المغرب يسعى لمواكبة التحول الرقمي بتقنين العمل عن بعد

المغرب يسعى لمواكبة التحول الرقمي بتقنين العمل عن بعد

الرباط – بدأت تجربة العمل عن بعد على أنها مجرد مرحلة مؤقتة واستثناء بسبب الظروف الصحية الطارئة الناجمة عن انتشار فايروس كورونا حول العالم، لكن اليوم وجد الكثيرون أن الواقع الحالي يفرض الاستمرار بهذا النهج ومتابعة العمل من البيت والاستغناء عن المكاتب.

فالعالم شهد تحولا شاملا نحو الرقمنة على كافة الأصعدة، وانتشر مفهوم “العمل عن بعد” ليس فقط بين الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا، بل تعداه إلى مختلف القطاعات الاقتصادية سواء كانت صناعية أو زراعية أو سياحية وصولا إلى التعليم والثقافة والسياسة والأدب.

وكما في كل أنحاء العالم، أصبح العمل عن بعد أحد أنماط التشغيل الجديدة الآخذة في الانتشار في المغرب، كأحد تجليات تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال، إلا أن اعتماده لم يخل من إشكالات عملية تستدعي تأطيرا قانونيا، حماية للعامل عن بعد وللمشغّل على حد سواء.

ويُعرّف المختصون العمل عن بعد بكونه العمل الذي ينجز خارج مقر أو مقرات المؤسسة أو المرافق العمومية. ويمكن أن ينجز من مسكن الأجير، أو في مكان آخر يتم الاتفاق عليه بين المشغّل والعامل عن بعد. ويتم باستعمال مختلف وسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة.

ولم يبرز العمل عن بعد بقوة في المغرب إلا بعد ظهور وباء كوفيد – 19، واعتماد الحجر الصحي العام كإجراء وقائي للحد من انتشار هذا الفايروس المعدي، لكن لم يتوقع أحد أن تفتح هذه الأزمة الصحية العالمية المرعبة آفاقا جديدة في مجالات متعددة، وتشكل بذلك طفرة ذهنية جمعية على مستوى تصور الأشياء وممارستها بما في ذلك مجال التشغيل وأنماطه.

الممارسة الميدانية للعمل عن بعد، كشفت عن إشكالات قانونية، تستدعي النظر فيها والاشتغال عليها حماية لأطراف الشغل

وكان انتهاء مرحلة كورونا، إيذانا ببزوغ واقع جديد على مستوى فرص الشغل وأنماطه وتوسع آفاقه، خصوصا مع اتساع مجالات استخدام المعلوماتية والتي شملت كل جوانب الحياة البشرية، مما جعل العديد من المؤسسات تلجأ إلى العمل عن بعد، سواء باقتراح من المشغلين أو بطلب من الأجراء أنفسهم، ولم يكن ذلك ليحدث لو لم تكن لهذا النمط إيجابيات لفائدة الطرفين.

ووجد الكثير من الشباب من ذوي المهارات المتعددة طريقا جديدا للتكسب، بفضل فتح شبكة الإنترنت فرصا عديدة للعمل عن بعد، مما شكل سوقا موازية لفرص العمل على المستويين الحكومي والخاص.

ويسمح العمل عن بعد للشركات بتبني التنوع من خلال توظيف أشخاص من خلفيات اجتماعية واقتصادية وجغرافية وثقافية مختلفة، وهو من الصعب تحقيقه عندما يقتصر التوظيف على منطقة محلية معينة.

وبينت استشارة حول العمل عن بعد، أجراها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في الفترة ما بين الثامن والتاسع والعشرين من أبريل 2022، من خلال المنصة الرقمية التشاركية “أشارك”، أن 81.6 في المئة من المشاركين (بلغت مجموع التفاعلات 27638 منها 1326 إجابة)، أشاروا إلى أن العمل عن بعد مكنهم من توفير الوقت والمال المخصصين للتنقل.

في حين، اعتبر أكثر من نصف المشاركين أن العمل عن بعد ساهم في التقليص من نسبة توترهم ومكنهم من بلوغ استقلالية أكبر في تدبير المهام المناطة بهم والحصول على تركيز أفضل.

وتوقع أغلب المشاركين (89 في المئة) أن يفرض العمل عن بعد نفسه كتوجه جديد للعمل في المغرب، فيما رأى 64.4 في المئة منهم أن العمل عن بعد يجب أن يمارس بالتناوب مع العمل الحضوري.

العمل عن بعد يسمح للشركات بتبني التنوع من خلال توظيف أشخاص من خلفيات اجتماعية واقتصادية وجغرافية وثقافية مختلفة

ورغم إيجابيات هذا النمط من العمل، فإنه لم يخل من سلبيات سجلها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقريره، حيث اعتبر 61 في المئة من المشاركين أن ساعات العمل غير المحددة تشكل إحدى السلبيات التي تعيق العمل عن بعد، يليها تداخل الحياة الشخصية والمهنية (50 في المئة)، بينما أشار 81 في المئة منهم إلى أنهم تحملوا تكلفة الربط بشبكة الإنترنت من أجل القيام بالعمل عن بعد، فضلا عن سلبيات أخرى مرتبطة بالتأطير والتوجيه (26.5 في المئة)، والشعور بالعزلة عن بيئة العمل (26.2 في المئة).

ويبدو جليا أن الممارسة الميدانية للعمل عن بعد، كشفت عن إشكالات قانونية، تستدعي النظر فيها والاشتغال عليها من خلال البحث في سبل تنظيم هذا النوع من العمل حماية لأطراف الشغل.

وفي 2020، صرح الكاتب العام بوزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أحمد لعمومري بأن الاضطراب الناجم عن انتشار فايروس كورونا مكن من تسريع التحول الرقمي للإدارة، كما شكل فرصة ملائمة للتفكير بشأن طرق ومقاربات وإستراتيجيات جديدة، قائلا “نأمل في التوفر على قانون يواكب هذا التحول الرقمي”.

وأوضح أحمد بوهرو، الخبير في العلاقات المهنية وتشريع الشغل، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن تشريع الشغل الحالي المتمثل في مدونة الشغل ونصوصها التطبيقية، وفي قانون حوادث الشغل، يقتصر على تقنين علاقات الشغل وظروف العمل الخاصة بالعمل الدائم والقار، والتشغيل المؤقت، لكنه لم يتمكن إلى حد الآن من بسط مداه ليشمل مختلف الأشكال الجديدة للتشغيل والتي تعتبر أشكالا لا نمطية مثل العمل عن بعد، والعمل لبعض الوقت، والعمل عبر المنصات، والعمل شبه المرؤوس، وغير ذلك.

ولفت بوهرو، وهو صاحب العديد من المؤلفات في مجال تشريع الشغل والعلاقات المهنية، إلى أن التشريع الحالي لا يمنع القيام بالعمل عن بعد بصفة دائمة أو مؤقتة وذلك وفق مبدأ سلطان إرادة الطرفين المتعاقدين، كما أن جل المقتضيات القانونية، سواء تلك المتضمنة في قانون الالتزامات والعقود أو في مدونة الشغل، قابلة للتطبيق على علاقات العمل عن بعد.

لكن ممارسة العمل عن بعد، في ظل الإطار القانوني الراهن، تطرح عدة إشكاليات، تتمثل أهمها، وفق الخبير بوهرو، في وضع تعريف للعامل عن بعد وتمييزه عن باقي الفئات المهنية المشابهة، وتحديد الأشغال التي يمكن إنجازها في إطار العمل عن بعد، وغياب إطار قانوني (عقد العمل عن بعد) ملائم يحدد بدقة شروط وظروف التشغيل عن بعد، ووضع قواعد خاصة بالصحة والسلامة في العمل عن بعد، وتحديد كيفية مراقبة أداء العامل عن بعد، وتحديد الأوقات المرتبطة بالعمل والتي يمكن خلالها اعتبار الحوادث التي يتعرض لها العامل عن بعد حوادث شغل.

وأضاف الخبير المغربي أن من بين هذه الإشكالات أيضا، تحديد الأوقات التي لا يمكن خلالها لإدارة الشركة ربط الاتصال بالعامل عن بعد لتفادي إزعاجه أثناء وقته الحر، وتتبع الحالة الصحية للعاملين عن بعد، وحماية المعطيات الشخصية للعامل عن بعد والصور الخاصة بمقر عمله داخل منزله في حالة استعمال وسائل الاتصال عن بعد، وتقنين أساليب التفتيش والمراقبة، وإقرار مبدأ المساواة في الأجور والمهنة بين العمال عن بعد والعمال المشتغلين حضوريا.

ويرى بوهرو أن هذه العناصر المرتبطة بمختلف مظاهر علاقة الشغل في حالة العمل عن بعد، يمكن أن تقنن سواء في إطار قوانين خاصة أو ضمن بنية مدونة الشغل أي في مجال تشريع رسمي، كما يمكن تأطيرها في إطار قانون شغل تعاقدي أي بواسطة اتفاقية شغل جماعية إطارية تبرم بين المنظمات المهنية للمشغلين والنقابات العمالية الأكثر تمثيلا.

وفي الوقت الذي يسعى فيه المغرب بنظرة استشرافية لتقنين العمل عن بعد، يواصل عمالقة التكنولوجيا تقديم المزيد من المنتجات عالية المستوى للمواءمة بين العمل من المنزل وفي المكتب.

ففي أواخر أغسطس 2021، أطلقت فيسبوك منصة “هورايزن ووركرومز” التي تحدث قاعة اجتماع على الإنترنت ينضم إليها المشاركون على شكل شخصيات افتراضية مع استخدام خوذات “أوكولوس”. أما غوغل، فقد طرحت من جهتها “سيريز وان”، وهي رزم أدوات متطوّرة جدّا لتنظيم اجتماعات تتيح التوفيق بين لقاءات حضورية (بحضور عدّة أشخاص فعليا في القاعة) وأخرى عن بعد.

العرب