البلدان عزلة دولية عقوبات إقتصادية، وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ( ماريا زاخاروفا) بتاريخ 17 كانون الثاني 2024 بأن (اتفاقية التعاون الشامل طويل الأمد بين طهران وموسكو تم الإنتهاء منها وسيتم توقيعها في المستقبل القريب، وهي نقطة تحول مهمة في تاريخ العلاقات الممتدة لقرون بين روسيا وإيران).
ويأتي الحديث عن الإتفاقية الجديدة بعد أن انتهى العمل من الإتفاقية الأولى التي وقعت بداية عام 2001، وهذا الإعلان كان نتيجة زيارة وزير الدفاع الروسي ( سيرغي شويغو) لإيران في أيلول 2023 وتبعها زيارة الرئيس الإيراني (إبراهيم رئيسي) موسكو في السابع من كانون الأول 2023.
تحقق هذه الإتفاقية غاية الجانب الروسي في ابقاء حزمة العلاقات في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة الإيرانية وحاجته التي أملتها ظروف المواجهة العسكرية مع أوكرانيا للحصول على الطائرات المسيرة الإيرانية التي أثبتت دورها الميداني الفعال في مواجهة القوات الأوكرانية والأهداف الحيوية وأصابتها بدقة، كما وأن الجانب الإيراني يسعى لتحديث اسطوله الجوي سواء من الطائرات المقاتلة او طائرات التدريب والمروحيات والمحركات الخاصة بالصواريخ بعيدة المدى، حيث تم الاتفاق على شراء مروحيات ( مي 28) وطائرات ( ياك 130) التدريببة أثناء زيارة نائب وزير الدفاع الإيراني مهدي فرحي موسكو في شهر تشرين ثاني 2023، واستفادة إيران من حق النقض الذي تستخدمه روسيا في مجلس الأمن الدولي عندما يتعلق الأمر بأي حدث يهم المستقبل السياسي للنظام الإيراني، والأهمية الأخرى هي تبادل المعلومات الاستخبارية حول الولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها في منطقة الشرق الأوسط والأبعاد الحقيقية لسياستها المستقبليه وأهدافها الإستراتيجية، وهو ما يساعد النظام الإيراني على تمسكه بزمام الحكم والسيطرة على مقاليد السلطة ومعرفه خصومه و أصدقائه.
اتفق الإيرانيون والروس على بعض التعديلات والتحديثات التي تتلائم وطبيعة التطورات السياسية الدولية والإقليمية التي حدثت خلال السنوات الماضية تتناسب مع الأحداث التي شهدتها المنطقة وخاصة المواجهات التي انطلقت في الأراضي الفلسطينية يوم السابع من تشرين الأول 2023 بين مقاتلي حماس والقوات الإسرائيلية والتي بدأت القيادة الروسية تتخذ منها موقفاً متردداً بين الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة واتهام إسرائيل بالإفراط في إستخدام القوة وبين الإعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها، ثم تعديل الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام الروسية المختلفة ليصبح أكثر اعتدالاً في قراءته للأحداث الجارية في قطاع غزة، وجاء استقبال القيادة الروسية للوفد الرسمي من قيادة حماس برئاسة عضو المكتب السياسي مسؤول العلاقات الخارجية موسى أبو مرزوق يوم 24 كانون الثاني 2024 ليؤكد حقيقة الموقف الذي بدأه المسؤولين الروس إلا أنهم أشاروا إلى أن اساس المباحثات هي رغبة روسيا في الإفراج غير المشروط عن الأسرى لدى حماس وفي مقدمتهم حملة الجنسية المزدوجة الروسية الإسرائيلية.
ولكن الأمر الهام الذي بدأ يؤثر على العلاقات الروسية الإيرانية هي سلسلة العمليات التعرضية والهجمات الصاروخية التي تقوم بها إسرائيل على أهداف ومواقع وشخصيات إيرانية وقيادات أمنية وعسكرية في الحرس الثوري الإيراني التابع لفيلق القدس وفي الميدان السوري وآخرها ما حصل في 20 كانون الثاني 2024 باستهداف مقر لاستخبارات فيلق القدس وتم وتدميره عبر صواريخ موجهة أصابت (5) من المستشارين الإيرانيين و(7) عناصر موالين لإيران منهم أربعة سوريين ولبناني وعراقي، حيث تعالت الأصوات الإيرانية في الداخل ولدى التيارات السياسية المعارضة لنهج الحكومة الإيرانية ولسياستها الخارجية حول مدى أبعاد التنسيق بين القوات الإيرانية مع القوات الروسية في الساحة السورية ومدى التأثير السلبي الناتج عن غياب التنسيق الذي كان قائماً ومعمولاً به من قبل إسرائيل وروسيا حول طبيعة الأهداف الإسرائيلية في داخل الأراضي السورية، كما طرحت صحيفة ( جمهوري إسلامي) التابعة للتيار الأصولية المعتدل في إيران احتمالية تورط روسي في اغتيال القادة الإيرانيين في سوريا وتسألت عن سبب عدم فعالية منظومة الصواريخ ( إس 300) أثناء شن إسرائيل لعملياتها وغاراتها الجوية؟ وهناك رأي إيراني أخر يعتقد باختراق روسي لعمل الجهات الأمنية الإيرانية في محاولة للانفراد بالساحة السورية وتحقيق مصالحهم بعيداً عن إيران وسط تعقيدات في المشهد الإقليمي في المنطقة بعد اندلاع الأحداث في غزة، وتحديد المعلومات الدقيقة عن الأهداف الإيرانية ومعرفة عددهم وأماكن اجتماعاتهم.
ويتحدث بعض المسؤولين الايرانيين عن عدم مصداقية الجانب الروسي في علاقته مع إيران حيث سبق وان امتنع عن تزويد إيران بمنظومة الدفاع الجوي ( أس 300) عام 2007 واختلاف الرؤى السياسية في تبادل المصالح والمنافع وتحقيق الأهداف والغايات في المشهد السوري العام خاصة بعد التدخل الروسي عام 2015، وأن الأحداث الأخيرة في منطقة جنوب القوقاز ووقوف روسيا مع أذربيجان ضد أرمينيا الحليف الإستراتيجي لإيران شكل حدثاً اضافياً لعدم الثقة الكاملة بسياسة روسيا تجاه المصالح الإيرانية وابتعادها عن صدق النوايا في العمل على بنود الإتفاقية القادمة في حزيران 2024.
وأمام هذه التطورات قام الجانب الروسي بتسير دوريات جوية روسية على الحدود السورية في منطقة الجولان والتي تأتي استجابة ومراعاة للغضب والانزعاج الإيراني من سلسلة الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة على القيادات والخبراء العسكريين في الحرس الثوري وبعد أن ألمح النظام الإيراني في رغبته في تعليق العمل بالمعاهدة الإستراتيجية مع روسيا اذا لم تضغط في إيقاف العمليات الاستخبارية والجوية الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية داخل العمق السوري.
تبقى الخشية الروسية من أن إيران اذا ما سنحت لها الفرصة مستقبلاً فإنها ستتجه للغرب لأن هدفها الرئيسي هو إقرار اتفاق جديد للبرنامج النووي الإيراني ورفع العقوبات عنها والحفاظ على نظامها السياسي وبقائه حتى وإن تطلب الأمر تقديم تنازلات للولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما يقلق موسكو التي تريد أبقاء منطقة الشرق الأوسط تحت فلكها واستمرار تأثير دورها في الصراع العربي الإسرائيلي ودعم المشاعر العربية المساندة له لتحقيق مصالحها الحالية في المنطقة تجاه أهداف السياسة الأمريكية وتطلعاتها وآفاق توجهاتها الإستراتيجية.