جبهات إيران المفتوحة تحتاج إلى تفاوض دوليّ… لا يشمل غزّة

جبهات إيران المفتوحة تحتاج إلى تفاوض دوليّ… لا يشمل غزّة

بات السؤال عمّا إذا كان “اليوم التالي” في غزة ممكناً مع تعدّد الجبهات المفتوحة تحت عنوان نصرة غزة، وفي ظلّ غياب أيّ تصوّر لما بعد الحرب عند القيادة الإسرائيلية سوى الحلّ الأمنيّ المبنيّ على جعل القطاع غير قابل للحياة.
ليس هناك “اليوم التالي” في غزة بالمفهوم الإسرائيلي للحرب الدائرة على القطاع، فيما الدول الغربية التي تردّد، إعلامياً، لازمة حلّ الدولتين، تخوض اشتباكاً إعلامياً أيضاً مع بنيامين نتانياهو حولها. فهو يمتنع مع حلفائه المتطرّفين الدينيين في الحكومة عن أيّ بحث في هذا الخيار حتى لو كان لمراعاة حاجة إدارة الرئيس جو بايدن إلى الترويج الشكليّ له.

لا وجود لليوم التالي
في كلّ الأحوال باتت واشنطن نفسها منشغلة عن اليوم التالي في غزة، ولازمة حلّ الدولتين، بتداعيات الحروب المفتوحة التي تفرّعت عن الحرب ضدّ غزة، بمبادرة من أذرع إيران في المنطقة، بحيث صار وقف هذه الحروب، أو على الأقلّ خفض احتمالات تصاعدها يحتاج إلى تسويات ومفاوضات على الصعيد الإقليمي لاستعادة بعض الاستقرار في الإقليم، بصرف النظر عن الحلول للحرب على غزة.
كان لافتاً تقرير “نيويورك تايمز” أمس من القدس عن أنّ حديث “اليوم التالي” سقط لسبب بسيط هو أنّه “لن يكون هناك خطّ فاصل واضح بين الحرب والسلام في غزة، حتى إذا جرى التوصّل إلى حلّ ما بالتفاوض”. فإسرائيل واضحة في أنّها لن تسلّم أمن حدودها مع القطاع لأيّ جهة، وقيادتها العسكرية ستحتفظ بحقّها في دخول جيشها مناطقه والخروج منها بناء على معطياتها الاستخبارية لفترة طويلة مقبلة، حتى بعد أن تنسحب.
نسبت الصحيفة إلى آرون ميلر الدبلوماسي الأميركي السابق قوله إنّ نظرية “اليوم التالي” يجب أن تذهب “إلى التقاعد لأنّها مضلِّلة وخطيرة”. وميلر كان في الفريق الأميركي لمفاوضات السلام في عهدَي جورج بوش الأب وبيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة.

باتت واشنطن نفسها منشغلة عن اليوم التالي في غزة، ولازمة حلّ الدولتين، بتداعيات الحروب المفتوحة التي تفرّعت عن الحرب ضدّ غزة

الحزام الأمنيّ… وتفاوض على الرهائن
المقصود بهذا الكلام أنّ ما تقوم به إسرائيل حالياً من تدابير لإقامة حزام أمني في غزة يشمل تجريف الأراضي الزراعية وغيرها ونسف آلاف الأبنية الواقعة على طول 40 كيلومتراً وعرض كيلومترين في القطاع هو إحدى وسائل الحماية الأمنيّة لمستوطنات غلاف غزة.
خلافاً لكلّ أنواع التسريبات عن أفكار تُطرح هنا وهناك، ليست سوى تمنّيات، من نوع المبادرة التي طرحها الاتحاد الأوروبي، فإنّ التفاوض ما زال محصوراً بصفقة الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين على مدى أسابيع والأسرى الفلسطينيين الذين تضاعف عددهم نتيجة الاعتقالات في الضفة الغربية، لكن على مدى أسابيع، مقابل هدنة إنسانية تفرج إسرائيل بموجبها عن المساعدات الإنسانية التي تتّهمها الأمم المتحدة والدول العربية بعرقلة دخولها إلى القطاع.
يتزامن هذا التفاوض مع استمرار القصف المركّز على منطقتَي خان يونس ورفح لأهداف منها:
– الانتقام من المدنيين بسبب استمرار مقاتلي “حماس” في إلحاق الخسائر بالجنود والضبّاط في شمال ووسط القطاع. فالقصف يطال المناطق التي كان الجيش طلب من النازحين الانتقال إليها باعتبارها آمنة. وما زال قادة الجيش يعتبرون أنّ استهداف المدنيين يحمل قادة “حماس” على خفض مطالبهم في مفاوضات تبادل الأسرى والرهائن. سبق لنتانياهو أن قال: “لا شيء سيوقفنا، لا لاهاي ولا غيرها”، في استهزائه بالدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضدّ جريمة الإبادة الجماعية في غزة، والتي قبلت المحكمة أمس النظر فيها رافضة طلب الدولة العبرية ردّها.
– اعتقاد قادة الدولة العبرية وأجهزة الاستخبارات كما تنقل عنهم جهات غربية أنّهم اقتربوا من محاصرة القياديين في “حماس” الذين يقودون المعارك ويحتفظون بعدد من الرهائن الإسرائيليين معهم للاحتماء بهم.
– يريد القادة الإسرائيليون توجيه ضربة للوجود الفلسطيني في غزة تبقى آثارها عليه لعقود مقبلة.

لهذه الأسباب يرفض بنيامين نتانياهو وقف النار. بات التركيز على محاولة إلقاء القبض على قياديين من الحركة، تعويضاً عن عجز الحملة العسكرية عن تحقيق الأهداف المعلنة للعملية العسكرية، أي القضاء على “حماس”، وإطلاق الرهائن. ولذلك بات إخراج قادة “حماس” من غزة بديلاً عن النجاح في تحقيق الهدفين المعلنين للحرب، وقد طرحت تل أبيب في التفاوض مسألة خروج هؤلاء القادة من غزة، لاعتقادها أنّ هذا الخروج يشكّل نصراً معنوياً كبيراً مقنعاً للإسرائيليين الذين يهاجمون نتانياهو لفشله.
في اعتقاد دبلوماسي خبِرَ العقل الإسرائيلي أنّ تل أبيب قد تكتفي بالآتي من أجل أن تقبل بوقف إطلاق النار:
– إلقاء القبض على يحيى السنوار أو محمد الضيف.
– إخراجهما مع غيرهما من القادة من القطاع، وهو ما رفضته قيادة الحركة في الاتصالات حول صفقة التبادل الجديدة، حيث طُرحت فكرة انتقال القيادة الحمساوية إلى الجزائر.
– اغتيال السنوار أو الضيف أو غيرهما من المكتب السياسي. وفي رأي الدبلوماسي إيّاه أنّ مطلب إخراجهما من غزة يهدف إلى تسهيل ملاحقتهما حيث يكونان في الخارج، لأنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لديها خبرة عالية في التعقّب والملاحقة، بدليل ما أنجزته في الوصول إلى أماكن الضباط النازيين لجرّهم إلى المحاكمة بتهمة المحرقة، فضلاً عن نجاح هذه الأجهزة في اغتيال الشيخ صالح العاروري في ضاحية بيروت، وفي استهداف القياديين في الحزب في الجنوب. كذلك الأمر في العراق وسوريا.

تشتيت الانتباه عمّا بعد الحرب
إلا أنّ الانكفاء الضمني لحديث “اليوم التالي” في غزة لا يتوقّف فقط على الجموح الإسرائيلي. فلوحة المشهد الإقليمي والتصعيد الذي طبع الأسابيع الماضية من جبهة جنوب لبنان إلى تهديد الملاحة البحرية وإعاقة سلاسل الإمداد من البحر الأحمر وقناة السويس، إلى اليمن والعراق وسوريا، هي عوامل جعلت قضية غزة في مرتبة ثانية. وعلى الرغم من أنّ مراقبين يعتقدون أنّ الموقف العربي يستفيد من الضغوط العسكرية على إسرائيل وأميركا لتليين موقفَيهما حيال غزة والقضية الفلسطينية، جرّاء المشاغلة التي تمارسها إيران على الجبهات المفتوحة عن طريق أذرعها، فإنّ واقع الحال أفضى إلى الآتي:
– في لبنان تتركّز الجهود الدولية على خفض احتمال توسّع الحرب بتطبيق القرار الدولي الرقم 1701 وانتخاب رئيس للجمهورية. ولطهران رأيها في ما آلت إليه الأزمة اللبنانية والتطوّرات الجنوبية. والتصعيد الإسرائيلي من الجبهة الشمالية يصرف الأنظار عن مجازر غزة بحجّة حفظ أمن مستوطني الجليل الأعلى المحتلّ. وفي كلّ الحالات لطهران رأيها في ما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
– في ما يتعلّق بالبحر الأحمر تمكّن مجلس الأمن من إصدار القرار الدولي الرقم 2722 في 10 كانون الثاني الجاري، الذي يدين هجمات الحوثيين على السفن التجارية، واضطرّت روسيا والصين إلى الاكتفاء بالامتناع عن التصويت عليه بدل الفيتو، لضمان أمن الملاحة الدولية.

في العراق بات الحديث عن حاجة إلى تفاوض على انسحاب أميركي، ولو جزئيّاً، بطلب عراقي، وهو ما يخفي أيضاً سعياً إلى صفقة ما حول تقاسم جديد للنفوذ بين واشنطن وطهران.
– في سوريا يعود البحث في هويّة الجهة التي يمكن أن تملأ الفراغ إذا انسحب الجيش الأميركي من قاعدة التنف وشرق الفرات: الجيش الروسي أم الميليشيات الإيرانية أم القوات التركية أم قوات نظام بشار الأسد، مع العلم أنّ لإسرائيل كلمتها في هذا الميدان؟
الخلاصة أنّه غاب الحديث عن القرار 181 الصادر عن مجلس الأمن في عام 1947 بإقامة دولة فلسطينية، وعن تطبيق القرارات الدولية الأخرى المتعلّقة بفلسطين