منذ هجوم حركة “حماس” على إسرائيل سعت إيران إلى تصوير ذاتها على أنها متفرج، وغير منخرطة عسكرياً في ساحات غزة ولبنان واليمن، بل تتقاطع ظاهرياً فقط في التعبير عن دعم ما يسمى بمحور المقاومة، والتحركات الدبلوماسية التي من شأنها أن تؤدي إلى وقف إطلاق النار.
لكن الرد الإيراني جاء على إعلان واشنطن تشكيل تحالف عسكري باسم “حارس الازدهار” رداً على هجمات الحوثي في البحر الأحمر ووصفه بأنه “منطقة نفوذ” إيرانية، ليثبت أن على رغم محاولات طهران تأكيد ابتعادها عن عمليات الحوثيين، فإن الضربات الموجهة للسفن لا تخدم إلا المساعي الإيرانية في أكثر من جهة.
لعل الجهة الأولى، خدمة سياسة طهران نحو توسع النشاط البحري، والثانية الترويج وتصدير الأسلحة الإيرانية، ثم الثالثة عبر محاولات استعراض القوة في مواجهة الإقليم والمجتمع الدولي.
أولاً… خطة إيران للتوسع البحري
في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أخطر المرشد الإيراني علي خامنئي السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية أي حكومة إبراهيم رئيسي بالسياسات الجديدة التي تنتهجها طهران والتي تهدف إلى الارتقاء بالخطط البحرية إلى مستوى جديد.
وعملت إدارة رئيسي على تقديم خطة شاملة مبنية على السياسات الجديدة، بما في ذلك تقديم مشاريع القوانين، والموافقة على اللوائح، والإجراءات التنفيذية اللازمة، بمساعدة البرلمان والقضاء والمنظمات المسؤولة خلال فترة ستة أشهر.
ركزت توجيهات خامنئي على أهمية المحيطات والبحار والاستفادة منها لتطوير التكنولوجيا والعلوم واتخاذ إجراءات فعالة لضمان أن يكون لإيران موقع إقليمي ودولي مهم في البحار والمحيطات في جميع أنحاء العالم. وجرى الإعلان عن السياسات الجديدة للنشاط البحري الإيراني، وهي، صنع سياسة بحرية متكاملة وتقسيم وطني للعمل وإدارة بحرية رشيقة وفعالة لتعزيز القوة البحرية في المنطقة وفي العالم.
وتتمحور الخطة حول توسيع الأنشطة الاقتصادية البحرية وإنشاء مراكز تجارية في السواحل والجزر. والهدف هو الاستفادة من الاقتصاد القائم على المحيطات بمعدل هائل، وتسهيل وتنمية الاستثمارات المحلية والأجنبية من خلال إنشاء البنية التحتية اللازمة، وصياغة خطة تنمية بحرية شاملة تأخذ في الاعتبار الزراعة والسياحة والتجارة في السواحل الجنوبية لإيران.
وينبغي أن تكون هذه الخطة منفذة في غضون عام، وتعظيم وتحسين استخدام قدرات النظام البيئي البحري وموارده ومحمياته مع منع التدمير البيئي من قبل الدول الأخرى، وتوفير وتعزيز رأس المال البشري والإدارة الملتزمة، والعمل على وجود دعم كاف للأنشطة البحثية والعلمية في مجال البيئة البحرية والتكنولوجيا، وتوسيع التعاون الاقتصادي والتجاري مع دول الجوار، وكذلك الدول الأخرى، بهدف تطوير القدرات البحرية للبلاد والمشاركة في المشاريع الدولية والإقليمية، وزيادة حصة الدولة في النقل البحري والعبور من خلال إنشاء وتعزيز شبكة مواصلات مشتركة، ودعم المستثمرين المحليين من خلال المشاريع التنموية وكذلك الناشطين الاقتصاديين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مختلف المجالات بما في ذلك الصيد والزراعة والسياحة.
مصر وتحديات البحر الأحمر (1)
في السنوات الأخيرة، ركزت إيران بشكل كبير على توسيع وجودها البحري، وخلال سبتمبر (أيلول) الماضي أطلقت البحرية التابعة للحرس الثوري سفينة سليماني، وهي الأولى من بين ثلاثة طرادات صواريخ جديدة. وأعلن قائد القوة البحرية في الحرس الثوري علي رضا تنجسيري، أن السفن ستزيد من المدى التشغيلي للبحرية خارج الخليج العربي إلى مسافة تصل إلى 9000 كيلومتر، وهو ما سيغطي المحيط الهندي بأكمله وصولاً إلى كيب تاون.
وخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلنت إيران أن قواتها البحرية تخطط لنشر قوات بشكل دائم في محيطات مختلفة، وأزاحت الستار أيضاً عن خطط لإنشاء قاعدة بحرية في القارة القطبية الجنوبية، فيما أكد تنجسيري تشكيل وحدة باسيج بحرية يمكنها تنفيذ عمليات عبر السفن الثقيلة والخفيفة حتى شواطئ تنزانيا.
وأمام توترات الحوثيين وتشكيل واشنطن تحالف “حارس الازدهار”، دخلت السفينة الإيرانية “البروز” إلى البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، للإشارة إلى وجود طهران البحري في المنطقة، ولكن السؤال هل حقاً إيران لديها القدرات العسكرية التي تمكنها من التحكم في تلك الممرات المهمة أم إن قدراتها فقط هي التهديد بإغلاق مضيق هرمز وتوظيف الحوثيين في الممرات الأخرى؟
ثانياً… إيران وترويج صناعتها العسكرية
إن إيران مهتمة بتصدير صواريخها الباليستية على رغم الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة ضمن القرار 2231، وفي أكتوبر الماضي رفعت الحظر الأممي عن تصدير إيران للأسلحة، وتعد المعركة الجارية في البحر الأحمر من خلال هجمات الحوثيين باستخدام أسلحة إيرانية هي أهم ميدان لاستخدام تلك الأسلحة وتطويرها وتعديلها من جهة والترويج لها على غرار التسويق للمسيرات الإيرانية التي استخدمت في الحرب الروسية – الأوكرانية.
من هنا استعدت إيران لمرحلة بيع وتصدير الأسلحة غير التقليدية التي تمتلكها، إذ أصدرت مواد ترويجية باللغة الإنجليزية للعديد من تصميمات الصواريخ الباليستية، وقدمت تسميات تصدير جديدة للعديد من الأنظمة وأعلنت عن الأنظمة التكتيكية باعتبارها متاحة للتصدير.
بدوره، قال نائب وزير الدفاع الرئيس السابق لمنظمة الصناعات الفضائية الجوية، العميد محمد مهدي فرحي، إن إيران لديها العديد من العملاء المحتملين لصواريخها. ومن ثم فعلى رغم نقل طهران صادراتها لوكلاها الإقليميين إلا أنها تستعد لمرحلة ما بعد انتهاء القيود الصاروخية التي يفرضها القرار 2231 لتحفيز الصادرات الإيرانية من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز خارج المنطقة، وتعد مواجهات الحوثيين ضد واشنطن وبريطانيا مسرحاً ترويجياً للصادرات الإيرانية.
ثالثاً… استعراض القوة
مع استمرار هجمات الحوثيين، أصدر التحالف الدولي المشكل للحفاظ على الأمن البحري وحرية الملاحة تحذيراً للسفن العاملة في منطقة البحر الأحمر، ويأتي هذا التحذير بعد سلسلة من الاستفزازات والتهديدات من قبل المتمردين الحوثيين في اليمن للشحن في المنطقة.
وتستفيد إيران والحوثيون من جعل الاقتراب من باب المندب مجالاً للتهديدات فمن جهة تحاول طهران استعراض قدرتها على توظيف هذه الميليشيات اليمنية لإحداث اضطرابات تؤثر في حركة الشحن والملاحة العالمية ومن ثم ارتفاع أسعار النفط والغاز وتكلفة النقل والتأمين بشكل عام مما يؤثر في التجارة العالمية بعد تعافي الاقتصاد العالمي من أزمة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، ومن ثم ظهور موجة جديدة من التضخم.
لذا تحاول إيران استعراض قدرتها على التأثير في التجارة العالمية، وتوظيف هذا الضغط كورقة للمساومة وابتزاز واشنطن في مفاوضات جديدة تحصل منها على مكاسب اقتصادية وسياسية. ومن جهة أخرى تحاول إيران إبراز دور وكلائها في التأثير في إسرائيل والأمن الإقليمي من جهة ومن حجز مقعد لطهران على مائدة المفاوضات والتسويات السياسية المقبلة بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة.
إن توظيف إيران للاضطرابات في الممرات المائية والملاحية ليس بالجديد، فكثيراً ما هددت بالتأثير في حرية المرور عبر الخليج العربي. كما إن توترات البحر الأحمر هي مؤشر إلى سعي إيران لإبراز القوة البحرية خارج منطقة سيطرتها وهي مضيق هرمز إلى الخليج العربي وخليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر.
فالبحر الأحمر يعد طريقاً مهماً لإيران من أجل تهريب الأسلحة إلى الجماعات في غزة وسوريا، وتسعى طهران إلى الحفاظ على وجود بحري دائم في المنطقة، نظراً لأهمية مضيق باب المندب لشحنات النفط والتجارة العالمية، ومن ثم إبراز أن لديها قدرة على تعطيل الشحن من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط، عبر الحوثيين.
ففي عام 2015، حينما استولى الحوثيون على جزيرة بريم الاستراتيجية في المضيق، أعلن قائد البحرية الإيرانية حينها أن قواته انتشرت في شمال المحيط الهندي وخليج عدن وهذا الوجود سيستمر إلى الأبد، لذا فإن اهتمام طهران المتزايد بتوسيع نفوذها في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر كوسيلة لتأمين قوتها الإقليمية.
الواضح أن سياسات خامنئي المعلنة للتنمية والاستثمار وتوسع النشاط البحري ما هي في الواقع إلا وسيلة للاستفادة من موقع إيران في الشرق الأوسط لتوظيف تلك الممرات البحرية كوسيلة لتعطيل شحن النفط وفتح الطريق أمام طهران لمسرح جديد للعمليات في حالة نشوب حرب مع جيرانها.