مع استمرار امتناع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عن مناقشة ما بات يُعرف إسرائيلياً بـ “اليوم التالي للحرب”، يزداد الاهتمام الإسرائيلي الداخلي بمناقشة السيناريوهات والتصورات الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة، والتي يرصدها هنا المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار).
في هذا التقرير يقول “مدار” إن هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها من عدة نواح، منها تحوّلها إلى هدف، وليس وسيلة لتحقيق أهداف سياسية كما جرى الحروب السابقة.
وحسب التقرير، يشير الكاتب يوسي ميلمان (المعلق في شؤون الأمن والاستخبارات) إلى أن أحد أسباب تعثّر الجيش في تحقيق هدف الحرب هو أن الحكومة لم تحدد أهدافاً دقيقة وواقعية لها، بالتالي، فإن إسرائيل لا تملك أية إستراتيجية أو تصوّر لإنهائها. هذا الأمر يتعزز مع استمرار تصريحات نتنياهو بأن الحرب ستستمر عدة أشهر حتى تحقيق “النصر الساحق” مع استمرار الامتناع عن مناقشة “اليوم التالي”، لأسباب سياسية شخصية أيضاً، وهذا يتقاطع مع رغبة وزير الأمن غالانت، وقائد الجيش هليفي، اللذين يؤيدان استمرار الحرب.
إسرائيليون: الحرب في غزة لن تتوقف، بل سيتغير شكلها فقط، وهو أمر مهم من الناحية السياسية، ويخلق شرعية واعترافاً دولياً بضرورة الاستمرار حتى القضاء على “حماس”
من جهة ثانية، ينقل “مدار” عن ميلمان قوله إن استمرار غياب تصور سياسي إسرائيلي واضح لمستقبل غزة، بالتزامن مع استمرار تبني أهداف غير واقعية، يدفع إسرائيل نحو السقوط في مصيدة خطيرة متعددة الجبهات على النحو التالي:
1) حرب شاملة ومفتوحة في قطاع غزة.
2) حرب استنزاف مع “حزب الله” على حافة القتال المفتوح.
3) استمرار هجمات الحوثيين من اليمن، ومحاولة فرض حصار مائي بشكل كلي أو جزئي.
4) تزايد خطر المواجهة العسكرية المفتوحة في الضفة الغربية، واندلاع انتفاضة ثالثة، وهو ما يريده المستوطنون وممثلوهم في الكنيست.
5) تزايد خطورة ممارسة إيران الضغط على الفصائل الشيعية الموالية لها في العراق وسوريا على الانخراط المتزايد في هذه الجبهة، وتوسيع هجماتها ضد إسرائيل، وهو ما يساعدها في محاولة لإسراع الجهود من أجل الوصول إلى القنبلة النووية.
وطبقاً لميلمان، فإن هذه الحال المركبة تُضاف إليها أزمة داخلية غير مسبوقة:
1) استمرار أزمة ملف المحتجزين الإسرائيليين.
2) استمرار أزمة عشرات آلاف الإسرائيليين النازحين في الجنوب والشمال.
وكل ما سبق يجعل الحال غير مسبوقة بالنسبة لإسرائيل في تاريخ حروبها السابقة، وأدق وصف لها هو أنها في مصيدة متعددة الجبهات، ورغم وجود فرصة للخروج من هذه المصيدة، فإن هذا الأمر لا يُمكن أن يحدث ما دام نتنياهو في منصبه رئيساً للحكومة.
تشكيل اليوم التالي يتطلب نصراً في اليوم السابق
وبخلاف التوجه المُشار إليه أعلاه، يرى عاموس يدلين، رئيس سابق لشعبة الاستخبارات العسكرية- أمان، أن الانتقال إلى “المرحلة الثالثة” من الحرب يهدف لتعزيز المصالح الإسرائيلية على المستويات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية.
من جهة، فإن العمليات العسكرية بشكلها السابق الكثيف استنفدت نفسها، ولذلك، فإن الخيار الأفضل، والذي يخدم أهداف الحرب هو الانتقال إلى حرب استنزاف مستمرة لحركة “حماس” على كافة الصعد.
من جهة ثانية، إن الانتقال للمرحلة الثالثة يشمل أيضاً تسريح عدد كبير من جنود الاحتياط، وهو ما سيساعد على تقليص خسائر الجيش والخسائر الاقتصادية المترتبة، بالتزامن مع ذلك يتم إعادة انتشار/ تموضع الجيش في منطقة شمال وادي غزة، التي بدأت إسرائيل تحقق فيها سيطرة بعد أن ألحقت ضرراً كبيراً بقدرات “حماس”.
من جهة ثالثة، فإن الانتقال إلى “المرحلة الثالثة” من الحرب من شأنه أن يمنح الجيش هامشاً زمنياً طويلاً يستفيد منه في كسب مزيد من الوقت لتحقيق أهداف الحرب، كما سيوفر له مرونة في الاستعداد لمواجهة التحدي الذي يُشكّله “حزب الله”، وإمكانية اندلاع حرب شاملة.
من جهة رابعة، فإن هذا الانتقال يعزّز من القبول والدعم الذي تُبديه الولايات المتحدة ودول العالم الغربي لفكرة أن إسرائيل لن تعود إلى واقع ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأن الحرب في غزة لن تتوقف، بل سيتغير شكلها فقط، وهو أمر مهم من الناحية السياسية، ويخلق شرعية واعترافاً دولياً بضرورة الاستمرار في الحرب حتى “القضاء على حركة حماس”.
من جهة خامسة، فإن الانتقال إلى هذه المرحلة سيسمح لإسرائيل بالانخراط بشكلٍ أكبر في تشكيل الواقع المستقبلي في غزة، بالتوازي مع استمرار الإضرار بقدرات حركة “حماس” العسكرية والسلطوية، وما يجعل هذا الأمر مُلحّاً أن غياب النقاش أو التصورات في هذا الشأن قد يفقد إسرائيل “الإنجازات العسكرية الميدانية”، وتحديداً في القطاع، كذلك هذا الأمر الذي يُمكن من خلاله حشد الدعم الدولي والإقليمي الساعي أيضاً للبحث عن بديل فلسطيني لحكم حماس في غزة.
وكي تتحقق أهداف الحرب المتمثلة بإعادة الأسرى الإسرائيليين، تدمير قدرات حركة “حماس” العسكرية والسلطوية، وإعادة سكان مستوطنات “الغلاف”، وفقاً تصور يادلين، فسيتعيّن على المستويين السياسي والعسكري الاختيار بين بدائل أربعة رئيسة:
البديل الأول- “خان يونس”: يتم الانتقال من القتال الكثيف في شمال القطاع لقتال أقل كثافة وتركيزاً في خان يونس.
البديل الثاني- “الأمريكي”: تدفع الإدارة الأمريكية إسرائيل باتجاه الانتقال لتبني عملية عسكرية محددة، بعيداً عن الكثافة المُتّبعة، وتعتمد بشكل رئيس على “عمليات الإحباط المركز” من الجو، وبوحدات خاصة.
البديل الثالث- حصار في الشمال، وقتال في الجنوب: التعامل مع القطاع كمنطقتين؛ استمرار القتال في منطقة وسط وجنوب القطاع، وفرض حصار على شمال القطاع. وبالتزامن مع ذلك، سيفرض هذا الحصار على مقاتلي “حماس” الخروج من الأنفاق والاختيار بين الموت أو الاستسلام.
رغم عدم حسم النقاش في “اليوم التالي”، المعطيات الميدانية، ونوايا اللاعبين في إسرائيل، تُشير إلى أن وجهتها، حتى في أقل السيناريوهات حدّة، تحويل القطاع إلى منطقة حربية دائمة لإعادة الوضع إلى ما قبل انسحاب 2005.
البديل الرابع- إعادة إعمار في الشمال، وقتال في الجنوب: الاستفادة من الظروف التي تمت تهيئتها في مناطق شمال القطاع، والبدء بإعادة سكانها بشكلٍ تدريجي مع العمل على تحقيق استقرار عبر البدء بإعادة الإعمار فيها، تمهيداً لخلق واقع سياسي بالتعاون مع اللاعبين الإقليميين والدوليين يكون النموذج المستقبلي لكل القطاع. بالتزامن مع ذلك، تستمر إسرائيل في العمل العسكري ضد “حماس” في الجنوب.
مكاسب ومخاطر
ويرى يادلين أن كل بديل من البدائل المذكورة ينطوي على مجموعة من المكاسب والمخاطر، لذلك يقترح أن تلجأ إسرائيل لإستراتيجية استنزاف مستمرة ومتعددة الأبعاد ضد “حماس” تجمع بين الخطوات العسكرية والسياسية والاقتصادية واسعة النطاق، من خلال تبني بديل يجمع بين عناصر تخدم إسرائيل في “البديل الأمريكي” والعناصر المهمة في “البديل الثالث”، مع الاستغناء عن أية عناصر فيهما قد تستفيد منها “حماس” في إعادة بناء وتنظيم قوتها في شمال القطاع، أو تعرّض إسرائيل للضغط والانتقاد الدولي.
أما في ما يتعلق بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، فسيتعين على إسرائيل “تطويره”، وبناء عائق تحت أرضي بالتعاون مع الولايات المتحدة ومصر، وكذلك فرض سياسات مالية شديدة جداً لتجفيف مصادر تمويل الحركة.
وكل هذه الخطوات يجب أن تتم بشكل تدريجي، وبالتعاون مع واشنطن الساعية للسلطة الفلسطينية المتجددة. وإلى حين ذلك، سيتعين على إسرائيل التعامل مع “جهات محلية” لا تنتمي لـ “حماس”، أو لـ “فتح” في المناطق المسيطر عليها والعاملة بها.
ويخلص “مدار” للقول إن البدائل والتصورات المطروحة تُغطي في كليتها توجهين في ما يتعلق بالحرب، وسط مراوحة إسرائيل مكانها عسكرياً، وهو الحال الذي يتعزّز مع استمرار عدم الحسم في ما بات يُعرف بـ “اليوم التالي”. لكن،
رغم عدم الحسم في هذا النقاش، إلا أن المعطيات الميدانية، ونوايا اللاعبين في إسرائيل كذلك، تُشير إلى أن وجهة إسرائيل، حتى في أقل السيناريوهات حدّة، هي تحويل القطاع إلى منطقة حربية دائمة لإعادة الوضع إلى ما كان قائماً عليه قبل انسحاب 2005.