بات إقليم كردستان العراق أكثر من أي وقت مضى ساحة مباحة لنيران القصف الإيراني والتركي المتكرر، في ظل أخطار من فقدانه لما تبقى من مكتسبات في الملفين الأمني والاقتصادي كان حققها طوال العقود الثلاثة الماضية، فيما لا تزال الجهود الأميركية تواجه صعوبات في رأب الصدع بين الحزبين الكرديين الحاكمين المنقسمين على طرفي نقيض، مما يعطي صورة مبهمة حول مستقبل الإقليم المقبل على جملة من التحديات، وسط مشهد جيوسياسي شديد التعقيد.
مقتل رجال أعمال كردي شهير في أربيل بعد تعرض منزله لوابل من الصواريخ الباليستية الإيرانية منتصف الشهر الجاري كانت بمثابة رسالة عدها الحزب “الديمقراطي” الحاكم بزعامة مسعود بارزاني تهديداً لعصب اقتصاد ساحة نفوذه تحديداً، بخاصة أن القصف جاء في خضم هجمات شبه يومية تشنها ميليشيات عراقية موالية لطهران بواسطة طائرات مسيرة على القاعدتين الأميركيتين في مطارات أربيل منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أحدها طاول هدفاً على مقربة من مقر إقامة بارزاني، في إطار تداعيات الحرب المشتعلة بين إسرائيل وحركة “حماس”، كما أن هذا الهجوم يعد الثاني من نوعه منذ قصف منزل رجل الأعمال في مجال النفط باز البرزنجي في مارس (آذار) 2022.
وتلقى الإقليم ضربة أخرى الخميس الماضي عندما تعرض حقل “كورمور” الغازي الذي تديره شركة “دانة غاز” الإماراتية في منطقة جمجمال التابعة لمحافظة السليمانية إلى هجوم من مجهولين أدى إلى تعطيل شبكة الكهرباء الوطنية لساعات عدة، في موازاة الإعلان عن إسقاط طائرة مسيرة قبل استهدافها القاعدة الأميركية في مطار أربيل، في مؤشر إلى أن الهجمات ترتكز على ضرب عناصر الاقتصاد الكردي.
تضاد جامح
وفي خضم التداعيات وحملة أنشطة حزب بارزاني المنددة بالاعتداء الإيراني فإن أنقرة صعدت تهديداتها من تزايد نشاط حزب العمال الكردستاني المناوئ لها في نطاق نفوذ حزب “الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني، صاحب النفوذ في السليمانية وتوابعها والشريك الرئيس في حكومة بارزاني.
وتولدت هواجس من شن حكومة بارزاني هجمات جديدة على غرار القصف الذي استهدف موقعاً قرب مطار السليمانية خلال أبريل (نيسان) 2023 كان يوجد فيه قائد “قوات سوريا الديمقراطية” الموالي للعمالي، وأعقبه إعلان أنقرة تعليق رحلاتها الجوية إلى السليمانية، ثم عاودت أنقرة في سبتمبر (أيلول) الماضي استهداف مطار “عربت” الزراعي مما أودى بحياة ثلاثة عناصر من جهاز مكافحة الإرهاب.
ويعكس هذا المشهد انشطاراً كردياً بين المحورين الإيراني والتركي من خلال مواقف وردود فعل الحزبين، إذ لم يواز موقف الاتحاديين مع الديمقراطيين الذين شنوا حملة إعلامية واحتجاجات ومقاطعة للمنتجات الإيرانية كرد فعل على قصف أربيل، متهمين طهران بالعمل على تعطيل اقتصاد أربيل عبر استهداف المستثمرين، فيما يتهم الاتحاديون حزب بارزاني باتباع سياسة “الكيل بمكيالين” لعدم اتخاذه موقفاً صريحاً من هجمات الأتراك المتكررة الرامية إلى تقويض السليمانية.
ويجمع مراقبون وأوساط سياسية على أن هذا الواقع تغذيه دينامية صراع المحورين على النفوذ في الساحة العراقية، الأول يضغط لإخضاع حزب بارزاني الذي ينظر إليه كآخر مصد أمام إكمال بسط قرارها على الساحة العراقية، والثاني يعمل على كبح حزب طالباني في التمادي مع حزب العمال الكردستاني، وبالتالي تحصين نفوذه الضامن لمصلحة أمنه القومي.
صدع مترسخ
وينظر إلى واقع الإقليم القائم بكونه محصلة لتبعات إرث طويل من الانقسام مما جعل ساحته مفتوحة أمام التدخلات، وفق المحلل في الشأن الكردي كمال رؤوف الذي يوضح كيف أن “الإقليم نشأ مطلع تسعينيات القرن الماضي تحت ظرف تنافس عالمي وإقليمي، مما وفر له بيئة لتحقيق تطور في المفاصل كافة بدعم من قوات التحالف بقيادة واشنطن، ليصبح خلال فترة قصيرة نموذجاً يحتذى به، لكنه لم يستمر كثيراً نتيجة نشوب حرب أهلية بين الحزبين الحاكمين دامت نحو أربعة أعوام”.
واستدرك رؤوف، “صحيح أن الإقليم يتأثر بعامل الجغرافيا المفروض عليه، لكن من الخطأ الاتخاذ من هذا العامل مبرراً لعيوبنا، فلولا الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها قواه السياسية لكان وضعه أفضل بكثير مما هو عليه اليوم”.
ولا يزال الإقليم واقعاً تحت تأثير تبعات تلك الحرب الأهلية، وفي هذا الصدد يقول رؤوف إن “كل طرف يحتفظ بقوات عسكرية خاصة من دون دمجها في قوة وطنية موحدة، والأخطر أن تلك الحرب كانت المفتاح ليكون مباحاً لتدخلات مباشرة من قبل بغداد وأنقرة وطهران في سلطته وقراراتها”، لافتاً إلى أن “الإقليم على رغم ما يمتلكه من عناصر قوة، مثل موقعه الجيوستراتيجي ومصادر الطاقة، لكن سوء الإدارة وغياب الشفافية والفساد سببت استدامة التصدع بين القوى الكردية، مما خلق نخبة مافيوية كان من الصعوبة أن تؤمن بانتقال السلطة ديمقراطياً، لتضع الإقليم في أتون حربين غير معلنتين، داخلية ومع المحيط”.
تصعيد مواز
ورفعت أصوات سياسية وإعلامية في السليمانية سقف التوقعات حول احتمال شن أنقرة هجمات أشد على أهداف مهمة ومحددة في المحافظة، في ضوء المحادثات التي أجراها رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم كالن مع المسؤولين العراقيين في بغداد الثلاثاء الماضي، ومنهم رئيس الجمهورية عبداللطيف جمال رشيد المنتمي إلى حزب “الاتحاد”، وسبقتها صدور تصريحات معلنة من مسؤولين أتراك كبار وصفوا فيها منطقة نفوذ حزب طالباني بكونها “خطرة على الأمني القومي التركي”.
وإزاء السيناريوهات المحتملة يعتقد المحلل رؤوف “أن الدول المحيطة وعلى رغم اختلاف أجندتها تجمعها نقطة مشتركة في أنها لا تريد أن يقف الإقليم الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة على قدميه كما كان سابقاً، وقد لا يكون مستبعداً أن نشهد قريباً إضافة إلى ضغوط بغداد أن تصعد أنقرة وطهران ضغوطهما في الإقليم وباتجاهات عدة”.
ونوه إلى أن “استمرار الموقف الأميركي الداعم للكرد مهدد نتيجة تسويف الحزبين في دمج قواتهما وغضهما النظر عن المحاذير من مغبة الانقسام، بخاصة أن الأميركيين باتوا تحت ضغوط متزايدة من بغداد لسحب قواتهم، وحينها سيصبح الإقليم مثل جسد بلا روح في محيط شائك”.
تبعات فض الشراكة
وكان للمتغيرات التي طرأت على المعادلة السياسية في العراق وانشطار الحزبين على تحالفات من خارج البيت الكردي أيضاً وقع مباشر في إضعاف الثقل الكردي لمصلحة بغداد، وهو ما يؤكده المتخصص في الشأن العراقي والكردي سامان نوح “على أن الشرخ تعاظم مع فض حزب بارزاني اتفاق الشراكة مناصفة مع حزب طالباني، مما دفع الأخير إلى التقارب أكثر مع قوى تحالف الإطار التنسيقي ومن خلفه طهران، وهو ما جعل الطريق سالكاً أمام السلطة الاتحادية لفرض سياساتها في الإقليم وعلى جميع الملفات”.
وأوضح أن “ذلك انعكس أيضاً على مستوى المحيط الإقليمي، فالأتراك مثلاً لم يعودوا مهتمين كثيراً بمصالح شريكهم في الصفقات الاقتصادية (الحزب الديمقراطي) الذي كان يساعد أنقرة في فرض رؤيتها بما يتعلق بإدارة الملف السنّي وترسيخ نفوذها السياسي الاستثماري في الخريطة العراقية، بعد انتقال مفاتيح تصدير نفط الإقليم إلى يد بغداد، مما دفع الأتراك إلى التفاوض مباشرة مع السلطة الاتحادية وكذلك القيادات الشيعية الحاكمة التي لها مواقف مضادة للعمليات العسكرية التركية”.
أما المحلل شاهو قرداغي فيتفق مع الرؤية التي تعزو أهم عوامل تزايد التدخلات الإيرانية والتركية إلى الشرخ بين الحزبين قائلاً إن “استمرار إدارتين حزبيتين واقعياً يضع التجربة أمام تهديدات وتحديات وجودية، وأصبح الإقليم مثقلاً بالسياسات الخاطئة والعناد قبل أن يكون ضحية الجغرافيا، واليوم نرى كيف تفوت فرصة الدعم الغربي المقدم في التغاضي عن مشروع دمج القوات”.
اتساع في نطاق التصعيد
وفي ضوء التصعيد الإيراني لا يستبعد قرداغي أن “تصعّد أنقرة أيضاً نظراً لاتساع خلافها مع حزب طالباني الذي تتهمه بدعم حزب العمال”.
وفي هذا السياق ذكرت تسريبات أوردها موقع “شاربريس” الكردي ومقره السليمانية أن “اثنين من المسؤولين السابقين الكبار في حزب طالباني اجتمعوا في أنقرة أخيراً مع رئيس الخارجية التركي هاكان فيدان، وأن الأخير قدم للضيفين رسالة شديدة اللهجة مفادها أن بلاده لا يمكنها أن تتفرج على دعمه المتزايد لحزب العمال الكردستاني، وأن ذلك يعد تجاوزا للخطوط الحمر لدى أنقرة”، في وقت أشارت فيه صحيفة “ديلي صباح” التركية إلى أن تصريحات المسؤولين الأتراك مع تصاعد هجمات الكردستاني تؤشر إلى تصعيد جديد بين أنقرة وحزب طالباني.
ووفق رؤية نشرها الكاتب والسياسي الكردي صلاح رشيد فإن “الوضع في المنطقة عموماً يسير نحو المجهول”، موضحاً أن “معيار تمييز الحزبين بين العدو والصديق تمليه مصلحة كل محور، وهما لا يعيران أية أهمية لمصلحة الإقليم في النهاية، وحتى واشنطن فإن للكرد معها تاريخ مرير، وهي كغيرها تسعى إلى ضمان مصالحها، والكرد في هذه المعادلة لا حول لهم ولا قوة، لأن الدعم الأميركي لهم لا يتخطى كونه مصداً لكبح النفوذ الإيراني”.
وفي إطار الحلول المطروحة نبه رشيد إلى أهمية “تطوير الكرد لعلاقاتهم مع كل الأطراف المعنية، شرط مراعاة الاعتبارات التي تمليها المصالح المشتركة، وبخاصة إيران التي ينظر إليها كصاحبة النفوذ الأكبر على السلطة الفعلية في العراق، ولديها حدود مع الإقليم بأكثر من 630 كيلومتراً، وقد انعكست صلتها التاريخية مع حزب طالباني على علاقة الأخير مع القوى الشيعية، وهي تعمل على إخضاع حزب بارزاني في مقابل ضغط مماثل تمارسه أنقرة على حزب طالباني لضمه إلى حزب بارزاني في معاداة حزب العمال، وقد نرى قريباً كيف ستصيب الطائرات التركية أهدافاً مهمة في منطقة الاتحاد”.