في 12 يناير (كانون الثاني)، نفذت المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضربات عسكرية على أهداف للحوثيين في اليمن، رداً على هجمات شنّتها جماعة الحوثي على السفن التجارية في البحر الأحمر، فعطّلت التجارة العالمية. وهذه التحركات والتصرفات، من جانب الحوثيين، جعلتهم لمدة وجيزة، محور التحالف العسكري الذي ازداد نشاطه في جميع أنحاء المنطقة بعد اغتيال صالح العاروري، وغيره من قادة “حماس” في بيروت في الثاني من يناير. وبعد مقتلهم، توعّد الأمين العام لـ “حزب الله”، حسن نصرالله، بالرد، وأعلن أن القتال ضد إسرائيل يقتضي حكماً تشكيل “محور مقاومة”. وفي الساعات التي تلت وعد نصرالله، حُرّرت كلماته، وقُسّمت إلى مقاطع فيديو، أُنتجت ببراعة، وانتشرت على نطاق واسع. ثم شنّ المحور هجمات، فقصف “حزب الله” قاعدة ميرون الإسرائيلية للمراقبة الجوية بـ 62 صاروخاً، وأرسلت “المقاومة الإسلامية في العراق” طائرات من غير طيار هاجمت القواعد الأميركية في سوريا والعراق، واستهدفت مدينة حيفا الإسرائيلية بصاروخ كروز بعيد المدى، وضرب الحوثيون البحر الأحمر، واستولت إيران على ناقلة نفط في خليج عمان.
وعلى رغم أن الدول الغربية والإقليمية تزعم أنها لا ترغب في أن تتحول الحرب في قطاع غزة إلى صراع إقليمي، تلعب إيران و “حزب الله” والحوثيون وغيرهم من المحور، يلعبون كلهم لعبة مختلفة تماماً. إنهم يبذلون جهوداً صبورة ومنهجية من أجل تعزيز التحالف بين القوى المختلفة في ساحة القتال الإقليمية. وكانت البداية مع إيران و “حزب الله”. وتطور التحالف بسرعة إلى كيان أوسع، وتعاظمت قوته بالعمل الجماعي. ومن بين عناصر التحالف الآخرين، هناك الحوثيون في اليمن، وحركتا “حماس” و “الجهاد الإسلامي” في فلسطين، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا. ويتحدى هذا المحور تحدياً مباشراً النظام الإقليمي الذي أنشأه الغرب، ودافع عنه في الشرق الأوسط لعقود من الزمن. وتبيّن من الهجمات الإيرانية والحوثية على الشحن في البحر الأحمر أنه تهديد للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.
وأظهر الهجوم الذي شنته “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) قدرات المحور ونفوذه. وهي تمتد إلى أبعد من الأراضي الفلسطينية لتشمل إيران، والعراق، ولبنان، وسوريا، واليمن. ويرى الغرب أن طهران هي عقل الشبكة المدبر. ولا شك في أن محور المقاومة يجسّد النظرة الاستراتيجية لإيران. ولا ريب في أن الحرس الثوري الإيراني زوّد عناصر المحور بقدرات عسكرية فتاكة ودعم منسق. ولكن طهران ليست محركة الدمى، بل إن تماسك المحور، ودوره الإقليمي، هما ثمرة عوامل كثيرة لا تقتصر على تعليمات إيران.
وهذا المحور تربط أطرافه الكراهية المشتركة لـ “الاستعمار” الأميركي والإسرائيلي. ويعتقد “حزب الله” أن واشنطن وتل أبيب تتدخلان في لبنان. وترى “حماس” والحوثيون والميليشيات الشيعية في العراق أن الأمر نفسه يحصل على أراضيهم. وعلى حدّ قول نصرالله، فإن عناصر تلك الجماعات المختلفة يتوحّدون خلف حقيقة أنهم يواجهون القضايا ذاتها، والعدو ذاته، سواء كانوا لبنانيين أو فلسطينيين أو يمنيين. وهذا يعني أن ما يحدث على أرض ما يؤثر مباشرة في الأراضي الأخرى. ولا يرى المحور نفسه أداةً في أيدي إيران، بل تحالفاً مبنياً على أهداف استراتيجية مشتركة، ويجسد روح “الواحد للكلّ، والكلّ للواحد”. ويعتقد أطراف المحور أنهم يخوضون جميعاً الحرب نفسها ضد إسرائيل، ومن طريق غير مباشرة، ضد الولايات المتحدة. وبالتالي فإن التحذيرات، أو الهجمات الأميركية، لن تجبر المحور على ترك الساحة. ولن يكون في وسع الولايات المتحدة الخروج من دوامة التصعيد الخطيرة والمحتملة، إلا إذا صمتت المدافع في غزة، وتقلّص الضغط على سكانها، ورُسم مسار موثوق نحو السيادة الفلسطينية وتقرير المصير.
أكبر مخططات طهران
ولم يبصر محور المقاومة النور في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، بل تكوّن في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ومؤسس هذا المحور هو “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري الإيراني”، وقائده السابق قاسم سليماني. وأنشأ هذه الشبكة على قاعدة علاقات طهران الوثيقة بـ “حزب الله”، مستفيداً من تجارب إيران و “الحزب”، ومعاركهما ضد العراق وإسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي. وسعى سليماني، منذ البدء، إلى تأسيس شبكة قابلة للتكيف، ومتعددة القدرات، فيمكن لكل طرف من أطراف المحور العمل مستقلاً. وعلى رغم أن التدريب والذخائر مصدرها إيران، من المتوقع أن تتقن كل حلقة التكتيكات والتكنولوجيا والأسلحة على حدة.
وفي المرحلة الأولى، كان هدف المحور الناشئ الأول هو هزيمة الخطط الأميركية الرامية إلى احتلال العراق. وفي سبيل بلوغ هذه الغاية، نجحت طهران و “حزب الله” في إنشاء ميليشيات محلية قاتلت القوات الأميركية. وبعد أن سيطر تنظيم “داعش”، على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا في عام 2014، أنشئت ميليشيات مماثلة لمحاربة هذه القوى الطائفية المسلحة التي هددت نظام الأسد في سوريا، والسيطرة الشيعية على العراق. وكانت الحرب الأهلية السورية منعطفاً في سياسة المحور، إذ قاتلت فيها إيران، و”حزب الله” والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، عدواً مشتركاً. ومن خلال ذلك، عززت الدول والمجموعات هذه قدراتها العسكرية والاستخبارية وقوّت المنطق الاستراتيجي الذي يوجّه تحالفها. وفي الأثناء، وطّدت إيران علاقاتها بالمتمردين الحوثيين في اليمن، وضمتهم إلى التحالف الواسع والمزدهر اليوم، وتبنت راية “محور المقاومة”.
وطوال العقد الماضي، نشرت إيران و “حزب الله” صواريخ ومسيّرات وصواريخ متطورة في غزة والعراق وسوريا واليمن، وأجريا تدريبات لـ “حماس” والحوثيين، وأسهما في بناء صناعة حربية حوثية، أسلحتهم الخاصة، ويتجلى نجاح هذا النهج في براعة “حماس” والحوثيين في تطوير الصواريخ واستخدامها. وتدرب أطراف المحور على التعامل في مجال التواصل الإعلامي، وتلقوا عوناً على إنشاء قنوات مالية، وتعلّموا طريقة دعم المقاومة المدنية، في الضفة الغربية خصوصاً. واضطلع خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، بهذه الإنجازات، وأضاف لامركزية المحور، ومنح الوحدات المحلية وقادتها سلطة أكبر على عملية صنع القرار التكتيكي والعملياتي.
إن إيران و”حزب الله” والحوثيين وآخرين يعملون على تعزيز التحالف بين القوى في ساحة القتال الإقليمية
هذا التحالف الوليد ساعد طهران على ترجيح سعيها الطويل الأمد، والرامي إلى إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. فمنذ ثورة 1979، شددت طهران على حماية البلاد من واشنطن، والقادة الإيرانيون لا يشكّون في عزمها على تدمير الجمهورية الإسلامية. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، تحدّت إيران الجهود الأميركية الرامية إلى احتوائها، وتقييدها اقتصادياً وعسكرياً. وعملت على طرد الجيش الأميركي من البلدان المتاخمة لها وللخليج العربي، وحمل الولايات المتحدة على مغادرة المنطقة. إذاً، استفادت طهران من المحور، لأنه صرف انتباه القوات الأميركية بعيداً من الحدود الإيرانية.
وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، تعاظمت قيمة المحور الاستراتيجية في نظر طهران جرّاء عدوانية واشنطن المتزايدة. وفي عام 2018، انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عقوبات قصوى على البلاد. وفي عام 2020 أمر بقتل سليماني. وأسهمت هذه التصرفات في إقناع طهران بأنها في حاجة إلى محور من الحلفاء أكثر قوةً وتماسكاً، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج العربي، ويستطيع زيادة الضغط على واشنطن. واكتسب البرنامج النووي الإيراني أهمية ليس باعتباره ورقة مساومة في التفاوض على رفع العقوبات فحسب، بل لكونه رادعاً يمكن أن يحمي المحور من الهجوم الأميركي.
والحق أن أطراف محور المقاومة الآخرين يتبنون أهداف طهران في المنطقة، فهي تماشي مصالحهم المحلية وتراعيها. فـ “حزب الله”، على سبيل المثال، تحدوه الرغبة في حماية جنوب لبنان مما يعتبره طموحات إسرائيل التوسعية التي تمتد لتشمل مناطق في سوريا والأردن. وفي المقابل، تركز الميليشيات الشيعية في العراق على إخراج القوات الأميركية من البلاد، وتريد الانتصار في ما تراه هذه الميليشيات حرباً أهلية لم تنته بعد مع السنّة في البلاد. أما الحوثيون، فيريدون بسط سيطرتهم على كامل اليمن، وهم يضيقون ذرعاً بوقوف السعودية والإمارات العربية المتحدة في طريقهم.
يد واحدة
ومحور المقاومة هو، في نهاية المطاف، تحالف عسكري، وبالتالي فإن أعضاءه أقوى مجتمعين. وعلى رغم أن “حماس” خططت ونفذت هجوم السابع من أكتوبر، إلا أن إيران و”حزب الله” توليا تطوير قدرات “حماس”. وفي ضوء سلسلة اجتماعات عُقدت في بيروت، وحضرها كبار قادة “حماس”، و “حزب الله”، و “الجهاد الإسلامي” الفلسطيني، و “الحرس الثوري”، والميليشيات الحوثية والعراقية قبل الهجوم، من المرجح أن أعضاء المحور كانوا على علم بخطط الحركة ومؤيدين لها. وفي ما يعود إلى “حماس”، كان هدف الهجوم الأول قلب الوضع القائم الذي كان يسير ببطء، وبثبات، إلى تحجيم القضية الفلسطينية، وإعادة النضال الفلسطيني إلى صدارة السياسة العربية.
اقرأ المزيد
إيران بين ميدان الحرس وتغييب الدولة
هل تعيد إيران النظر في استراتيجيتها الأمنية بسوريا؟
إيران وباكستان تلجأن للتهدئة وعودة السفيرين
الحوثيون، البحر الأحمر والانتخابات
الحوثيون في المرمى الغربي وإسرائيل تحت مجهر “العدل الدولية”
ومن شأن إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام، على ما ترى إيران ويرى “حزب الله”، فإن توفير فائدة استراتيجية تضع إسرائيل في موقف ضعيف، وبالتالي تقليص تقدّم تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. وإلى ذلك، كانت إيران و”حزب الله” مهتمين بتوريط إسرائيل في حرب متعددة الجبهات، من شأنها أن تستهلك مواردها. وفي كلتا الحالتين، يبلغ الصراع هدفاً إيرانياً طويل الأمد. فلطالما اعتقدت إيران أن إسرائيل ستنشغل بشؤون إيران إذا لم تنشغل بشؤونها الخاصة.
ولكن النتيجة المترتبة على هجوم “حماس”، وحجم الرد الإسرائيلي وحدّته، والكارثة الإنسانية التي أعقبته، ودرجة الاهتمام العالمي، لم تكن متوقعة. والحق أن “حماس” وحلفاءها في المحور، لم يتوقّعوا نجاح هجوم السابع من أكتوبر على هذا القدر، بل كانوا يتصوّرون، على الأرجح، توغلاً خاطفاً لـ “حماس” داخل إسرائيل، ينتهي بسرعة، وبخسائر ورهائن محدودة. وكان من المفترض أن تهاجم إسرائيل غزة بعد ذلك، ولكن ليس بقوة التدمير غير المقيّدة التي هاجمت بها. فاجأ نجاح هجوم “حماس” وحجم رد الفعل الإسرائيلي، المحور، ودعاه إلى ضبط أهدافه واستراتيجيته وتعديلها. وعلى رغم أن إيران و “حزب الله” لا يريدان حرباً إقليمية أوسع نطاقاً، إلا أنهما استهدفا القوات الإسرائيلية والأميركية بالطائرات المسيّرة والصواريخ. وانضم الحوثيون إلى المعركة، فعطلوا الملاحة التجارية في البحر الأحمر. وهم فعلوا ذلك إظهاراً لدعمهم للفلسطينيين. وفي سبيل ردع الولايات المتحدة وإسرائيل عن توسيع الحرب إلى لبنان، وأعلنوا استعداد أعضاء المحور للقتال. وهم يأملون في أن يثني هذا القرار إسرائيل عن توسيع الصراع، ويمنع تل أبيب من تصعيد الحرب على الجبهة التي تختارها من غير أن تلقى رداً على جبهات المحور كلها.
وعلى هذا، شارك أعضاء المحور جميعاً في الحرب في غزة. فهم كلهم متورطون، في نظر إسرائيل والولايات المتحدة. وأدى هذا إلى تعزيز الروابط داخل المحور. والآن، يعتمد أطراف المحور بعضهم على بعض، ويريدون منع إسرائيل من إحراز نصر واضح في غزة، لأن إحراز إسرائيل نصراً في غزة، يرجّح أن تحول انتباهها إلى أطراف المحور الأخرى، بدءاً بـ “حزب الله” وانتهاءً بإيران.
الحروب الإعلامية
وفي الهجمات التي شنّتها “حماس”، في السابع من أكتوبر، كانت الكاميرات تضاهي أهميتها الأسلحة الفتاكة. ووسع “حماس”، باستخدام كاميرات “غو برو” GoPro المثبتة على المسلحين والطائرات المسيّرة تسجيل اختراقها الجدار الأمني الإسرائيلي. ونشرت مقاطع فيديو جاهزة للتداول على وسائل التواصل الاجتماعي في غضون ساعات بعد الهجوم. وسيطرت على الرواية منذ البداية. ويلاحظ أن “حماس” حافظت على المستوى العالي نفسه من الدراية الإعلامية منذ ذلك الحين. وعلى سبيل المثال، خلال وقف إطلاق النار الموقت، وتبادل الرهائن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أطلقت الحركة سراح أسراها الإسرائيليين في وسط مدينة غزة. وكانت الكاميرات جاهزة لالتقاط مشاهد ابتساماتهم ومصافحاتهم وتبادلهم التحيات مع خاطفيهم. وكانت الغاية دحض روايات السياسيين الإسرائيليين التي تصف مقاتلي “حماس” بالإرهابيين “الهمجيين” و”الحيوانات البشرية”. وصار الرأي العام، في أنحاء الشرق الأوسط، والجنوب العالمي، لا بل في الغرب، يرى الصراع نتيجةً لاحتلال دام عقوداً من الزمن، وليس مجرد رد فعل على الإرهاب الإسلامي. وهذا يؤيد، على وجه غير مباشر، النظرة المناهضة للاستعمار التي يتبنّاها المحور، ويسهم في تعاظم شعبيته في أنحاء المنطقة.
ويأمل المحور في أن تزداد شعبيته العالمية كذلك. فللمرة الأولى منذ عقود برزت القضية الفلسطينية دولياً، وهو ما يعتبره قادة المحور تطوراً مفيداً. فالاهتمام بالقضية الفلسطينية يؤدي إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة، ويفاقم الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني، والاحتلال، والفصل العنصري. ويرحب زعماء المحور بالمواجهة مع الغرب، في الوقت الذي تتعاظم فيه قوة الأفكار المناهضة للغرب وحدّتها. لذا، أدار قادة المحور رسائلهم على هذه الأفكار، فتوارت المصطلحات الدينية الفضفاضة، وهي كانت، لمدة طويلة، عنصراً أساسياً في خطاب إيران و”حزب الله”، وحلت محلها كلمات وعبارات مألوفة في أدبيات حقوق الإنسان والقانون الدولي. ومثال واضح على ذلك كان نشر الحوثيين، أخيراً، مقطع فيديو باللغة الإنجليزية، عبر منصات التواصل الاجتماعي، يعلنون فيه الحظر، في البحر الأحمر، على السفن التجارية ذات الصلة بإسرائيل، أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. وجاء في الفيديو أن هذه العمليات العسكرية “تمتثل لأحكام المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتنص هذه المادة على أن جميع الأطراف في الاتفاقية ملزمون بمنع حدوث إبادة جماعية ومعاقبة المسؤولين عن ارتكابها”. وينتهي الفيديو برسالة مفادها أنّ “الحظر ينتهي عندما تتوقف الإبادة الجماعية”. وفي 11 يناير، قصفت المملكة المتحدة والولايات المتحدة اليمن، في اليوم الذي رفعت فيه جنوب أفريقيا دعوى بتهمة الإبادة الجماعية على إسرائيل في محكمة العدل الدولية. ومرة أخرى، انتشرت رسالة، عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن جنوب أفريقيا واليمن تتخذان إجراءات ترمي إلى الحؤول دون الإبادة الجماعية. وفي الأثناء، كانت لندن وواشنطن تقصفان المنطقة من جديد، دعماً للظلم. وطوال الأشهر الثلاثة الماضية، اكتسب الحوثيون، على وجه الخصوص، قاعدة جماهيرية عالمية في صفوف “الجيل زد”، مع نشرهم مقاطع فيديو على تطبيق “تيك توك”.
وطوال العشرين عاماً من “الحرب على الإرهاب”، كان أعضاء محور المقاومة إما غير معروفين دولياً، أو يُعتبرون إرهابيين تحركهم كراهية الغرب. ومنذ السابع من أكتوبر، تمكن المحور من التعريف عن نفسه، وعلى شروطه هو، ونجح في ربط أعماله بالحركات العالمية المناهضة للاستعمار. وأحرز بالفعل نجاحاً لم يكن من الممكن تصوره من قبل. وردد المتظاهرون في لندن، هذا الشهر، شعارات مثل “يا يمن! يا يمن! اجعلنا نشعر بالفخر! بدّل مسار سفينة أخرى”.
في الهجمات التي شنّتها “حماس” في السابع من أكتوبر، ضاهت الكاميرات الأسلحة الفتاكة أهمية.
وعليه، فالمحور لا يقاتل اليوم إسرائيل والولايات المتحدة في ساحات القتال في الشرق الأوسط فحسب، بل يقاتلهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أي على منصات مثل “إنستغرام”، و”تليغرام”، و”تيك توك”، و”إكس”، وذلك في سبيل الفوز بتأييد الرأي العام العالمي. وتشير تصريحات نصرالله وخامنئي إلى أن قادة المحور ينظرون إلى الرأي العام الدولي بوصفه الجائزة الاستراتيجية الأهم على المدى الطويل. وهم يعلمون أنهم لا يستطيعون هزيمة الولايات المتحدة عسكرياً. لكنهم يأملون في خلق ضغط شعبي كافٍ لإجبار واشنطن على الانسحاب من الشرق الأوسط، والإقرار بسيادة دولة فلسطينية. وقد أعرب نصرالله، جراء ذلك، عن ارتياحه وسعادته بفكرة أن “إسرائيل صار يُنظر إليها الآن على أنها دولة إرهابية تقتل الأطفال، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي”. وتابع أنه، بسبب المنصّات هذه، انتشرت على نطاق واسع نظرة ترى أن إسرائيل “تقتل الأطفال والنساء، وتهجّر الناس، وتتحمل مسؤولية أكبر إبادة جماعية في القرن الحالي”. وأشاد نصرالله بقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على نشر رأي يذهب إلى أن الولايات المتحدة مسؤولة عمّا يحصل. وقال: “الحرب على غزة هي حرب أميركية، والقنابل أميركية، والقرار أميركي. والعالم يعرف هذا اليوم”.
بالنسبة إلى المحور، تأتي هذه الحملة الإعلامية في الوقت المناسب. ولطالما اعترفت إيران واعترف “حزب الله” بأهمية القوة الناعمة، لكنهما لم ينجحا في استخدامها للتأثير في الرأي العام. وهما أدركا هذا القصور، وصرفا العقد الماضي على تأسيس بنية تحتية إعلامية قوية وماهرة، تعمل بلغات كثيرة، ولمثل هذه الأوقات على وجه التخصيص. واليوم ينشر “محور المقاومة” مقاطع فيديو يومية تصور العمليات في ساحة المعركة، وتستعمل فيها مؤثرات الحركة البطيئة التي تسلط الضوء على الضربات المباشرة للجنود الإسرائيليين والمنشآت العسكرية. وتنشر مقاطع فيديو حوثية على منصة “تيك توك”، ويُرَوْن فيها وهم يرقصون على متن السفن التي استولوا عليها في البحر الأحمر. وينتج المحور “ميمز” [أو ميمات، وهي صور مركبة أو مقاطع فيديو قصيرة تحمل تعليقاً ساخراً] تعمّم صوراً عالمية لشخصيات المحور الرئيسة، بمن فيهم المتحدث باسم “حماس”، أبو عبيدة. وإلى ذلك، ينتج محتوى يشيد بنصرالله، ويقارن زعيم “حزب الله” برؤساء الدول العربية المتهمين بالتخلي عن فعل شيء يُذكر من أجل الفلسطينيين. وينشر هذا المحتوى جنباً إلى جنب ما تنشره وسائط الإعلام في الخارج من محتوى مؤيد لفلسطين، ويوسع نطاق تأثير المحور بطرق غير مسبوقة.
وتتحدى الحملات العسكرية، وحملات القوة الناعمة، الغرب تحدياً إقليمياً غير مسبوق. ويوجَّه التحدي إلى واشنطن أولاً. وإذا لم تنته الحرب وشيكاً، ولم تنجز خطة واضحة لإرساء تسوية عادلة للفلسطينيين، فسوف تواجه الولايات المتحدة منطقة يؤثّر الغضب الناجم عن اجتياح غزة تأثيراً قوياً في سياساتها. وتوسيع الصراع إلى أبعد من غزة، سواء بادرت إليه إسرائيل في لبنان، أو الولايات المتحدة وحلفاؤها في اليمن، لن يؤدي إلا إلى تأجيج هذا الغضب، وإثارة الرأي العام، وإلى ترسيخ نفوذ المحور. ولا يسع واشنطن أن تقلب هذا المسار إلا من خلال التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة، ثم البدء بعملية سلام ذات صدقية وتؤدي إلى تسوية نهائية.
لقد استغرق إنشاء “محور المقاومة” وقتاً طويلاً. ووفرت له الحرب في غزة فرصة لشن هجوم عسكري وإعلامي على الغرب. وفرض المحور نفسه، على المستوى المحلي، بأسلحته وجنوده، وعلى المستوى العالمي برسالته ومهمته. وغيّرت الحرب بين إسرائيل و”حماس” منطقة الشرق الأوسط، وأثارت غضباً شعبياً هائلاً. وقد يؤدي العداء تجاه الغرب إلى إشعال شرارة تطرف جديد، وعدم استقرار سياسي. وغيّرت الحرب افتراضات حكام المنطقة، وفيهم أولئك الذين تعتبرهم واشنطن حلفاء لها، في شأن أمنهم وعلاقاتهم بالغرب. وليس في مستطاع الولايات المتحدة تفكيك المحور بسهولة، ولا التغلب على الأفكار التي كانت سبباً في نشأته. والسبيل الوحيد لكبح جماح هذا المحور هو إنهاء الحرب في غزة، والتفاوض على تسوية حقيقية وعادلة للقضية الإسرائيلية- الفلسطينية. ومن غير هذه الإجراءات، سيستمر المحور قوةً إقليمية، ويتعين على الولايات المتحدة التعامل معه لسنوات كثيرة مقبلة.